الثلاثاء، نوفمبر 22، 2005

صراع الكفاءة والإخلاص

على طريقة الإعانات التليفزيونية :

الإخلاص أم الكفاءة ؟؟ الكفاءة أم الإخلاص ؟؟

ايهما الأقوى والأكثر تأثيرا وإنتاجا وقوة فى العمل ، وأيهما الذى يجب أن يقدم على الاخر إذا افترضنا ان صاحب شركة مثلا أراد الاختيار بين متقدمين للعمل فى شركته ؟؟

المخلص الذى سيترك بين يديه الأموال واثقا فى أنها إن لم تزد لن تنقص ، الذى سيضحى بجهده ويتحمل عملا مضاعفا ، ووقتا إضافيا فى سبيل أن تنمو هذه الشركة ؟؟ أم الخبير المحترف الذى يعرف أقصر الطرق للوصول ، واسرعها وأغزرها مكسبا ؟؟

وإذا استحضرنا روح أطراف الصراع الوهمى ، سنجد المنحاز للإخلاص يصيح فى حماس :

بالطبع المخلص : الذى يعمل فى الشركة كأنه يعمل لنفسه ، لايبخل عليها بجهد مضاعف ، ولا بوقت سيقتطعه من راحته أو من وقت أسرته وأولاده ، ولا بمال يدعمها به ، أو يتحمل تأخر راتبه فى سبيل ان تقوم الشركة من عثرتها وكبوتها ، يجتهد فى البحث عن أفضل الحلول ، وافضل المكاسب ، يفنى نفسه فى استخلاص الأفكار والخطط ، يعتصر ذهنه تفكيرا فى حالها ومستقبلها ... كانه صاحب الشركة نفسها ، أو لربما أكثر .

سيراها بيته الثانى ، بل الأول ، بل الأول والأخير .

لكن المنحاز للكفاءة يصيح :

ومع اتفاقنا فى كل هذا عن المخلص ، لكن كل بذله – للأسف الشديد – فى الطريق الخطأ ، فإن قلة خبرته تدفعه للسير مندفعا ومتحمسا ومخلصا فى اتجاه اليسار ، من حيث أراد أن يذهب إلى اليمين .
يخطئ من حيث يريد الإصابة ، يندفع فى الاتجاه الخاطئ .. بكل حماس .. نعم .. لكنه مازال فى الاتجاه الخاطئ .

وعلى العكس ، الكفء : وإن لم يبذل جهدا إضافيا ووقتا مضاعفا ، فإن مايبذله من جهد قليل ، ووقت بسيط ، كفيل بأن يصل به إلى الأفضل دائما ، لأنه يسلك أقصر واسرع السبل للوصل إلى الغاية ، يحمل – بخبرته – نظرة محترف ، فيعرف إلى اين سيصل ، وكيف ؟؟

يعود المنحاز للإخلاص قائلا :

لكن هذا الكفء ، لا يؤمن على العمل ، قد يترك العمل فى أى لحظة يكون فيها فى أمس الحاجة إليه ، وإذا حدثت اى أزمة عابرة ، وتأخر عنه راتبه ، أو اضطره العمل إلى ساعات إضافية من العمل ، فسيتركه دون التفكير فى المصلحة العامة .. إنه إحدى الوجوه المصغرة للأنانية ، وتفضيل المصلحة الشخصية .

ثم هذه الكفاءة ، إنه لم يولد بها ، بل تعلمها واكتسبها طوال سنين من العمل ، وهذا ليس بعيدا عن المخلص الذى سيدفعه إخلاصه حتما إلى البحث عن الكفاءة ، وحتما سيصل إليها مع اجتهاده فى الوصول ، فلن نخسر سوى بعض الوقت القصير لنكسب الكفاءة المطلوبة .

لكن المنحاز للكفاءة يعترض :

ولماذا نبدأ دائما من الصفر ؟؟ لماذا لا نبدأ من حيث انتهى الآخرون ؟؟
ثم إن الأمر ، ليس اجتهادا فقط ، فالمواهب الشخصية ، والإمكانات الخاصة ، والتى لاتتوافر فى كل أحد ، ولا يحصل عليها كل من اجتهد .

ومازالت المعركة قائمة .

