الأحد، ديسمبر 27، 2009

عاشوراء، ومعنى تفوق الأمة المسلمة

ليس من قبيل المصادفة أن يخرج المسلم من حدث الهجرة إلى حدث عاشوراء، فلا شيء في كون الله تعالى إلا وهو مخلوق بقدَر، ولئن كانت تلك أيام الله، فيا ترى ما حكمة أن يكون يوم عاشوراء هو المناسبة الأولى التي تنتظر المسلم بعد خروجه من أيام الهجرة؟

(1)

لقد كانت الهجرة بداية تأسيس الدولة الإسلامية، والدولة الإسلامية هي الصورة الأخيرة التي ستعطي المثال لأهل الأرض جميعًا، فتثبت لهم أن هذه الرسالة هي رسالة الله الخاتمة لجميع البشر، وأنها قادرة على إنشاء النظام الحضاري الأمثل في عالم البشر، كما هي - في نفس الوقت - قادرة على منح السعادة في الآخرة.

لقد كانت الهجرة تبعث في الوجود {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وكانت عاشوراء تحدد صيغة ومعنى هذه الخيرية، وسر هذا التفوق الذي تميزتْ به الأمة الإسلامية.

لَم يكن الإسلام مجرد منهج تغيير؛ بل كان منهج تطور وتفوق وتميز؛ أي: إنه ليس تغييرًا فقط، وإنما هو تغيير إلى الحال الأفضل، وكان مِنْ ضرورة هذا أن يتعامَل مع “الوضع القديم” بشكل مختلف.

لقد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهلُ الجاهلية يُعَظِّمون يوم عاشوراء، وكانت قريش تصوم هذا اليوم وفيه تكسو الكعبة[1]، وحين قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة رأى اليهود أيضًا يصومون يوم عاشوراء، فسألهم: ((ما هذا؟))، قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجَّى الله نبي إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((فأنا أحق بموسى منكم))، فصامه وأمر بصيامه[2]، وفي رواية: ((نحن أولى بموسى منكم))[3].

فعلى هذا كان منهجُ الإسلام في الإصلاح، وبالأحرى منهجه في استلام راية الرسالة الخاتمة وكلمة الله الأخيرة إلى العالمين، منهج يجوز أن نسميه: “نحن أوْلَى”.

فكل خير في هذه الحياة، وإن فعله غيرُنا، فنحن أولى به منهم؛ أي: نحن الأولى بأن نفعله منهم، وتلك الأمة، وبما أنها خير أمة أخرجتْ للناس، فإنها الأحقُّ والأجدر بأن تكون صاحبة اليد العليا والسابقة إلى الخيرات مِن بين كل الأمم، هكذا سجل الله في كتابه مِن صفات المؤمنين؛ {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61].

وحتى إذا كان أول منشأ هذا الخير عند غيرهم، ولذا عبرت الآية بلفظ “المسارعة”؛ أي: إن ثمة منافسين آخرين يسارعون إلى الخير، لكن هذه الأمة أولى بالسبق والتفوق، وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم - أنه لو دعي إلى مثل حلف الفضول في الإسلام لأجاب[4].

وأول الخير وأرفع المنازل هو ما سنَّه الأنبياء من قبلنا، فنحن أوْلى بكل نبي ممن يدَّعي صلته به وانتسابه إليه، وعلى هذا رفع النبي شعار هذه الأمة: ((نحن أولى بموسى منكم)).

(2)

غير أنه مما يستلفت النظر أنه كان تميزًا بالفعل والعمل، لا بمجرد الدعوى والشعارات، فلم يكد النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((نحن أولى))، إلا وأتبع ذلك بالفعل: “فصامه - أي: عاشوراء - وأمر بصيامه”.

إنها ولاية وأحقية يُثبتها العمل، وتترجمها الحركة العملية في واقع الأرض، ولاية لا تكتفي بالشعارات، ولا تتوقف عند أطراف اللسان، وذلك هو المنهج الإسلامي كما تحدث عنه القرآن الكريم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، فلم تكن خيرية وفقط، وإنما كانت الخيرية لأن هذه الأمة تأمُر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.

بل لقد كانت هذه الخيرية تسعى نحو التفوُّق على الموروث القديم من خير الجاهلية القديم والمنتسبين إلى الأنبياء، أو على ما عند الأمم الأخرى من خير؛ قال ابن عباس - رضي الله عنهما - حين صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تُعَظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فإذا كان العام المقبل - إن شاء الله - صمنا اليوم التاسع))[5].

