الأربعاء، يناير 17، 2007

هل كان معاوية مجرما حين ورث الخلافة ليزيد؟

الدافع للكتابة في هذا الموضوع :

من النكد الذي يصيب عالمنا العربي – وهو قلب العالم الإسلامي وميزان قوته – أنه ما زال يعيش فى عصور الملكيات المطلقة التي طلقها العالم تماما ، لكن الأبشع والأنكى أن ما تحول من هذه الملكيات إلى جمهوريات يحاول أن يعود مرة أخرى بمسرحيات مكشوفة إلى أسلوب الملكيات .

ومن كوارثنا أن هناك من رجال الإعلام الرسمي من لا يستحي أن يفعل أي شئ في سبيل التبرير للحاكم الديكتاتور ، ولو كان هذا الشئ هو الاستخدام المسف لشخصيات بحجم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. لذا فلا يتردد أحدهم أن يستغل موقفا تم في ظروف استثنائية لم تعد موجودة الآن – كما سنوضح – مثل عهد سيدنا معاوية بالخلافة لابنه يزيد ، لكي يبرر توريث الحكم الآن وبعد ما يقرب من خمسة عشر قرنا .

وعلى الجانب الآخر سيوجد معارضون يرجعون كل المصائب التى تحدث الآن إلى حادثة حدثت منذ خمسة عشر قرنا ليصبون اللعنات على سيدنا معاوية رضى الله عنه ، وهذا ربط مستحيل بالحقائق العلمية والظروف الموضوعية ، فلا أبعد عن الإسلام من ديكتاتور يظلم الناس ، ولا يستطيع أجرأ المعترضين أن يدعي أن ديكتاتور العصر الحديث مؤمن تقي يقتفى أثر معاوية رضى الله عنه .

هؤلاء المعارضون منهم من يريد النيل من الإسلام باعتباره لا يصلح أصلا ليكون مرجعية ، ومنهم من ينطلق من منطلقات إحقاق الحق ونقد التاريخ بمنهج علمي .

على كل حال ، سنوضح فى السطور القادمة ، كيف أنه لا رابط أصلا بين الظروف التى حدث فيها توريث الخلافة لأول مرة فى الإسلام ، وبين محاولات توريث الحكم في عصرنا هذا .. حتى ينتفي ما يمكن أن يستغله الإعلام الحكومي أو المعارضين على اختلاف منطلقاتهم .

****

بداية : استأذن القارئ الكريم فى أربع تمهيدات قبل الدخول للموضوع :

أولا :

نحن فى الدنيا نعامل الناس على ظاهرهم ، ولا نعلم بواطنهم .. فضلا عن أن نعلم مدى مكانة إنسان عند الله أو موقعه من رضا الله أو سخطه .. ولذا نعامل الناس على ظاهر تصرفاتهم ومعاملاتهم ، ونحكم عليهم بهذا الظاهر .. ونكل السرائر إلى الله تعالى .

ونحن بهذه القاعدة نعترف ضمنيا بأن حكمنا على الناس حكم ناقص فى ميزان الحقيقة ، لأن جانبا كبيرا من الحقائق والمعلومات لا تقع فى مجال إدراكنا .. ويكون الحكم الوحيد الصحيح العادل الذى لاشك فيه ولا ظلم فيه هو حكم الله تعالى الذى يعلم حتى ما تخفى الصدور .

بهذا التصور .. يفسر البشر أفعال البشر وتصرفاتهم ، ويخوضون فى تاريخهم محاولين استكناه وتحليل أفعالهم ومواقفهم ومبادئهم .. ثم يظل حكم البشر مهما بلغ من استقصاء للمعلومات حكما ناقصا .

أتذكر الآن كلمة للأديب والمفكر العظيم عباس العقاد فى كتابه ( أنا ) إذ يقول : ” وعباس العقاد كما أراه – بالاختصار – هو شئ مختلف كل الاختلاف عن الشخص الذى يراه الكثيرون من الأصدقاء أو من الأعداء .. هو شخص استغربه كل الاستغراب حين أسمعهم يصفونه أو يتحدثون عنه ، حتى ليخطر لى فى أحسن الأحيان أنهم يتحدثون عن إنسان لم أعرفه قط ولم ألتق به مرة فى مكان . فأضحك بين نفسى وأقول : ويل للتاريخ من المؤرخين .

أقول ، ويل التاريخ من المؤرخين لأن الناس لا يعرفون من يعيش بينهم فى قيد الحياة ومن يسمعهم ويسمعونه ويكتب لهم ويقرأونه ، فكيف يعرفون من تقدم به الزمن ألف سنة ولم ينظر إليهم قط ولم ينظروا إليه ؟ ” (صـ 15، 16 )

عند التعرض للأنبياء أو للصحابة يستجد هنا مستجد جديد تماما .. إذ فى هذه الحالة تتوفر لدينا معلومات لا يمكن أن تتوفر عن أحد غيرهم .. ألا وهى منزلتهم عند الله تعالى .. وفى هذه الحالة الخاصة جدا يجب أن تتغير مفاهيم التحليل والتفسير لتصرفاتهم وأفعالهم ، ولا تكون بنفس المعايير التى نحكم بها على تصرفات البشر .

فلقد أخبرنا الله تعالى من خلال القرآن الكريم ، وأخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم من خلال أحاديث نبوية صحيحة وفى أعلى درجات الوثوق أن هؤلاء الصحابة ممن رضى الله عنهم وممن أسكنهم الجنة ، وهم خير الخلق عند الله تعالى بعد الأنبياء والمرسلين .