****

إذا كانت المعركة بهذا الاشتعال فى ذهن واحد يريد ان يعين شخصا لديه فى شركة ، تظل مهما صغرت أو كبرت عملا دنيويا .. فمابالنا لو كانت هذه المعركة مشتعلة فى مجال الدعوة إلى الإسلام ، بين أفراد وخطط الحركات الإسلامية .
فالدعوة إلى الله ، ومحاولات نشر الإسلام والتعريف به ، وتقريب الناس إليه ، وإزالة طبقات الجهل والخوف التى رسبت فى نفوس الكثير من الناس ، وبعض طبقات المثقفين ... هذا فى حد ذاته أقوى وأكثر أهمية ألف مرة من مسألة نهوض شركة أو سقوطها .

ورغم أن المعركة بشكل عام لاتحمل كل هذه الحدة ، بين إخلاص بلاكفاءة مطلقا ، أو كفاءة لايصاحبها أى إخلاص .. إلا أنه فى بعض المجالات وبعض المواقف ، وبعض الأمور ، لابد أن يحسم فيها هذا الأمر إما للكفاءة وإما للإخلاص .

فمثلا:

حين وضع خطة لبدء الدعوة ، أو لتنميتها ، أو لتحقيق مستهدفات معينة فى مكان معين فى زمان معين ، لايمكن أن يقوم بهذا مخلصون يفتقدون لكفاءة وضع الخطط ، التى تنبنى على دراسة تمت حول عناصر وظروف بعينها ، ثم توضع مستهدفات مناسبة فى مدى زمنى محدد ، مع وجود مرونة كافية للتبديل والتغيير .
إذا تصدى لهذا الأمر مخلص يفتقد مهارة وضع الخطة ، فلايمكن للإخلاص وحده أن يحقق الأمل .

****

واستدعاء الأمثلة من السيرة ، والسيرة هى التطبيق أو الخطة التنفيذية للمنهج الإسلامى المنزل من عند الله ، لايحده الحصر .

فيستحيل تقريبا أن تجد موقفا احتاج لأهل الذكر ، الذين هم اهل الخبرة واصحاب الكفاءة فى هذا ، إلا واستدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستشارهم .. وصلت فى موقف الهجرة إلى الاستعانة بمشرك خبير بالطريق .

وما تحرك النبى صلى الله عليه وسلم ، إلا بخطة ، فى أسلوب يحمل فى جوفه رفض اندفاعة المخلص الغير محسوبة أو التى لايحكمها العقل البصير .

ولولا أن المقام لايتسع ، لسردنا بالتفصيل عبقرية خطة الهجرة ، وعبقرية خطة غزوة بدر فى اختيار المكان ، والتقدم بعد بئر بدر ، وغزوة أحد ، فى الاحتماء بالجبل ، ثم بالرماة ، والخطة الأكثر عبقرية فى تاريخ الإسلام والتى حمى الله بها المسلمين من الاستئصال ، فى غزوة الأحزاب ، وهى فكرة الخندق ، وغيرها من البعوث والسرايا التى كانت تستأصل فتنا كفتن خالد بن سفيان الهذلى أو كعب بن الأشرف ، وكلها يظهر منها ان الإخلاص وحده لم يعتمد ( وإن كان مهما ، وفى غاية الأهمية ) ، وبالنظر فى سير المعارك ، نجد أنه يستحيل أن يستطيع الإخلاص وحده تحقيق ما حدث ( مع إيماننا بأن الله صاحب الفضل فى كل هذا ، لكن الله أمر بالأخذ بالأسباب ، ووضع فى الكون القوانين التى تسيره ) .

ومما لايليق ابدا ، أن يعرض الإسلام وبطولات الإسلام على أنها كانت إخلاصا فقط ، وهمة تجوب السحاب فقط ، دون أن يتم التعرض لعبقريات الأخذ بالأسباب ، ووضع الخطط ، وتوفيق المصاعب ... وبرأيى أن هذا أحد اسباب اليأس الجزئى الذى يتجلى فى قول بعض الناس ( ياعم ده النبى .. دول الصحابة ) ، لأن فهمهم أنهم انتصروا ببركة إيمانهم فقط ، دون أن يعرفوا كيف أخذوا بالأسباب .

****

مسألة الكفاءة والإخلاص ، هى بالضبط مسألة الهواية والاحتراف .

فحتى البطولات الرياضية ، تنظم المسابقات مع التفرقة بين مسابقات الهواة ومسابقات المحترفين .