فهنا سعت الأمة - في جيلها الذهبي الفريد - إلى التميُّز عن اليهود والنصارى، فكان أن وجَّههم - صلى الله عليه وسلم - إلى الزيادة في العمل؛ ليتحقق به التميُّز، فسنَّ صيام يوم التاسع من المحرَّم.

وهي حينئذ خيرية مشروطة بالعمل، وولاية وأحقية بحق الفعل، وبحق تغيير الحياة، لا بمجرد الدعوى والكلام، وعلى هذا فإذا لم يكنْ عمل، فليس ثمة خيرية، ولا أحقية، ولا ولاية.

(3)

إن المرء ليشعر بالفخر، كما يشعر بالمسؤولية، وهو يحمل منهجًا يرتفع فوق العصبية والعنصرية والطبقية، وسائر أوصال الجاهليات، لا سبيل في الإسلام إلى الدرجات العلى عند الله وعند الناس إلا بالعمل وبذل الخير، ولا فرق في هذا بين عنصر وعنصر، ولا بين جنس وجنس؛ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم} [الحجرات: 13].

في الإسلام تذهب الجاهليات ويبقى معنى الإنسانية، ذلك ما قاله محمد - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله قد أذهب عنكم عبية - كِبْر - الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب))[6].

إنها إنسانية تعالتْ على كل الفوارق بين البشر، وهذا شيء لا نعرف أحدًا أتى بمثله، منذ أفلاطون الذي فلسف لعلو شأن الفلاسفة ذوي العقول، كما فلسف لعبودية الضعفاء، وحتى أيامنا هذه التي سادتها فلسفة “الرجل الأبيض”.

وحيث استقرت لدينا عالمية المنهج الإسلامي، ومساواته بين البشر، واستحقاق الولاية والخيرية فيه بالعمل، فليرنا كل امرئ عمله.

ــــــــــــــــــــــــ

[1] رواه البخاري (1515)، ومسلم (1125).وقال بعض شراح الحديث أن هذا قد يكون أتى العرب من أهل الكتاب باعتباهم أهل علم أو قد يكون من بقايا دين إبراهيم -عليه السلام-

[2] رواه البخاري (1900)، ومسلم (1130).

[3] رواه البخاري (3727).

[4] رواه البيهقي (13453) وغيره من أصحاب السير، وصححه الألباني؛ انظر: الألباني، “صحيح السيرة النبوية”، المكتبة الإسلامية، عمان، الأردن، الطبعة الأولى ص35، 36.

[5] رواه مسلم (1134).

[6] رواه أبو داود (5116)، والترمذي (3270)، وأحمد (8721)، وصححه الألباني في التعليق على “أصحاب السنن”، وحسنه شعيب الأرناؤوط في التعليق على “المسند”.

نشر في الألوكة، و قصة الإسلام

الاثنين، نوفمبر 23، 2009

الحركات الإسلامية؛ انسحاب وتراجع أم عودة للتربية 3/3

اقرأ أولا:

الحركات الإسلامية .. انسحاب وتراجع أم عودة للتربية (1/3)

الحركات الإسلامية .. انسحاب وتراجع أم عودة للتربية (2/3)

لقد بدأت في كتابة هذا الموضوع قبل شهر (في يوم 25 أكتوبر 2009) ثم تعطلت عنه لبعض ظروف، وكنت أود أن أعلق به على تصريحات صادرة عن الإخوان الذين يلمحون إلى أن السياسة أخذت أكثر مما ينبغي وأن لابد من الاهتمام أكثر بالتربية، وهي التصريحات التي يبدو أنها تستبق ما سيحدث من تزوير في الانتخابات القادمة ثم ستسخدم في التقليل من شأن خسران مقاعد البرلمان “فنحن في النهاية جماعة تربوية إصلاحية من وسائلها السياسة فإن حُرِمنا منها فلا بأس”.

وكذلك على ما نشر في الحلقة الأخيرة من مذكرات شيخ المدرسة السلفية السكندرية الشيخ ياسر برهامي، وفيها قال بأن الوقت الحالي لا ضرورة فيه لتعليم البنات في الجامعة لأن المفاسد المترتبة على دخول الجامعة والاختلاط فيها أكبر بكثير من مكاسب الحصول على شهادة ليست لها قيمة حقيقية إلا الوجاهة الاجتماعية.

وبالمناسبة فإني أرى أن هذا الرأي وجيه فعلا وله ما يبرره ولست أستنكره من حيث المبدأ.

ولكن …

المشكلة الحقيقة والفاعلة ومكمن الأزمة أن هذه هي النتائج التي أوصلنا إليها الوهم القائل بأنه يمكن عبر الوعظ واجتذاب الأنظار وتصحيح الوعي والتربية (وكل هذا يتم بالإمكانات المحدودة التي لا تذكر بجانب إمكانات الأعداء الجبارة في الإفساد) أن تزيد رقعة الصالحين في المجتمع وأن يظل الصلاح ينمو والفساد ينحسر حتى يأتي وعد الله بالنصر.

لقد ثبت بعد السنين أن الصلاح هو الذي ينحسر وتصيبه الآفات، وأن الفساد هو الذي ينمو ويتكاثر، وأن معركة الصلاح مع الفساد تنتج مجتمعا فاسدا مغطى بحجاب أو لحية، يكثر فيه المتبرجة بحجاب والمصلي الذي يأخذ الرشوة والضابط الذي يعذب الناس ثم يهيم في طريقة صوفية، هذا ما سميته في موضوع فائت (المجتمع الإسلامي المشوه - 2 - 3).

ولكن منذ شهر وحتى لحظة كتابة هذه السطور (23 نوفمبر 2009) بدا بوضوح وصراحة أشد ما كان ظهر لي قبل شهر.

لقد ظهرت مبادرتان من الإخوان، ومقالان –هما في قيمة البيان- للمدرسة السلفية السكندرية، جميعهم يبدو فيه الفشل واضحا ومعترفا به وإن كان عند الإخوان أوضح لأنه في الحقيقة أشجع ولا يجيدون تلبيس المواقف السياسية ثوب الشرع كما يجيد هذا السلفيون.. وسأقول كيف بعد قليل.

صدرت عن الدكتور عصام العريان مبادرة مفادها أن التنظيم بشكله الحالي غير ذي جدوى وأن الأفضل هو أن يتحول إلى مجرد تنسيق بين العاملين في الإصلاح، فإن هذا يزيل التخوف الأمني ويفتح طريقا أوسع أمام الأعمال الخيرية ويحرر الموهوبين والمتميزين من قيود التنظيم وأعبائه .. إنها ببساطة دعوة لحل الجماعة أو شكلها الحالي على الأقل.

والثانية كانت أكثر وضوحا وصراحة فقد كانت للدكتور محمد البلتاجي وفيها يعرض بوضوح التخلي تماما عن الجانب السياسي والانسحاب منه والتفرغ للأعمال التربوية وترك السياسة لأهلها حتى التدخل لدعم مرشح على حساب آخر في مقابل العمل في الساحة الدعوية والتربوية بأمان.

القيمة الأولى لهاتين المبادرتين أنهما يعبران عن نتائج كل الطريق السابق عند من اجترأ وحاول أن يفكر خارج الصندوق الإخواني المغلق الذي يفضل السير في الطريق الذي هو فيه مغلق العيون والآذان واثقا –لا أدري كيف- أن هناك لحظة ستتغير فيها الأمور لصالح الحق ولقلب الباطل.

أما القيمة الثانية فهي التعبير عن أن الجماعة صارت تعاني أزمة حقيقية تبحث عن حل، كما أنها صارت بلا أوراق ضغط على الإطلاق فهي لا تفعل إلا تستجدي الدولة بطلب الأمان وفقط وبتنازل عن ثوابت كبرى عبر الفكر الإخواني كله.

وأما المقالين السلفييْن فالأول للشيخ ياسر برهامي بعنوان “المشاركة السياسية وموازين القوى” وقال فيه بوضوح إن اللعبة السياسية الحالية لا تسمح بمشاركة السلفيين، لأنها تتطلب التنازل عن ثوابت إسلامية لا يمكن بحال التنازل عنها، وأن تاريخ من دخلوا اللعبة السياسية (يقصد الإخوان) يفيد بأنهم قدموا التنازلات ولم يحصلوا على ثمرة (وهو صادق في هذا حقا).

ولكن الشيخ برهامي لم يطرح حلا، ولا أفصح كيف يجب أن تتعامل الحركة الإسلامية مع هذا الواقع المر؟ لقد فضل الانسحاب من كل هذه اللعبة السياسية التي لا تسمح بدخول الحركات الإسلامية.

هذا الانسحاب برره وأوضحه أكثر المقالُ الثاني وهو للشيخ عبد المنعم الشحات الذي يبدو منظر المدرسة السلفية السكندرية وقال بأن هذا الانسحاب هو الرأي الشرعي الصحيح (!!) واستدعى موقفا تاريخيا مليئا بالالتباس من سيرة الإخوان وهو موقف رفض الهضيبي للقانون المدني السنهوري (وهذا الموقف في حقيقة الأمر حجة عليه لا حجة له ولكن لهذا الحديث مقام آخر).

ثم قال بأن منهج الحركة السلفية دعوة الناس حكاما ومحكومين(!!)

ولست أدري هل يخدع نفسه أم يخدعنا؟ وعذرا لهذه الألفاظ القاسية ولكنها أفضل ما استطعت أن أجد. ماذا نسمي داعية مثقفا (أشهد أنه كذلك) متابعا للحال والواقع (أشهد أيضا بهذا) يريد أن يقنعنا بعد كل هذه السنين مع المحكومين وبعد كل هذه التجارب مع الحكام أنه بالوعظ والدعوة قد يصلح حال الحكام والمحكومين؟

وإذا، فما حاولت أن أثبته من أن منهج الاكتفاء بالوعظ والتوعية والتربية يفضي بنا إلى الانسحاب والتقوقع والتراجع أكثر أمام مواكب الفساد، لم يحتج إلا إلى شهر واحد لكي يكون واضحا وصريحا وصادرا عن فم القيادات الإسلامية ذاتها.

ولكن.. ألا يعني الانسحاب أن الإسلام لا يملك حلا لمثل هذه المواقف؟ وأن الشرع الذي طالما تغنينا أنه قادر على استيعاب المستجدات قد أصبح عاجزا خالي الوفاض؟ وأن الأعداء قد استطاعوا إنشاء أنظمة سياسية وشبكات قانونية وأحوال واقعية ضربت الإسلام في مقتل فلا يحر أمامها جوابا؟؟؟

وصحيح أن تجربة دخول الإخوان في السياسة لم تأت بثمرة ذات قيمة، ولكن هل هذا لخطأ في دخولها أصلا، أم لأنهم لم يكونوا أكفاء لخوضها؟

ليكن هذا أو ذاك: ألا يخبرنا أحدكم ثمرته ذات القيمة التي لم تمسسها نجاسة السياسة من قريب ولا من بعيد؟؟

الحركات الإسلامية؛ انسحاب وتراجع أم عودة للتربية 2/3

اقرأ أولا: الحركات الإسلامية .. نسحاب وتراجع أم عودة للتربية (الجزء الأول)

يحتاج الكلام عن منهج التربية هذا إلى كثير من الحديث، ليس لأن الموضوع ملتبس وشائك وغير واضح، بل لكثرة ما ألبست الحركات الإسلامية على مناهجها ثوب الشرعية وحاولت تدعيمها بالأدلة من القرآن والسنة.

غير أن الحركات التي تتفق على أنه لا يجوز الاستدلال في الحلال والحرام إلا بما صح من الأدلة، ولا أن يؤخذ في أمر مهم بحديث ضعيف، لا تمانع بشكل عملي أن تستند إلى روايات ضعيفة.

وإن أبرز دليل على هذا رواية تربية النبي –صلى الله عليه وسلم- للصحابة في دار الأرقم، فدار الأرقم لم تصح فيها رواية ولا توجد في كتب السيرة الصحيحة (1)!!

ربما كان هذا جهلا وليس تعمدا للاستدلال بالرواية الضعيفة، لكن الحقيقة العملية أن معلومة ضعف دار الأرقم كفيلة فعلا بهدم المنهج التربوي للإخوان الذي تأسس عليها بشكل كبير، وصاغ منها مفهومه للتربية والسرية وأجواء المرحلة المكية، ثم هو كفيل مرة أخرى بهدم الحل المتوقع لظروف المستقبل المنظور الذي يُجبر الحركة أن تعود أدراجها من الساحة السياسية إلى المحضن التربوي.