بهذه المعرفة عن منزلتهم ومكانتهم عند الله يجب على المسلم أن يوقر ويجل ويحترم هؤلاء الصحابة الذين رضى الله عنهم .. وألا يظن بهم أو بأحدهم السوء أو يفسر تصرفاتهم ومواقفهم كما يفسر سلوك أى بشر آخرين .. كتعبير عن الطمع والخسة والتآمر والتكبر والخداع والحرص على المصالح الشخصية .. لأنه قد وصل لنا علم الغيب يخبرنا أنهم فى الجنة ، رضوان الله عليهم جميعا .

ثانيا :

ومن هذا المنطلق كان علماء الإسلام يحرصون ألا يتكلموا فى ما وقع بين الصحابة من فتن ، وقد سموها فتنا لأن الخائض فيها أقرب للخطر منه إلى السلامة ، وكانوا يرفعون شعار : ” فتنة طهر الله منها سيوفنا فلنطهر منها ألسنتنا ” ، وهو شعار يعترف ضمنا بأن الصحابة بشر ويخطئون وليست لهم العصمة .. فالعصمة للأنبياء فقط .. لكنه فى نفس اللحظة يتوقف عن الخوض فى ما وقع بينهم لأن طرفى الخلاف هم خير البشر بعد الأنبياء والمرسلين .

وأتوقع أن هذا الشعار كان سيستمر إلى أن تقوم الساعة لولا أن العصور التالية قد حملت لنا من يخوضون فى أعراض هؤلاء الصحابة بكل حدة وتهجم ودون اكتراث ، بل ودون حتى محاولة التوقف لانتقاء الألفاظ .. وهذا هو ما أجبر العلماء على تحقيق ما حدث بين الصحابة من فتن ، وتنقية التاريخ من روايات الكاذبين وأصحاب الغرض .. وتكاد تكون أكثر الفترات التى لاقت تحقيقا بين علماء المسلمين تاريخيا – بعد السيرة النبوية – هى ما حدث بين الصحابة من خلاف ، وأغلب هذه الدراسات حديثة نسبيا .. بما يؤكد أن المحققين لها اضطروا لولوج هذه الساحة قطعا لألسنة من أراد النيل من الإسلام بالنيل من الصحابة ، أو اراد تقسيم الأمة شقين متناحرين بالانحياز إلى طرف دون طرف .

ثالثا :

ورب ضارة نافعة .. فإن المؤرخين المسلمين الأوائل حينما نقلوا روايات الفتنة حتى الضعيف والشاذ منها مما ساهم فى نشر الأكاذيب والشائعات .. حينما فعلوا ذلك ، فهم عبروا عن نزاهة نطالب بها بعد أكثر من ألف سنة من وجودهم ، واتخذوا موقفا يعد بحد ذاته مفخرة للمسلمين فى أنهم لم يحذفوا روايات هم يؤمنون بضعفها وكذبها اعترافا بحق الأجيال القادمة فى معرفة كل ما حدث ، ووضعوا بذلك ربما لأول مرة فى التاريخ نزاهة المؤرخ الذى يورد المعلومات وإن كان يرفضها ولا يؤمن بها ، وهو درس ما زال المؤرخون بعد ألف سنة فى حاجة إليه .

يقول الطبري شيخ مؤرخى المسلمين فى مقدمة كتابه الذى يعد مصدرا أول فى معرفة التاريخ الإسلامى : ” فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة ولا معنى في الحقيقة فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا وإنما أتي من قبل بعض ناقليه إلينا وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا ” (1/13) .

فعلى القارئ فى تاريخ الطبري أن ينتبه إلى أن الروايات التى يرويها ليست كلها حقائق ، وأن ينتبه إلى سند هذه الرواية مستعينا بكتب الرجال التى تصف حال هذا الراوي من الدقة و الصدق ( الضبط والعدالة ) ، حتى يعرف تاريخه على بصيرة .

رابعا وأخيرا فى هذه التمهيدات :

أننا حين نبحث قضية التوريث فى التاريخ الإسلامى والتى يرى كثيرون أن معاوية – رضى الله عنه – هو من بدأها .. فعلى الباحث أن يفكك الحوادث المختلفة لينظر إلى هذه المسألة وحدها حتى يمكن الحكم عليها بالتجرد الواجب للباحث .. فلا يجب أن يحمل فى نفسه حين البحث وهو فى عام 60 هـ الخلاف الذى كان منذ أكثر من عشرين عاما بين على ومعاوية – رضى الله عنهما – ثم يتذكر الفتن التي كانت أيام يزيد ووقعة الحرة ومقتل الحسين .. ثم يبنى بهذه النفسية حكما على فكرة التوريث نفسها .. إذا تخلصنا من خلط الأمور ببعضها لنبحث فكرة معينة ، فهذا قبل أن يكون أسلوبا علميا للبحث فهو أول طريق الوصول للحقيقة .

****

من العبث والغباء أن نحاكم عصورا ماضية بأعراف ومفاهيم العصر الحالي ، البشرية تتطور وتتوصل إلى آليات وأساليب تتمكن بها من تنظيم حياتها على نحو أفضل مما سبق ، وفي قضية الحكم التي بين ايدينا الآن ، يشهد التاريخ أن الحكم في كل الدول وعلى اختلاف الأمكنة والأزمنة حتى وقت قريب كان يسير من خلال عائلة أو قبيلة أو عشيرة قوية تستطيع بمالها من قوة وقدرة أن تسيطر على الحكم ، وبهذه القوة والقدرة تستسلم لها مناطق نفوذها ، حتى تضعف هذه القوة والقدرة فتكون قد انتقلت إلى طرف آخر يتسلمها .