والفارق المعروف بين الهاوى والمحترف ، أن الهاوى – فى أى مجال – هو ممارس له ، عن حب وتحمس ، لكنه لايحظى بنفس خبرة ومهارة المحترف الذى قد لايبذل من الجهد ما يبذله هذا الهاوى ، لكنه يعرف كيف ومتى يصل إلى مايريد بأقل مجهود .

وهذا واضح فى كل مجال ، الرياضة ، والغناء بتقسيماته المختلفة من تلحين وتوزيع وتأليف ، وكذلك التصوير الفوتوغرافى والفيديو ، وكذلك التمثيل بكل تقسيماته من تصوير وإخراج وتأليف وإضاءة و .... إلخ .

دائما ، المحترف يستطيع تنفيذ المطلوب بمهارة وخبرة ، وإن لم يبذل كثير جهد .. بينما الهاوى ، لايعطى نفس قوة النتائج ، وقد يكون باذلا أضعاف ما بذل المحترف .

نفس موضوع الكفاءة والإخلاص ، بالضبط .

****

من أوضح المجالات التى اعتمدت فيها الحركات الإسلامية على الإخلاص فقط ، مجال الفن الإسلامى .

ومع يقينى أن الموضوع اكثر اشتباكا ، والعوامل أكثر تعقيدا من مسالة الإخلاص والكفاءة فقط ، وتمتد إلى اختلافات فى الآراء الفقهية ، واساليب فى التربية التى رأت لفترة كبيرة أن هذا من الترف والرفاهية ، ويتنافى مع الجدة والعزيمة والروحانية التى يجب أن يتحلى بها الفرد المسلم ... رغم كل هذا ، فإن مشكلة الكفاءة والإخلاص تحظى بنسبة كبيرة فى هذا الموضوع .

بدا الإسلاميون مسيرتهم من الصفر ، لامن حيث انتهى الآخرون ، باجتهاد شخصى من أناس استشعروا أهمية وجود أناشيد تساهم فى تربية وتقويم الأفراد ، وتمثل بديلا عن فن ساقط ، فبدات الأناشيد الإسلامية من الصفر ، ومازالت إلى اليوم لاتستطيع اللحاق بنفس مستوى الأغانى الساقطة التى يهيم بها الشباب بل والصغار والكبار .

(( أفهم تماما أن هذا ليس السبب الوحيد فى انحسار الفن الإسلامى ، لكن لابد من الاعتراف بأن الفن الإسلامى مازال لاينافس فى كفاءته الفنون الساقطة التى يزخر بها إعلامنا العربى )) .

ساهم فى هذا ظروف كثيرة لاشك ، لكن للأسف تم الاستسلام لهذه الظروف ، فى مقابل رفض تام أن يستعان بأهل الفن الذين هم أهل الذكر واهل الكفاءة فى هذا المضمار ، لما يقدمونه من إسفاف وتبذل ... فنتج عن هذا استمرار التحرك بالخبرة الذاتية وبالإمكانيات الذاتية ، والتى تقل عن خبرتهم وإمكانياتهم .

ومازال الفن الإسلامى لايمتلك كوادر فى مجال السينما والمسرح ، وغيرها .

ورغم أن تجربة مسرح الإخوان المسلمين التى بدأت على يد الشيخ حسن البنا – مؤسس الجماعة – تشى بمدى عمق فهم الرجل للفكرة ، بل يرجع إلى هذا المسرح اكتشاف عدد من رموز المسرح هذه الايام مثل عبد المنعم مدبولى ، ومحمد السبع .

رغم هذا ، إلا أن اختفاء الإخوان فى عهد عبد الناصر ، ثم الصحوة الإسلامية التى بدأت بعد نكبة 1967 ، والتى كانت ميالة إلى السلفية التى ترفض رفضا تاما بعض أنواع وأساليب هذا الفن .. كل هذا ساهم فى التأخر الواضح للفن الإسلامى الآن .

لكن مظاهر صحوة وفوران هذا الفن الآن تشى بمستقبل لامع إن شاء الله تعالى .

***

لكن الفكرة العامة التى أود أن اطرحها ، أن الإخلاص وحده لايكفى .

لأن الجهد رغم قوته لايصب بفاعلية فى الهدف .
ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتمد على الإخلاص فقط .
ولأن تجربة الواقع تقول بفشل خيار الإخلاص فقط .

والغد إسلامى لاريب .

21/2/2005

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق