الأحد، أغسطس 24، 2008

المجتمع الإسلامي المشوه 3/3

اقرأ أولا:

المجتمع الإسلامي المشوه 1/3

المجتمع الإسلامي المشوه 2/3


قال سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه : ” إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ” . فإذا كان هذا قول الخليفة في وقت لم تكن فيه الدولة تملك من وسائل التأثير على الناس ولا مثقال ذرة مما أصبحت تملكه الدولة الآن من وسائل إعلام ، ومؤسسات تنفيذية تستطيع انتظام حياة الناس فيما يشبه النظام الآلي ، وبحيث يصبح الخروج من هذه المنظومة – إن أمكن – خروجا على القانون وعلى الشرعية وعلى النظام .. فما بالنا بما يمكن أن تفعل هذه السلطة في حياة الناس ؟

ولم نسأل ؟ وقد عشنا لنرى ما تستطيع الدولة أن تفعله بسطوتها ، حتى ليمكن أن يُدعم الفساد بل الإلحاد من بيت مال المسلمين ، وتستطيع صناعة القوانين التي تجعل الحرام بالاتفاق كالربا منظومة اقتصادية تحمى بقوة السلطان وتتحكم بحياة الناس .. بل رأينا كيف أن “الدول الإسلامية” في هذه الأيام تحاصر المجاهدين وتمنع عنهم الغذاء والدواء ليس إلا خدمة لليهود والصليبيين .. والإطالة في رصد الكوارث التي سببها انحراف الدولة في العصر الحديث ليس مجديا فالكل يرى والكل يعلم .

وإذن .. فكيف يكون طريق الإصلاح ؟

وهل يمكن استلهام نفس الطرق ونفس الأساليب ، ونفس الاجتهادات الفقهية “لعلماء قرون ما قبل الدولة المركزية” – إن صح التعبير – في صياغة أحكام واجتهادات لما بعد وجود هذه الدولة ؟

وإذان .. لدينا مجتمع إسلامي مشوه ، حائر بين انتمائه الإسلامي العميق ، لكن ضغط الواقع بمنظوماته الحديدية يجعل التناقضات والتشوهات ظاهرة للعيان ، ويجعل من التلفيق بين هذا الانتماء وبين الاستجابة لضغوط الواقع أمرا حتميا .. فإذا حاولنا أن نتفهم مصدر كل هذه الحيرة ومن أين تأتي ضغوط الواقع فلن نجد إلا هذا الشئ الذي ظهر منذ ثلاثة قرون فقط “الدولة المركزية” .. ومن أسف أنها ظهرت في وقت وافق تخلفنا ونكبتنا وانتقال القيادة من بين أيدينا إلى الغرب – العدو التاريخي للشرق – فكان ان استغلها الغرب كما يفعل كل عدو فوضعنا تحت حمايته وتهديد بوارجه في عصر الاستعمار ، ثم تحت حكم عملائه وصنائعه من أبناء جلدتنا وممن يتكلمون بألسنتنا ، ولكن قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس .

والأمة التي صنعت حضارتها بنفسها وبجهودها الشعبية وقت أن كانت الدولة قوية أو ضعيفة ، لا تستطيع الآن أن تنهض أبدا ، فحكامها أول من يستعد لضربها وإن لم يفعلوا طواعية فعلوا بأمر الأسياد . بل حتى المشروعات الاقتصادية التي لا تدور في فلك الغرب ويخشى منها على مصالح الدول الكبرى ( أو الوسطاء والمحتكرين في الدول الصغرى ) لا تتردد الجهات صاحبة المصلحة في تصفيتها .