وكان النظام الذي عرفته البشرية هو نظام التوريث ، وهذه الوسيلة التي توصل إليها البشر في هذا الحين من الزمان ، ويشهد التاريخ أنها الوسيلة المثلى فى تلك العصور التي استطاعت حفظ الاستقرار والملك ، وهو النظام الذي نشأت تحت ظله الإمبراطوريات الكبيرة التى صنعت حضارات خالدة .

والأمم التى تنازعت ولم تتوصل لطريقة مستقرة فى الحكم وانتقال الملك من السابق إلى اللاحق ، إما أنها اندثرت دون أثر تاريخي أو إنجاز حضاري ، وإما تكاثر القتل فيها حتى ما يبقى الملك فى منصبه إلا شهورا معدودة حتى يقتله من يرى بنفسه القدرة والقوة على الحكم .. أوضح واشهر مثال على النوع الأول هو العرب قبل الإسلام : مجرد قبائل متناثرة متناحرة يتنازع السيادة فيها أكثر من سيد ، وأكثر مثال يحضرني على النوع الثاني هو حكم المماليك في مصر خصوصا في القرن الثامن عشر .

ولا أعرف استثناءات حدثت لهذا القانون ( قانون انتقال الحكم بالوراثة أو وفق قانون قبلي وعشائري ) إلا الديمقراطية التى نشأت فى مدن اليونان القديمة ، وفترة الخلافة الراشدة بعد عهد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .. والمشترك في هاتين الفترتين أنها كانت ديمقراطية تحكم على رقعة صغيرة من الأرض ، أما حينما تطورت إلى امبراطوريات كبيرة اختفت تلك اللحظات الاستثنائية وعاد مرة أخرى قانون انتقال الحكم وفق العرف أو الوراثة .

واستمر هذا القانون يحكم الأرض - فى الخط العام - حتى وقت قريب ، وقت أن وصلت البشرية لآليات تسمح بأن تختار الأمة واحدا منها دون أن يكون له قوة إلا كفاءته ، وتلتزم قوى الأمة بأن تجعل عملية الاختيار نزيهة وبأن تحمي هذا الاختيار .

بهذا التقديم أجدني أتفق مع رؤية واحد من أبرز عمالقة التاريخ فى تاريخ البشرية والملقب بحكيم التاريخ وواحد من أبرز من وضعوا أسس معرفة قوانين وسنن التاريخ وهو ابن خلدون .

يرى ابن خلدون أن الفترة النبوية هى فترة استثنائية ، انتصر فيها الوازع الديني على الوازع العصبي ( القبلي / العشائري ) الذي تقوم عليه الملك ، لكن لما بدأ هذا الوازع يقل عند الناس كان لابد من عودة قانون العصبية إلى مسار التاريخ .

قال : ” والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس ، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بني أمية؛ إذ بنو أمية يومئذ ، لا يرضون سواهم ، وهم عصابة قريش وأهل الملة أجمع ، وأهل الغلب منهم . ( … ) فإنهم ( الخلفاء الراشين ) كانوا على حين لم تحدث طبيعة الملك ، وكان الوازع دينيا ، فعند كل أحد وازع من نفسه ، فعهدوا إلى من يرتضيه الدين فقط وآثروه على غيره ، ( … ) وأما من بعدهم من لدن معاوية فكانت العصبية قد أشرفت على غايتها من الملك والوازع الديني قد ضعف واحتيج إلى الوازع السلطاني والعصباني . فلو عهد إلى غير من ترتضيه العصبية لردت ذلك العهد وانتقض أمره سريعا وصارت الجماعة إلى الفرقة والاختلاف ” ( 1/357 – فصل : ولاية العهد )

واستدل ابن خلدون على ضعف الوازع الديني حينها بهذا الأثر ” سأل رجل عليا رضي الله عنه : ما بال المسلمين اختلفوا عليك ، ولم يختلفوا على أبي بكر وعمر ، فقال : لأن أبا بكر وعمر كانا واليين على مثلي وأنا اليوم وال على مثلك ، يشير إلى وازع الدين ” ( السابق )

ويصيغ المفكر الكبير جلال كشك نفس المعنى بعبارة أخرى فيقول : “إن نظام الخلافة الذي قام حتى عثمان كان نظاما فريدا لم يسبق له مثيل في تاريخ العالم ولا تكرر بعد ذلك ، وإن تشابه معه الآن النظام الديمقراطي الجمهوري ، ولكن نظام الخلافة الراشدة كان بقية من نفح النبوة ومتفقا أو منبثقا من جيل اعتاد أن يحكمه نبي .. ( … ) وما إن انتهى هذا الجيل حتى عادت قوانين الحياة والتاريخ تتحكم في المجتمع الإسلامي ” ( جهالات عصر التنوير ص104 ) .

طبقا لهذا الفهم ، فإن عهد معاوية – رضي الله عنه – بالخلافة لابنه يزيد كان ضرورة من ضرورات الوقت .. فهل كان هذا الفهم صحيحا ؟ وهل حقا أنه كان من ضرورات الوقت ؟

***

أولا : شهـادة التاريخ :

إذا كانت قوة العصبية طبيعة في أنظمة الحكم في ذلك الوقت ، فللعصبية مع العرب بالذات شأن أي شأن ومكانة أي مكانة ، وإذا كانت للرسول – صلى الله عليه وسلم – المكانة العظمى لأنه النبي المتصل بالسماء ، فإنه لحكمة الله تعالى أيضا كان من أشرف قريش نسبا وأقواهم عصبية ، ورأينا كيف استطاعت تلك العصبية حمايته ودعوته في بدايتها .