ثم إن ضعف (2) رواية إسلام عمر التي فيها دخوله المفاجئ على “أسرة تربوية” مسؤولها خباب بن الأرت وأعضاؤها سعيد بن زيد وزوجته فاطمة بنت الخطاب، إن ضعف هذه الرواية يهدم الاستدلال بكون هذا النظام التربوي جزءا من الشرع ينبغي الالتزام به.

وبالمناسبة فإن ضعف هذه الروايات لا يعني أنها لم تقع تاريخيا، بل ربما وقعت وربما لا، إنما هو ينفي جواز الاعتماد على الضعيف من الأدلة في انتهاج منهج أو رسم خطة مستقبلية لمنهج إصلاحي يستمد نفسه من الإسلام، فضلا عن تدعيم أو تبرير منهج بدا فشله.

وأما الحركة السلفية التي ينشر بين الحين والآخر أن لها “بذور” تنظيم، أو الإمساك ببضع جلسات قرآنية أو فقهية، فلايبدو لها حتى اللحظة وعلى حد علمي منهج واضح في الإصلاح، فالقوم ممسكون بشعار “تصحيح العقيدة” وببعض “الهدي الظاهر”، ويتوقعون أنهم –لا أدري كيف- سيستطيعون عبر ما يُسمح لهم به من منابر أن يغيروا ما بأنفس الناس فيغير الله ما بالبلاد والعباد.

من المدهش أن ثمة اتفاقا عاما بين الحركات الإسلامية التي لا تملك أن تفعل شيئا، عن “فقه المرحلة المكية” والذي يتمثل في أن شعارها السكوت والصبر وكف اليد و… التربية.

هذا الاتفاق غير المكتوب جعل المرحلة المكية وكأنها شرط “يجب” أن تمر به كل الدعوات، ولابد لها أن تمر به وإلا فهي ليست على هدي النبي ومنهجه.

أحسب أحيانا أن التاريخ عند الحركات الإسلامية ليس فيه إلا “المرحلة المكية” وفقط، بل ليس فيه إلا “فقه الابتلاء” في المرحلة المكية، فلا يكاد يسلك أحدهم –فيما نرى ونسمع- طريقا واضحا للخروج منها إلى المرحلة المدنية.

صحيح أن النبي عاش في مكة مضطهدا، ولكن السؤال المفيد هو مالذي فعله النبي طوال هذه الفترة؟ إننا لنجد أنه لم يتوقف لحظة مؤملا أن يزيد عدد من أسلموا في مكة، فيتكاثر المؤمنون حتى يمكنهم قلب ميزان القوة في مكة أو حتى إجراء انتخابات تضع أبا جهل وترفع أبا بكر.

لقد تحرك النبي على مستويات عدة، كان أهمها مما يضرب في صميم موضوعنا الآن، أنه ذهب إلى الطائف –الخصم العنيد لمكة- لطلب الحماية ليبلغ دعوة الله، ثم عرض نفسه على القبائل طالبا منهم الحماية أيضا، ثم وفقه الله لمجموعة من الأنصار في المدينة لم يطلب منهم سوى أن يحموه حتى لو داخل المدينة فقط وهو ما كان.

إنها تحركات سياسية فاعلة لا نكاد نرى فيها لمحة من هذا المنهج التربوي الذي تعتمده الحركات الإسلامية الواسعة، ولم يتوقف النبي –صلى الله عليه وسلم- بعد كل مشكلة ليبحث في أمر التربية، فلقد ارتد البعض بعد حادثة الإسراء والمعراج وارتد بعض من هاجر إلى الحبشة ونطق البعض تحت العذاب بكلمة الكفر واستبطأ بعضهم النصر. لم يتوقف النبي بعد كل مشكلة ظهرت ليقول بأن الحل هو مزيد من التربية .. مزيد من المعسكرات .. مزيد من ضرورة التوعية، كما لم يفني عمره يطالب قريش بتطبيق الديمقراطية ويبقى منتظرا أن يسمعوا أو يعقلوا أو يقتنعوا أنهم لو قالوا لا إله إلا الله لملكوا بها العرب والعجم.

ومنذ اللحظات الأولى كان للنبي أتباع خارج سيطرة قريش، وحرص على أن من يسلم من خارج القبائل يبقى مسلما في قبيلته ولا ينضم إليه تحت العذاب في مكة ولا حتى كي يأخذ قسطه من التربية ويحفظ ورده من القرآن والأذكار، وبعض هذه المجموعات عاد بعد الهجرة كما في حالة غفار وبعضها لم يعد إلا بعد استقرار الدولة تماما كما في حالة مهاجري الحبشة الذين عادوا في السنة السابعة للهجرة.