فأي أمل يبقى في طريق النهوض الشعبي ، أو في محاولة إصلاح المجتمع من داخله ؟

هل حان الآن لمراجعة قاعدة الإمام البنا – رحمه الله – حول ” الفرد المسلم ، ثم البيت المسلم ، ثم المجتمع المسلم ، ثم الحكومة المسلمة … ” ؟ هل نستطيع في ظل هذه الدولة المركزية أن يصنع “المجتمع المسلم” حكومة مسلمة ؟

وهذا لو وصلنا بالأساس إلى هذا “المجتمع المسلم” ، المجتمع الذي يستطيع أن يدافع عن الإسلام باعتبارها قضيته هو ومصيره هو .. فهل يمكن الوصول لمرحلة المجتمع المسلم وفوق الجميع دولة مركزية تملك وسائل التأثير وقوة القانون ، فضلا عن وحشية الاستبداد وشراسة القمع ؟ .. وهي بما تملك من وسائل استطاعت أن تصل بنا إلى مرحلة المجتمع المسلم المشوه ، والذي أبسط ما فيه تلفيق الفتاة بين حجابها والموضة ، وأبشع مافيه أن يعجز الملايين عن كسر الحصار عن أشقاء لهم يموتون جوعا ومرضا أمام أعينهم .

( بالمناسبة : لا يوجد دليل واحد على أن الإمام البنا اعتمد على طريقة المجتمع وحده في هذا التغيير ، وإنما تبني هذه القاعدة وحدها من بين كل كلامه ومواقفه أمر اضطرت إليه الحركة الإسلامية لكي تدفع عن نفسها تهمة العنف ، وتؤكد اعتمادها الأسلوب السلمي في التغيير ، ولكن .. من يرضى ؟ )

وهل يدلنا أحد على نجاح هذه النظرية ( البيت المسلم الذي سيؤدي إلى المجتمع المسلم والذي سيؤدي إلى الحكومة المسلمة ) في أي تجربة من تجارب الشعوب في العصر الحديث تحت سلطان الدولة المركزية ؟ .. ربما استقر بنا المطاف إلى العكس تماما ، فإن الحكومة الباطشة تستطيع تسويق فكرها بإعلامها وسلطانها فتصنع مجتمعا على نمطها وله صبغتها ، والمجتمع بدوره يصبغ هذا على البيوت والأسر .

صدق أحد الدعاة إذ قال : كنا نظن – في السبعينات – أن الجيل القادم هو جيل النصر والتمكين ، فإذ بنا نجد أن الخلل تسرب إلى أبناء هذا الجيل نفسه . هذا هو عين ماحدث فعلا ، والحركات الإسلامية باختلاف أطيافها فوجئت هي نفسها بأن أبناءها يتفلتون منها ويدخل إليهم فساد المجتمع المحيط فبدل أن يكونوا جيل النصر والتمكين كانوا مرحلة أخرى في تعثر المسيرة الإسلامية ، ومن وحي الواقع أستطيع أن أقرر أن أكثر العناصر الفاعلة في الحركات الإسلامية ليسوا هم أبناء الإسلاميون القدامى بل هم العناصر التي أتت من خارج بيوت الإسلاميين .

والخلاصة في هذه النقطة أن البيوت المسلمة لم تصنع مجتمعا مسلما ، بقدر ما صنعت المجتمعات المشوهة بيوتا مشوهة .. ولا يمنع هذا أن الصحوة الإسلامية في انتشار ، لكنه أيضا انتشار يشوبه التشوه الفكري أو الأخلاقي كما ذكرنا من قبل .

وأوضح منه أن المجتمعات المسلمة لم تصل إلى الحكومات المسلمة أبدا ، رغم أنه لا ينافس الإسلام شئ ولا فكرة ولا أحد في أرض العرب والمسلمين ، وأي انتخابات (شبه) نزيهة تجعل الإسلاميين في المراكز الأولى ، وقد أصبح هذا من الحقائق التي يعرفها كل أحد .. وكل إنتاج المجتمع المسلم في سياق الحكومة المسلمة تمثل في ثلاث حالات لا رابع لها :