نقول إذا كانت للرسول المكانة العظمي لأنه نبي ، سنجد أنه منذ أن توفى هذا النبي طرح أمر الخلافة بين المسلمين ، وكانت مسألة العصبية حاضرة في النقاشات حول الخليفة القادم ، فحين تكلم أنصاري في سقيفة بني ساعدة و رأى أن الأنصار أحق بالخلافة كان رد أبي بكر أن الأنصار أهل لكل خير لكن ” ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحيِّ من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً ” هذه رواية البخاري .

إذن فقد كان السبب كما يراه أبو بكر رضي الله عنه – وهو أفهم الناس بكلام رسول الله – أن مكانة قريش هي القوة التي يرضى سائر العرب بالانقياد لها ، وحتى الحباب بن المنذر – رضي الله عنه – لما قال : ” منا أمير ومنكم أمير ” أوضح مقصده بأنها ليست رغبة في الإمارة قائلا : ” فإنا والله ماننفس عليكم ( ننافسكم ) هذا الأمر ولكنا نخاف أن يليه أقوام قتلنا آباءهم وإخوانهم ” ، وعذره المهاجرون وقالوا بأنهم شركاء في دم من قتل أيضا .

إذن فحتى في هذا العصر الذهبي كان واضحا لديهم ماتعني قوة العصبية والمكانة ، تذكروا أننا في موقف سنحتاجه بعد نصف قرن ، قد تغيرت فيها الشخصيات والنفوس والوازع الديني .

وبعد ربع قرن من سقيفة بني ساعدة كانت الحادثة التي هزت دار الإسلام ، وهي حصار الخليفة الثالث عثمان بن عفان ثم قتله في الشهر الحرام والبلد الحرام ، وكانت مصيبة فريدة من نوعها تحدث لأول مرة ، ثم بقاء المدينة فترة في حكم هؤلاء القتلة الظالمون ، كان من تفكير أم المؤمنين عائشة أن تحرض الناس على الجهاد مع علي رضى الله عنه للأخذ بالقصاص من قتلة عثمان ، وتوجهت إلى البصرة ، وفي البصرة عرف الثوار ممن غزوا المدينة وقتلوا عثمان أنهم المستهدفون ، فحاربوا بزعامة حكيم بن جبلة جيش عائشة وطلحة والزبير ، فهزموا هزيمة منكرة ، وقتلوا جميعا إلا رجلا واحدا فقط استطاع الهرب والنجاة .

هذا الرجل الواحد الذي شارك في قتل عثمان ، وحارب جيشا فيه عائشة – حبيبة رسول الله – واثنان من العشرة المبشرين بالجنة ( طلحة والزبير ) ، رغم كل مساوئه ومخازيه هذه إلا أنه تعصب له ستة آلاف رجل من قومه وكانوا على استعداد للحرب ولا يسلمونه أبدا ، حتى ولو حاربوا جيشا فيه أم المؤمنين والسابقون الأولون من الصحابة .

ولما أرسل علي – رضي الله عنه – القعقاع بن عمرو التميمي لعائشة وطلحة والزبير كان مما قاله القعقاع موضحا صواب رأي علي وخطأ رأيهم : ” لقد كان في البصرة ستُّمائة من قتلة عثمان وأنتم قتلتموهم إلا رجلاً واحدًا، وهو حرقوص بن زهير السعدي، فلما هرب منكم احتمى بقومه من بنى سعد، ولما أردتم أخذه منهم وقَتْله منعكم قومه من ذلك، وغضب له ستة آلاف رجل اعتزلوكم، ووقفوا أمامكم وقفة رجل واحد، فإنه تركتم حرقوصًا ولم تقتلوه، كنتم تاركين لما تقولون وتنادون به وتطالبون عليًا به، وإن قاتلتم بنى سعد من أجل حرقوص، وغلبوكم وهزموكم وأديلوا عليكم، فقد وقعتم في المحذور، وقوَّيتموهم، وأصابكم ما تكرهون، وأنتم بمطالبتكم بحرقوص أغضبتم ربيعة ومضر، من هذه البلاد، حيث اجتمعوا على حربكم وخذلانكم، نصرة لبنى سعد ” . ( انظر : الطبري 3/29 – البداية والنهاية 7/121 ) ( حوادث 36 هـ ) .

ولا أظنني أحتاج إلى شرح لبيان كيف كانت العصبيى عاملا حاسما شديد القوة والسطوة ومتغلبا على الوازع الديني .

في عام 23 هـ ، قتل الخليفة العادل عمر بن الخطاب ، لكنه بقي أياما أوصى فيها بالخلافة لستة من كبار الصحابة ، من العشرة المبشرين بالجنة وهم بدريون وتوفي رسول الله وهو عنهم راض ، وكان قد بقي من العشرة المبشرين بالجنة سبعة لكنه لم يضع اسم ( سعيد بن زيد ) لأنه من قبيلة عمر بني عدي ، كما رفض رفضا قاطعا أن يعهد لابنه عبد الله بن عمر وقال : ” بحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد ” ( الطبري 3/ 580 ) ( حوادث 13 هـ ) .

لكن بعد سبع وعشرين سنة ( عام 40 هـ ) عندما عُرض على علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – أن يستخلف الحسن قال : ” لا آمركم ولا أنهاكم أنتم أبصر ” ( الطبري 3/157 ) ( حوادث عام 40 هـ ) .

ويبدو الفارق واضحا طبعا بين الموقفين ، وهو فارق يعبر عن اختلاف الزمنين ..فعلى الرغم من بقاء واحد من الستة الذين رشحهم عمر على قيد الحياة وهو سعد بن أبي وقاص ، وهو أولى الناس بالأمر لو كان الوازع الديني ما زال قويا ، إلا أن سيدنا عليا لم يعارض أن تكون الخلافة من بعده لولده الحسن ، وهذا يجعلنا نتفهم ما سيحدث بعد عشرين عام أخرى حين يعهد معاوية ليزيد ، وكان سعد حينها قد توفى .

أعيد التذكير بأننا لا نفعل إلا قراءة التاريخ والوقائع ، ونحاول فهم مدى قدرة العصبية والقبلية على التأثير في التفكير ، والفصل فى الحوادث .

ومنذ استشهاد الخليفة عثمان بن عفان ، انقسمت الأمة وبدأ شقاق كبير بين علي ومعاوية – رضي الله عنهما - ، أهل السنة يؤمنون بأن الحق في جانب علي وأن الطائفة الباغية هي طائفة معاوية ، ولكن ومنذ استشهاد عثمان لم يستطع علي رضي الله عنه أن يسيطر على كل ولايات الدولة الإسلامية ، بل ظلت تتناقص ، وتوقفت حركة الفتوحات في هذه الفترة ، بالرغم من أن معاوية لم يكن ينازع عليا في الخلافة بل أقر بأنه أفضل منه وكان موضع الخلاف هو إصراره على عدم البيعة حتى يتم القصاص من قتلة عثمان ، وخذل أهل العراق عليا وما واصلوا معه القتال لا ضد معاوية ولا ضد الخوارج ، وظلت الولايات تتساقط من حكم علي إلى سيطرة معاوية ، حتى كانت بينهما هدنة ثم استشهاد علي رضي الله عنه .

يؤسفنا كل هذا بلا شك ، لكنه يثبت أيضا أن عصبة معاوية كانت أقوى وأشد قدرة على الحكم من عصبة علي ، رغم أن عصبة معاوية لم تكن تطالب بالخلافة بل بالقصاص من قتلة عثمان ، وكانت عصبة علي أضعف وأعجز عن الحكم رغم أنه منوط بها الخلافة ، وفي خطب علي رضي الله عنه ما يفيد بحزنه وألمه من هذا الضعف وفتور الهمة .

دعونا نواصل قراءة التاريخ لكن بعد قيام الدولة الأموية ، حيث سنرى أيضا كم كان بنو أمية هم الطائفة الوحيدة التي كانت قادرة فعلا على الحكم وإقرار الدولة الإسلامية .

واجهت الدولة الأموية كثيرا من الثورات وحركات الخروج والتمرد عليها ، وكانت كثير من هذه الثورات يتزعمها أناس لهم ثقلهم الكبير ووزنهم الضخم فى وجدان كل المسلمين ، لكنها انتصرت عليهم برغم كل هذا ، ولا أقوى دليلا على هذا من ثورة سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي ، وهو من هو في نفوس المسلمين يكفيه أنه حفيد الرسول وابن أحب بناته إليه ، وحب الرسول له ، وما ورد فيه من الأحاديث ، لكنه لم يجد حوله إلا نفرا قليلا ، وكان أهل العراق - الذين دعوه للقدوم عليهم والخروج على يزيد - في أحسن الأحوال قلوبهم معه وسيوفهم عليه ، وقتل شهيدا رضي الله عنه .

وحتى لما حدث اضطراب كبير في الأمويين بعد وفاة يزيد بن معاوية وتخلي معاوية بن يزيد عن الخلافة وإعلانه أنه لا يجد أحدا صالحا قويا يتركها له فتركها للأمة ، وحدث انقسام كبير بين أهل الشام ، فمنهم من أراد أن يبايع ابن الزبير في الحجاز ، والآخرون أرادوا بيعة مروان بن الحكم الأموي ، ما استطاع ابن الزبير ( وهو أيضا علم كبير وصحابي جليل وله وزنه في وجدان المسلمين ) وقد بايعت له الأمصار كلها أن يفرض حكمه على الشام ، بل انتصر مروان على أنصار ابن الزبير في الشام ، واستمر في السيطرة على الدولة وتساقطت الأمصار تحت حكمه واحدة تلو الأخرى في سلاسة ودون معارك ضخمة حتى هُزِم عبد الله بن الزبير وقتل على يد عبد الملك بن مروان ( إذ أن مروان بن الحكم لم يحكم إلا سنة واحدة ومات .. ولم تحدث قلائل مؤثرة على البيت الأموي أيضا ) بعد تسع سنوات من مناداته بأمير المؤمنين .. وكان ممن خذلوه أيضا بعض أهله وأبنائه .

ومن أقوى الثورات التي قامت ضد الدولة الأموية ثورة العراق بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث وسعيد بن جبير ( وهما من كبار العلماء في تاريخ الإسلام ) ودارت معارك طاحنة مثل معركة دير الجماجم ( 82 هـ ) حتى عرض عليهم عبد الملك أن يعزل الحجاج عن العراق إن كان هذا يرضيهم ، لكن الثوار رفضوا ثم هزموا .