1) وصول للحكم عبر انتخابات نزيهة في بلاد غير مؤثرة أو لايمكن أن تهدد أمن القوى الكبرى ( تركيا مثلا )

2) وصول لجزء من الحكم في دول ملكية إما غير مؤثرة وإما مؤثرة لكن السلطات كلها تتجمع في يد الملك أو الأمير والحكومة كلها كزينة المجلس ( الكويت / المغرب / الأردن … )

3) وصول للحكم في ظرف استثنائي وبخطأ في الحسابات الدولية ( حماس في فلسطين )

وباقي البلاد ، ورغم الصحوة الإسلامية فيها لا تخطئها العين ، إلا أن الإسلاميين في السجون أو في المنافي أو لا توجد انتخابات ولا فرصة ليعبر الناس اختياراتهم .

أما إن وصل الإسلاميون للسلطة بالشكل السلمي ولم يكونوا واحدا من الحالات السابقة فلا مناص من ضربهم وتصفيتهم ( بداية من عدنان مندريس وحتى أربكان في تركيا ، مرورا بباكستان ، وحتى تجربة الجزائر ) .. ولا أوضح من تجربة حماس التي تنحت الآن في الصخر أسطورتها الفريدة . وتكتب في نفس الوقت قصة شعب عظيم يعض على الألم والجراح ويصبر على الجوع والخوف ولا يعطي الدنية في دينه ولا في وطنه .

إن تجربة حماس تنبئنا متى يمكن أن يعتمد الإسلاميون على المجتمع وعلى الشعب ، فإن الشعب الفلسطيني البطل لم يكن ليمكنه أن يضع حماس في الحكم ، لكنه يستطيع – وسائر شعوبنا العربية والمسلمة – أن يقف بكل قواه خلف حماس حين تصل للحكم ولو مات جوعا وألما .

وكذا تجربة حزب الله ، تستطيع أن تجد المراة العجوز تقف على أطلال بيتها أو على جثة وليدها وتقول : هذا فداء المقاومة والسيد حسن ، لكن لا يستطيع كل جمهور حزب الله على امتداد العالم العربي والإسلامي أن يضعوه في السلطة ، أو أن ينزعوا من السلطة أمثال السنيورة وجعجع وجنبلاط .

وكلا التجربتين – حماس وحزب الله – اضطرتا أن تستخدما سلاح المقاومة في الداخل ، وبه وحده تم تطهير غزة والوصول لحل المشكلة الللبنانية التي تعبت فيها الأقلام والكتب والوفود والبعوث حتى لقد أهلك عمرو موسى أحذيته جميعا دون حل !!

الشاهد : هل يمكن للمجتمع الإسلامي أن يصنع الحكومة المسلمة ؟ وإذا لم يكن صنعها ، غالبا ، وقت أن كانت الدولة بسيطة التأثير والنفوذ ، فهل يستطيع هذا بعد أن صارت الدولة متغولة ومتوحشة إلى هذا الحد ؟

أو دعونا نصوغ السؤال بشكل أكثر “تطرفا” : هل يصنع المجتمع المسلم حكومة مسلمة ؟ أم تصنع الحكومة المسلمة مجتمعا مسلما ؟

ودعونا نختم بهذا الجزء من السيرة لعله يعطينا عبرة .

لم يستطع النبي صلى الله عليه وسلم إقامة المجتمع المسلم في مكة ، وقد ” حاول الرسول – صلى الله عليه وسلم – جاهدا أن يقنع أهل مكة بأن قبولهم للحق لن يحرمهم ذرة من الخير الذي متعوا به ، فأبى الظالمون إلا كفورا ( وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شئ رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون ) .

ومن هنا اشتبك سادة مكة في حرب مع الإسلام ، اعتبروها دفاعا عن كيانهم المادي ووضعهم الاقتصادي إلى جانب ما هنالك من عوامل أخرى ” (1)

ولم يستطع النبي إقامة لا المجتمع المسلم ولا الدولة المسلمة في مكة برغم أنه أقام البيت المسلم .