واستطاعت الدولة الأموية القضاء على حركة الخوارج أيضا في خراسان وما بعدها ، واستقرت الأمور والدولة وبدأت الفتوحات من جديد في عهد عبد الملك بن مروان .

إذن ، خلال عشرين عام ظلت البيت الأموي يواجه ثورات متعددة وقوية وقياداتها من كبار الزعماء ، لكنها استطاعت أن تهزمها كلها ، ثم تستقر ، ثم تبدأ في حركة الفتوحات .. فأي البيوت العربية كان يستطيع ذلك في هذا الوقت ؟؟

ومن شهادة التاريخ أيضا : أن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز ، مع كل تقواه وورعه وزهده ، وتلك الطفرات التي أحدثها في الحكم والإدارة ، إلا أننا لا نجد في أي مرجع تاريخي أنه كان يستطيع إلغاء نظام الوراثة وإعادتها إلى الشورى بل ورد عنه ما يفيد العجز عن هذا صراحة فقد قال عند الموت : ” لو كان لي من الامر شيء ما عدوت بها القاسم بن محمد ” ( الطبقات لابن سعد – انظر : القاسم بن محمد ) .

بل إن سليمان بن عبد الملك – الخليفة الذي سبق عمر – حينما أراد أن يعهد بالخلافة لعمر بن عبد العزيز من بعده لا إلى أخيه يزيد كما هو المتوقع ، قام بحيلة : جمع أهل الحكم ، وعاهدهم على أن يبايعوا لمن في الصحيفة دون أن يعفوا اسمه ، فبايعوا ثم اتضح أنه كتب عهدا بالخلافة إلى عمر بن عبد العزيز ومن بعده يزيد بن عبد الملك .

بقي لنا موقف أخير ، هو – للمفارقة – بعد انتهاء الدولة الأموية ، إذ لما قامت الدولة العباسية لم يستطع الهرب من بني أمية إلا واحد فقط هو عبد الرحمن بن معاوية وكان غلاما واستطاع الهرب إلى الأندلس ، لم يكن له أي مؤهلات أو إمكانيات إلا أنه سليل الخلفاء وبقية البيت الأموي ، واستطاع بهذا النسب وحده أن يجمع حوله أهله وحلفائه العرب في الأندلس ويحكم الأندلس أربعا وثلاثين عاما ، وهو الذي دخل الأندلس لا يحمل إلا النسب .

لا أظن بعد هذه القراءة السريعة للوقائع إلا أن نعرف حقا أن مسألة العصبية تلك كانت قانونا تاريخيا بالفعل كما قال ابن خلدون ، ولم يكن ممكنا الاستمرار في أن تكون شورى لأن النفوس تغيرت والامبراطوية قد اتسعت وكثر الداخلون في الإسلام عربا وفرسا ورومان وبربر وهنود ومصريين و غيرهم ، وما كان ممكنا في هذا العصر أن تكون شورى كما كانت على عهد النبي في المدينة المنورة .

أختم هذا المحور بكلمة للأستاذ الكبير محمد جلال كشك يندد فيها بمن يحمل فشلنا على نظام الوراثة قال : ” والدنيا كلها منذ فجر الحضارة إلى القرن الثامن عشر أو حتى التاسع عشر لم تعرف نظاما أفضل من أو أكثر مطابقة لحاجيات المجتمع من النظام الملكي الوراثي ، إلى أن ظهر واستقر النظام الجمهوري ، فالنظام الوحيد الذي كان ممكنا هو النظام الذي قام ، والدول التي ( هزمتنا واحتلتنا ) هي دول ملكية يتوارث ملوكها العرش من روسيا القيصرية وحتى بريطانيا الديمقراطية .. ولو ( حرّم ) علماء الإسلام أو الصحابة النظام الملكي لكانوا قضوا مبكرا جدا على الحضارة الإسلامية ، فكما هو معروف كان من أهم أسباب انهيار حضارة المماليك عدم استقرار نظام لوراثة الملك في تقاليدهم ” ( جهالات عصر التنوير – ص106 ) .

كانت تلك نظرة عامة أفقية لمسار التاريخ ، تعالوا نتعمق أكثر فى لحظة التوريث ولنر .

** هامش : من المهم أن نعلم أن الوراثة في تاريخنا الإسلامي لم تكن كأوروبا التي كان ولد الملك يأخذ لقب ولي العهد حتى وهو جنين لم يولد ، في تاريخنا كان لابد لولي العهد من أخذ بيعته من الناس قبل أن يتولى الخلافة .

***

الآن بعد ألف وأربعمائة سنة لا يمكننا أن نفهم تلك الفترة التي جرى فيها انتقال الخلافة من معاوية إلى يزيد ، إلا من خلال متابعة ردود فعل وآراء جميع الأطراف التي كانت حاضرة ومعاصرة ، ولا نقول أننا لو رصدنا تلك المواقف نكون قد أحطنا بالظرف التاريخي كاملا ، بل الواقع أننا أدركنا ملامحه العامة .

وإذا كنا نحن في تاريخنا الحديث الآن ، ورغم كثرة التحليلات وانتشار وسائل الإعلام وقرب الحدث ، تخرج الوثائق من أرشيفات الحكومات وأجهزة المخابرات فتقلب تحليلات المؤرخين رأسا على عقب ، وتكشف في بعض الأحيان مفاجآت صادمة وتقلب مواقع الشخصيات ومناطق القوى والنفوذ .. إذا كنا لا ندرك بدقة شيئا حدث منذ أعوام ، فكيف يمكن أن نحاكم النوايا المكنونة في الصدور قبل ألف عام ؟!!

من الظلم كذلك أن نكون وجهة النظر من خلال موقف واحد أو اثنين مهما كان جلال أصحابهما ، ونترك موقف المئات والآلاف ممن هم في نفس منزلتهم إن لم يكونوا خيرا منهم .. وهو إن لم يكن هوى وميلا قلبيا فهو لاشك فعل صاحب غرض .

منذ استشهاد عثمان رضي الله عنه فى آخر عام 35 هجرية ، وحتى ربيع الول من عام 40 ، والأمة في فرقة واختلاف ، يحمل المسؤولية فيه معاوية ومن معه – رضي الله عنهم - بلا شك ، لكن بقراءة ما حدث فعلا ، فإن الخلاف الذي لم يكن على الخلافة بل على أولوية القصاص من قتلة عثمان استطاع أن يجعل الأمة في هذا التفرق الذي ظل سنينا لم ينحسم ، حتى تنازل الحسن بن علي رضي الله عنه عن الخلافة لمعاوية .

بعد عشرين عاما من هذا التاريخ ، نبتت مشكلة الخلافة وفي ظروف أدق وأحرج منها قبل عشرين سنة ، فالدولة الإسلامية اتسعت ، وكبار الصحابة ورعيلهم الأول كلهم مات تقريبا ، وليس هناك نظام ولا سابقة تضمن قدرة هذه الامبراطورية الدائمة الاتساع على حسم أمر الخلافة دون فتن ، بل سابقة التاريخ تؤكد أن الفتن حدثت وعلى قضايا أقل خطورة من الخلافة ، ومازالت عصبة الشام حول معاوية هي الأقوى والأقدر في كل هذه الامبراطورية الإسلامية .. لكل هذه الظروف رأى معاوية رضى الله عنه أن يعهد بالخلافة من بعده ليزيد .

فإذا أسأنا الظن بمعاوية ( وهذا حرام على المسلم ولكن نقوله الآن جدلا ) واعتبرنا أنه ورثها حبا في الملك والسيطرة ومحاباة لولده ، فما معنى انحصار المعارضة له في عدد قليل من الصحابة وسكوت أكثرهم على هذا ؟ ثم نسأل سؤالا آخر : هل استطاعت الأمة بعدها بسنوات ( عام 64 هـ ) حين تنازل معاوية الثاني عن الخلافة أن تحسم الخلافة لخيرها وأصلحها وأقدرها والمتزعم لحركة المعارضة وهو عبد الله بن الزبير ؟ أم انتصرت قوة العصبية والقبلية وحسمت الأمور واستطاعت إقرار النظام في كل الامبراطورية المستمرة في الاتساع ؟

لكن الذهبي يروي في تاريخ الإسلام ( 4/169 – عهد معاوية ) : خطب معاوية فقال : اللهم إن كنت إنما عهدت ليزيد لما رأيت من فضله فبلغه ما أملت وأعنه ، وإن كنت إنما حملني حب الوالد لولده ، وإنه ليس بأهل فاقبضه قبل أن يبلغ ذلك ” ، هاهو يدعو في خطبه بمثل هذا الدعاء ، ويستمع إلى قول السامعين : آمين .

فهل يشك بعد هذا في نية الصحابي ؟!!

إذن .. كان معاوية أبعد نظرا حينما عهد بالخلافة إلى يزيد ، و يزداد هذا الأمر تأكيدا إذا رصدنا مواقف المعاصرين ، يقول ابن خلدون : ” وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا ( يعني توخيه لمصلحة الأمة ) فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك . وحضور أكابر الصحابة لذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه؛ فليسوا ممن يأخذهم في الحق هوادة ، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق؛ فإنهم كلهم أجل من ذلك ، وعدالتهم مانعة منه . ( … ) ولم يبق في المخالفة لهذا العهد الذي اتفق عليه الجمهور إلا ابن الزبير ، وندور المخالف معروف ” ( 1/357 – فصل ولاية العهد )

تحمل لنا كتب التاريخ أسماء المعارضين وهم خمسة : عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، عبد الرحمن بن أبي بكر ، والحسين بن علي ، وعبد الله بن الزبير – رضي الله عنهم جميعا - ، ( بالمناسبة كلهم اعترض على المبدا وليس على شخصية يزيد ولم يذكر منهم أحد أنه كان فاسقا أو ماجنا أو تاركا للصلاة أو شاربا للخمر كما تشيع ذلك الروايات الضعيفة والمتأخرة ، بل الروايات الصحيحة تذكر عكس ذلك ) .. عارضوا مبدأ العهد للولد ، وعارضوا كذلك أن يُبَايَع لخليفتان في وقت واحد ( الخليفة القادم في حياة الخليفة القائم ) .

فأما عبد الرحمن بن أبي بكر فمات قبل أن يموت معاوية ويتولى يزيد الخلافة ، فبقي أربعة معارضين ، وبعد أن تولى يزيد الخلافة بايعه ابن عمر وابن عباس ( كانت رؤيتهما أن الأمة اجتمعت على يزيد ووحدة الأمة هى الهدف ) ، وبقي اثنان لم يبايعا هما : الحسين وابن الزبير – رضي الله عن الجميع - .