بينما تفسر السيدة عائشة كيف هيأ الله المدينة لرسوله ، بمعركة بعاث التي أكلت رؤوس القبيلتين الكبريين في المدينة الأوس والخزرج ولم يبق من الكبار أحد إلا عبد الله بن سلول . تقول : ” كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد افترق ملؤهم وقتلت سرواتهم وجرحوا ، قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في دخولهم الإسلام “(2)

فإلى متى تحب الحركات الإسلامية ان تظل أسيرة المرحلة المكية ؟

———————

(1) فقه السيرة للشيخ الغزالي ص 111 . ط دار الشروق

(2) رواه البخاري

المجتمع الإسلامي المشوه 2/3

اقرأ أولا: المجتمع الإسلامي المشوه 1/3

اختلاف في غاية الخطورة حدث ما بين العصور الإسلامية والعصر الحديث ، اختلاف ترتبت عليه نتائج في غاية الأهمية وفي غاية الخطورة ، وأحسب أن الاجتهاد الإسلامي لم يواكبه بالقدر الكافي .. لقد نشأت الدولة المركزية ، ثم .. جاءت العولمة ودخلنا في عصر هيمنة القطب الواحد .

واستأذن القارئ الكريم وأرجو أن يصبر معي لقراءة هذا الاقتباس من كتاب العلم الكبير د. محمد عمارة في كتابه ( هل الإسلام هو الحل ؟ لماذا وكيف ) فبه سيتضح الفارق الضخم والتأثير الخطير . قال د. عمارة – باختصار وتصرف - :

” في التطور الحضاري لأمتنا الإسلامية هناك معادلة غير مفهومة لدى كثيرين ، تتمثل في التوفيق بين الانحراف المبكر للدولة الإسلامية عن الشورى وانتقال الخلافة إلى الملك العضوض ، وكذا انحراف الدولة في كثير من فتراتها عن العدل الاجتماعي ، وبين بناء وازدهار الحضارة الإسلامية كأعظم حضارات التاريخ الإنساني في ظل هذا الانحراف .. تلك هي المعادلة التي يخطئ في فهمها وحلها الكثيرون فيظلمون تاريخنا الحضاري .

وهذا الموقف الخاطئ نتج من إغفال حقيقتين هامتين من حقائق التاريخ الحضاري لأمتنا الإسلامية :

1- أن نطاق الدولة وآفاق تأثيراتها في ذلك التاريخ القديم لم يكن على النحو القائم الآن في الدولة الحديثة ، فنطاق الدولة الحديثة يكاد ألا يدع في الحياة ميدانا ولا مجالا إلا ومد إليه شمولية تأثيراتها وبصمات مؤسساتها .. الأمر الذي يجعل من انحراف الدولة الحديثة طامة كبرى تحول بين أتها وبين تحقيق أي نهوض .. حتى اعتبرها جمال الدين الأفغاني ” فرعونية جديدة ” لا يرى الناس إلا ما ترى . فقال : لا يصلح في الشرق “كما تكونوا يولى عليكم” ، ولكن : ” كما يولى عليكم تكونون ” .

ولم يكن هكذا تأثير الدولة فيما مضى حتى لقد حدد معاوية بن أبي سفيان نطاق تأثير الدولة عندما قال : ” لن نمنع الناس ألسنتهم ما خلوا بيننا وبين أمرنا ” .. فعندحدود استقرار عرش السلطان تبدأ قبضة الدولة في التراخي وينفتح المجال أمام الحقيقة الثانية .