ليس من الإنصاف بأي شكل إذن أن نحذف كل مواقف الصحابة وكبار التابعين و نتمسك بموقفين لصحابيين اثنين فقط ، وفي سكوت هذا الجمع الغفير من الصحابة والتابعين ما يؤكد أنه لم يكن ممكنا في هذا الوقت أن يتولى الأمر غير يزيد بدون فتن ومعارك تحترق فيها الأمة مجددا ، ولو كان هذا يتم دون فتن لما رضي أحد من هؤلاء الكبار أن يسكتوا على ولاية يزيد دون أن يُقِيموا الأفضل والأولى من المسلمين ، ويؤكد سكوتهم هذا على صحة رأى معاوية – رضى الله عنه – وبعد نظره في أن استقرار الخلافة في هذا الأسلوب .

ويتوضح لنا هذا من نصائحهم للحسين – رضي الله عنه – لما أراد الخروج على يزيد ، فمنهم من كانت نصيحته ألا يفرق وحدة المسلمين ، ومنهم من كانت نصيحته ألا يغتر بأهل العراق أي أنه يعرف بأن الحسين أفضل وأولى ولكن ليس له شيعة واتباع وعصبية يمكنها أن تحسم الأمر له ، حتى ابن عباس وابن عمر نصحا الحسين بعدم الخروج ، وممن عارضه ونصحه ألا يخرج : ابن عمر ، وابن عباس ، ابن الزبير ( الرواية التي تذكر أن ابن الزبير حرضه ضعيفة ، ورواية أنه عارضه رواها ابن أبي شيبة بسند حسن) ، وأبو سعيد الخدري ، جابر بن عبد الله ، عبد الله بن جعفر ، أبو واقد الليثي ، المسور بن مخرمة ، عبد الله بن مطيع .. هؤلاء من الصحابة ، ومن التابعين : أخوه محمد بن الحنفية ، عمرة بنت عبد الرحمن ، أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ، سعيد بن المسيب ، الفرزدق ( صاحب العبارة الشهيرة : قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية ) .

( انظر : الطبري / حوادث 36، البداية والنهاية / حوادث 36 ، تاريخ الإسلام للذهبي / حوادث 61-80 ، سير أعلام النبلاء/ ترجمة الحسين 3/296 ، تاريخ دمشق لابن عساكر / ترجمة الحسين برقم 1566 – 14/214)

****

نأتي للمقصود من كل ما سبق :

هل يعني هذا أن أي إنسان استطاع اغتصاب الحكم وملك بالغلب يجب على المسلمين الخضوع له تحت دعوى تجنب الفتن واستقرار الأمة ؟

لست أدعى بالطبع أنني أهل للعلم ولا للفتيا ، وإنما فارق شاسع كبير بين السؤال بين الحكم الخاص بأي شخص مهما كان ابتعاده عن الدين ، ومهما بلغ من الفجور أو الفسوق أو حتى الكفر ، وفي زمن استطاعت فيه البشرية إقرار نظم تمكن الأمة من اختيار من يحكهما وبانتقال السلطة من سابق إلى لاحق في سلاسة وبدون فتن وحروب .. وبين أن يستشهد أحد في هذا المقام بفعل معاوية رضي الله عنه قبل ألف واربعمائة عام ، وفي ظروف قاهرة .

ولا يمكن لأي باحث جاد أو منصف أن يتهم معاوية رضي الله عنه بأنه المؤسس لنظام التوريث ، فليس معاوية أول ملك في التاريخ ، ولو كان يجوز أن نقول هذا لحولنا الاتهام عن معاوية إلى من ابتدع نظام الملك وربما اضطرننا جريا وراء هذا إلى اتهام نبي الله داود بحب السلطان وشهوة الملك لأنه ورث ملكه ولده سليمان !!

ليس معاوية أول ملك ، بل ولما تنازل حفيده معاوية الثاني عن الخلافة وتركها للأمة نشبت حروب بالفعل ثم حسمها البيت الأموي لثاني مرة وأمسك بالحكم مروان بن الحكم ، فإذا قال أحد : إذن نلوم مروان بن الحكم ، فقد أخطأ ايضا لأن الأمور لم تكن بعد مروان وراثية من الوالد لولده بل تولى البيت الأموي بعد عبد الملك أولاده الأربعة تباعا ، وفي المنتصف تولاها عمر بن عبد العزيز ، ثم تولاها بعد هشان بن عبد الملك ابن أخيه الوليد ، ثم خلع الناس الوليد وتولاها يزيد بن الوليد الذي خلعه مروان بن محمد والذي هزم بدوره أمام الدولة العباسية التي استلمت الأمور .

فظلم أي ظلم ، وجهل أي جهل أن يحمل معاوية ذنب ديكتاتور حديث مشكوك في ولائه لأمة المسلمين أصلا .

وسكوت الصحابة والتابعين عن ولاية يزيد ( الذي لم تثبت في حقه تهمة قادحة من رواية صحيحة ) لا يعني سكوت مسلمي اليوم في ظروف اليوم عن توريثهم لأي كائن كان .. لكن يظل الخروج على الحاكم محكوما بمقارنة المنافع والمساوئ ، ومن المقرر أن إنكار المنكر لابد ألا يؤدي إلى منكر أكبر منه ، وإلا صار أمرا بالمنكر كما قال العلامة ابن القيم .

إذن ، فلنخرج حادثة انتقال الخلافة من معاوية إلى يزيد من حديثنا عن توريث الحاكم في هذا العصر ، للاختلاف الكامل في الظروف الشخصية والموضوعية والزمن .. ونبحث كيف يمكننا مواجهة طغاة العصر الحالي الآن .