2- أن الأمة .. ومؤسساتها الأهلية وجهودها الطوعية وأعمالها الخيرية وعلماءها ومجاهديها ومذاهبها وتياراتها الفكرية والتي ظلت خارج نطاق هيمنة الدولة ، فلم تعطل الانحرافات ( في نظام الدولة ) طاقات الخلق والإبداع فيها .. إن الأمة ومؤسساتها هي التي أبدعت حضارة الإسلام .. كانت الدولة تقود الفتوحات لكن الأمة هي التي كانت تنشر العربية وعلوم الإسلام بل كان الفتح والجهاد نفسه صناعة الأمة التي تقوم بها المؤسسات الطوعية .

فالأمة هي التي صنعت الحضارة ورعتها وطورتها ، وهي قد استطاعت ذلك رغم انحراف الدولة لأن نطاق الدولة وتأثرات انحرافاتها كان محدودا “(1)

هذا – باختصار – هو المؤثر الخطير الذي جد في التاريخ الإنساني والإسلامي خصوصا فقلب كثيرا من الموازين .. وجود الدولة المركزية التي أصبحت فرعونية جديدة – كما قال موقظ الشرق جمال الدين الأفغاني – والتي يمتد تأثيرها من خلال مؤسساتها إلى غرف النوم وداخل تلافيف العقول .. ولهذا فإن انحراف هذه الدولة الشمولية يكون انحرافا كارثيا وخطيرا وذا تأثير مدمر .

لقد استطاعت الأمة في التاريخ الإسلامي أن تتحرك بحرية في مجال البناء وصناعة الحضارة ، وكان نظام الوقف الإسلامي يعد الأسلوب الفريد الذي تميزت به الأمة في تمويل حضارتها بنفسها دون أن تحتاج إلى الدولة كنظام سياسي ، ودون أن يؤثر ضعف الدولة سياسيا على انهيار الأمة ثقافيا وحضاريا ، فحتى في عصر الحروب الصليبية وقد وقعت الأمة تحت تسلط الصليبيين لضعف النظام السياسي كانت الأمة هي الأرفع شأنا حضاريا حتى وهي مهزومة ومنها تعلم الصليبيون بعض الحضارة وارتفعوا عن التوحش الذي قدموا به من أوروبا حيث عصر الظلمات عندهم .

وإدراك هذا سيفسر لنا كثيرا من الاجتهادات الفقهية ، خصوصا أراء العلماء التي ترى عدم الخروج على السلطان الجائر والصبر عليه طالما أنه يقيم الصلاة ويسمح بإقامتها ، ويفسر لنا كذلك كيف أن كثيرا من علماء السنة يرون الصبر على الحاكم مهما جار وظلم إلا أن يكفر فإنهم يجمعون حينها على أنه ينعزل بالكفر إجماعا .

هذا الاجتهاد الذي يبدو متناقضا ، تحمل وصبر ثم مزيد من التحمل والصبر ومزيد من النصح والتحمل والصبر ، فإذا كفر فعلى كل مسلم أن يخرج ويبذل وسعه لخلع وعزل هذا الحاكم .. هذا الاجتهاد لا يفسره إلا أن هذا العصر كانت الأمة وعلماءها يملكون أن ينتقلوا في وقت بسيط إلى مرحلة الثورة بما يملكون من مكانة ومن قدرة يدعمها تمويل ذاتي من مؤسسات الوقف حيث لا يأخذون رواتبهم من الدولة ، وحيث هم وسيلة الإعلام الأقوى والأكثر فعالية بين الناس .

وسأتوسع بإذن الله في هذه النقطة عند إكمال سلسلة ( علماء السلطة وعملاء الشرطة ) ، لكن ما يهم في هذا المقام هو أن وجود الدولة المركزية ضرب مقومات الأمة ونقاط فعاليتها ومراكز تأثيرها في مقتل ، وخطف كل هذه العناصر لصالح الدولة .. وأبرز مثال هو ما حل بالعلماء والقيادات الشعبية للأمة .. وفي هذا المثال يقارن الدكتور عمارة بين عمر مكرم القائد المصري الشعبي الذي ضمنت له مؤسسة الأوقاف حريته واستقلاله عن الدولة حتى لا يستطيع الوالي جمع ضريبة من الشعب إلا إذا باركها السيد ( أي عمر مكرم ) ، وبين رفاعة الطهطاوي والذي برغم مكانته كان المثقف الموظف الذي إذا أنجز العمل الفكري أو الترجمة أعطاه الوالي مكافأة وأوسمة .

وهنا انتهت ثنائية الدولة والأمة التي كانت عبر العصور لتصبح الدولة هي كل شئ ، وهذا ما جر علينا النكبات لأن الدولة إذا انهزمت انهزمت معها الأمة ، ويحلل جلال كشك رحمه الله في كتابه ( ودخلت الخيل الأزهر ) فيقارن بين الحملة الفرنسية التي لم تستقر يوما في مصر برغم هزيمة المماليك أمام الفرنسيين لأن الأمة كانت حية تولت قيادة الجهاد ، بينما بعد حوالي مائة عام أتى الإنجليز فاحتلوا مصر فاستطاعوا أن يقيموا فيها سبعين سنة ، لأن الأمة والدولة انهزمتا معا بهزيمة جيش الدولة وفشل ثورة عرابي .

وفي إطار هذا التحليل ، الدولة المركزية التي ضربت الأمة ، يحدد جلال كشك أربع ( في كتابه : الناصريون قادمون ) محطات فارقة هي : ضربة محمد علي ، الاحتلال الإنجليزي ، ضربة عبد الناصر لمؤسسات المجتمع المدني ، ضربة مبارك لشركات توظيف الأموال .. هذه هي المحطات التي بدا في كل منها أن الأمة على وشك إيجاد الحل لصناعة المجتمع المدني أو مجتمع البورجوازية الصناعية لتستمر النكبة ويطول أمدها .

وإذا أحببنا أن نركز على الحالة المصرية ، فسنجد أن المصريين منذ قديم شعب تستقر معه نظام الدول لانعدام وجود العصائب والقبليات التي هي أكبر من الدلة حتى يقول ابن خلدون في هذا ” الأوطان الخالية من العصبيات يسهل تمهيد الدولة فيها ويكون سلطانها وازعا لقلة الهرج والانتقاض ولا تحتاج الدولة فيها إلى كثير من العصبية كما هو الشأن في مصر والشام لهذا العهد إذ هي خلو من القبائل والعصبيات كأن لم يكن الشام معدنا لهم ( أي للقبليات والعصبيات ) كما قلناه فمُلك مصر في غاية الدعة والرسوخ لقلة الخوارج وأهل العصائب إنما هو سلطان ورعية ودولتها قائمة “(2)

فإذا أضفنا إلى ظهور الدولة المركزية ، ظهور العولمة وهيمنة القطب الواحد ، ثم سيطرة هذا القطب على حكام المنطقة العربية بالذات حتى أصبح الواحد فيهم يتفانى في الخدمة ولو لم يطلب منه ، وهو يفعل ويحكم ويسيطر بحكم سيطرته على مؤسسات الدولة جميعا ( حتى الجمعيات الأهلية والخيرية ) .. فهل يمكن أن نتخيل إلى أي حد يمكن أن يصل انحراف الدولة التي ابتلعت الأمة ، وبالتالي إلى أحد يمكن أن يكون الانحراف كارثيا ومدمرا وفارقا في مسيرة الأمة نحو نهوضها ؟؟؟

————————–

(1) انظر : هل الإسلام هو الحل . د. محمد عمارة . ص 110، 111 . ط2 . دار الشروق . 1418 هـ ، 1998 م

(2) انظر : مقدمة ابن خلدون (1/207) ط. دار الفكر ، بيروت . 1421هـ / 2001 م


المجتمع الإسلامي المشوه 1/3

لقد صنعت الحركات الإسلامية بناءا عظيما حقا ، فالبناء الدعوي الذي أقيم في المجتمعات الإسلامية بدأ دائما من الداخل من قلب هذه المجتمعات ، وبدأ دائما بجهود فردية لم يدفعها إلا إيمانها بالإسلام ورغبتها في تبدل حال المسلمين من الذل والانكسار إلى العزة والنصر .

لم تكن الحركات الإسلامية إلا نبع محتمعاتها ، فلم تكن امتدادات لمشروعات دولية أو إقليمية ، وإن حاولت بعض القوى احتواء وتوظيف الحركات الإسلامية وفي الأعم لم تنجح في هذا ، ولم تتلق الحركات الإسلامية دعما من الخارج أو ماوراء الخارج .. هي نبت طبيعي كانت قوانين الطبيعة تهيئ لإنباته ، فالبذرة الإيمانية موجودة ، والبيئة الخصبة موجودة ، وحوادث الزمان تدفعها للظهور والنماء.

واستطاعت الحركات الإسلامية بإخلاص قادتها وبصفاء ونقاوة معدن الجماهير المسلمة أن تكسر قاعدة الشاعر الذي قال :

متى يبلغ البنيان يوما تمامه *** إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم

فرغم كثيرة الهادمين ، وبرغم أنهم طغاة جبارين متوحشين ، لم يدخروا جهدا ولا وقتا ولا طاقة في حرب الإسلام حربا لم تعرف الأخلاق إليها سبيلا ، إلا أن الصحوة الإسلامية اكتسبت مساحات واسعة في عقول وقلوب الجماهير المسلمة ، وصار الإسلام في هذه البلاد وبين تلك الجماهير الخيار الأول وريما الوحيد ، وأي انتخابات شبه نزيهة تحمل الإسلاميين مباشرة إلى المراكز الأولى .

وأنه إذا كنا نفهم أن البنيان لا يمكن أن يستقيم ويعلو إذا كان ألف يبنونه وراءهم هادم واحد يدمر ما بنوا ، فكيف إذا كان الذي يبني واحد والذي يهدم ألفا ؟ .. بهذا نعرف عبقرية البناء الإسلامي وعمق تجذره وقوته في بيئئته الإسلامية .

ولكن الإنصاف يقتضي أن نقول إن البنيان لم يبلغ تمامه ، وأن مجتمعاتنا المسلمة تقع اليوم في موقف حرج ، بما يجعلها غير مكتملة “الإسلامية” كما أنها ليست بعيدة عنه .. ربما يصح أن نطلق عليها “المجتمع الإسلامي المشوه” .

ويتبدى هذا التشوه في مجالين كبيرين : تشوه أخلاقي وتشوه فكري .

فأما التشوه الأخلاقي فهو الذي لا أحسب أحدا ينكره ، كموضات الحجاب التي تعبر عن رغبة أصيلة وقوية في الالتزام بالحجاب باعتباره انتماءا إسلاميا ، أو حتى باعتباره ضغطا مجتمعيا ، فإذا كان الفتاة تلبسه لمجرد شعورها بأن المجتمع لا يقبل أن الفتاة المسلمة غير محجبة ، فهذا دليل على هوية المجتمع وطبية انتماءاته واختياراته .. لكن الضغط الإباحي القادم من طوفان وسائل الإعلام لا يجعل الأمر خالصا ، وهو ضغط قوي هادر ولا تقارن قوته وسطوته أبدا بما يملكه التيار الإسلامي من وسائل إعلام قليلة العدد ضعيفة الإمكانيات في عمومها .. وهنا كان لابد من التوفيق أو التلفيق ، فظهرت أنواع الحجاب التي تمثل التأثر بالإعلام المنحل وتياره الهادر والتي وإن عبرت عن رغبة إسلامية عميقة فإنها لا تتفق بالمطلق مع الإسلام .

يمكنك كذلك أن نجد موظفا حريصا على الصلاة ، لكن ضغط الأحوال المالية عليه تجعله يقبل الرشوة او حتى يطلبها ، ويختلق لنفسه المعاذير ، أو لا يعتبر إنهاء مصالح الناس مهمة إسلامية كبرى تفوق قيمة صلاة السنة وإنهاء أذكار ما بعد الصلاة .

وكثير من الشباب الذي يعمر المساجد في رمضان ويبكي بكل إخلاص ، هو من المدخنين ، وكثير من المدخنين يتجاوز هذا إلى المخدرات .. وقد تجد ذا معدن طيب لا يبالي هل يأكل من الحلال أو مما فيه شبهة ، ولم يعد سرا أن أغلب قيادات الدولة الكبار خصوصا ضباط الأمن هم أعضاء مخلصون في بعض الطرق الصوفية ، حتى إن مشايخ الطرق الصوفية في مصر الآن هم أفضل من يمكن أن يتوسط لطالب العمل ويضعه في عمل مرموق ، هو نفس الضابط الذي يمارس التعذيب في باقي اليوم .

ومظاهر التناقضات كثيرة ، وكلنا يستشعرها ، ولا ينكرها أحد .. وليس من الحكمة أن نقف أمام هذه التناقضات فلا نفعل إلا أن ننعي الأمة والناس ولا نحسن إلا أن نلطم الخدود ونشق الجيوب ونشتم الزمان والمكان والأحوال .

إنها وإن كانت مظاهر سيئة وتعبر عن أمراض عارضة أو مستوطنة ، إلا أنها في المنظور الإيجابي تعبر عن انتماء إسلامي عميق ، يبحث دائما تحت ضغط الواقع والظروف لكي يتكيف ويتأقلم ويتوافق مع شهوات النفس وأغراضها ومشاكلها .. وحسبنا أن نبني على هذا الانتماء فننميه ونعظمه .

أما التشوه الفكري ، فقد يختلف البعض حوله .

فلاشك أن كثرة الجماعات العاملة للإسلام على الساحة دليل لا يقبل الشك على تجذر الانتماء الإسلامي في النفوس ، غير أنه حينما نجد كثيرا من تلك الجماعات تركت مالقيصر لقيصر وانشغلت هي بما لله فقط ، ثم قصرت ماهو لله على شعائر ظاهرية وبعض الأعمال الخيرية فقط .. فحينئذ يجب أن تكون وقفة .

وحين نرى بعض هذه التيارات تنسحب من معارك الواقع الكبرى لتنشغل بقضايا فرعية أو هامشية ، أو غير مطروحة في هذا الزمان والمكان فتفرغ في هذه القضايا جهد وطاقة رموزها وشبابها .. فيجب أن تكون وقفة .

ثم إذا رأينا أن بعض التيارات تستخدمها السلطات ، وإن كان على غير علم وقصد منها ، في شرعنة ظلمها وجورها واستبدادها وإلباسه ثوب الإسلام وحشره في أحكام الشريعة ، حتى يصبح الحاكم مهما كفر هو “ولي الأمر ” ويصبح قائل الحق عند السلطان الجائر من “الخوارج” بدل أن يكون “سيد الشهداء” .. فهنا يجب أن تكون وقفات ووقفات ووقفات .

وخلاصة ماسبق ، أن لدينا انتماءا إسلاميا محذوفا من القوة الإسلامية على الساحة ، بل ربما وُظّف ضد الصحوة نفسها ، وليس بعيدا أن الأمر وصل لمراحل كارثية حين أفتى أحدهم بأن بشرعية اغتيال إسماعيل هنية لأنه خارج على ولي الأمر الشرعي محمود عباس !!

ويجب أن نبحث لفك هذه العقدة التي تضغط على هذا المجتمع الإسلامي فتجعله مشوها ، فهو مابين انتمائه الإسلامي وما بين ضعط الواقع الرهيب .

اقرأ:

المجتمع الإسلامي المشوه 2/3

المجتمع الإسلامي المشوه 3/3