——————

(1) وإذا بحثت في كتب السنة فلن تجد ذكرا للتربية في دار الأرقم لا عند أصحاب الصحاح ولا السنن ولا في مسند أحمد، ولم أظفر في كتب السنة المشهورة (البخاري - مسلم - أبو داود - الترمذي - النسائي - ابن ماجه - الموطأ - مسند أحمد - سنن الدارمي - صحيح ابن حبان - مسند أبي بعلى - المستدرك) إلا بروايات ضعيفة في مستدرك الحاكم ضعفها الذهبي أو سكت عنها لضعفها.

(2) انظر: د. أكرم العمري: السيرة النبوية الصحيحة ص180، ود. إبراهيم العلي: صحيح السيرة النبوية ص80.

اقرأ: الحركات الإسلامية؛ انسحاب وتراجع أم عودة للتربية 3/3

الحركات الإسلامية؛ انسحاب وتراجع أم عودة للتربية 1/3

موضوع متشعب، لا يكاد ينحصر في عبارات، فكل عبارة تحتاج مزيدا من الشرح وإثباتها بالأدلة، وكل كلمة تكاد تصطدم بحركة إسلامية عاملة على الساحة، بما يجعل الخوض فيه يُفقد الأصدقاء والأحباب جميعا..

وبداية، فلا يخفى أن الساحة الإسلامية، والسنية تحديدا، تعيش أزمة بالغة، وأبلغ تعبير عن هذه الأزمة هي اختلاف الاتجاهات والتيارات فيها، لا أقول أن كثرة التيارات دليل سوء، ولكنها بلاشك دليل أزمة، إذ لا يملك أحدها أن يثبت بشكل عملي واقعي أن منهجه هو الأنفع والأنجح والأصلح، إذ الواقع يثبت عكس هذا على طول الخط، ولذا فالكل يعد أتباعه ويمنيهم ويذكرهم بالصبر والثبات وطول الطريق وبعد الشقة .. وكلهم متعلق بأمل النصر الموعود، وإن كانوا جميعا يصرحون بأن الجيل الحالي ليس هو الجيل المناسب المهيأ لهذا النصر.

***

دار حوار طويل وصل إلى الاشتباك في صفوف الإخوان حول الدعوة والسياسية؟ هل نفصل بينهما أم لا؟ وهل الأولى في المرحلة الحالية أو القادمة الاهتمام بالتربية أكثر أم بالسياسة أكثر؟ وأحسب أنه حوار لن ينتهي لظروف الإخوان الموضوعية على الأقل، ثم لظروفهم الداخلية إذ أن أي إجابة صريحة على هذا السؤال كفيلة بانشطار الجماعة. ولذا فالوضع الأفضل أن نتحرك نحو التربية أو نحو السياسية كيفما تسمح الظروف الخارجية دون إجابة صريحة عن أيهما أولى؟

الحركة السلفية لتشعبها وعدم اندراجها في شكل واحد، يصعب معاملتها كطائفة واحدة، غير أن التصنيف العام، الذي لن يخلو من أخطاء، يضعنا أمام ثلاثة اتجاهات تتقاطع في الاختيارات العقدية والفقهية، وتتباعد في الفتاوى الواقعية والرؤى السياسية.

لدينا سلفية جامية وادعية مدخلية، نسبة إلى الشيوخ محمد آمان الجامي، ومقبل بن هادي الوادعي، وربيع بن هادي المدخلي، على الترتيب .. هذه الطائفة لا أتردد لحظة في أن أقول إنهم عملاء الأجهزة الأمنية والأنظمة الحاكمة، وبالتالي فهم عملاء اليهود والصليبيين والملحدين، وهؤلاء يمثلون خطرا حقيقيا على المسلمين وعلى الحركات الإسلامية جميعا، ولا ينجو منهم داعية إلى الله إن لم يسبح بحمد الطواغيت ويقول بالسمع والطاعة لولي الأمر ولو كفر.

وهذا على مستوى المحصلة والواقع وقراءة ما يحدث على الأرض، أما أن الأتباع يفعلون هذا بحسن نية أو بعمالة مقصودة فذلك أمر ندعه لله تعالى يفصل فيه، وهو خير الفاصلين، لكنهم في النهاية إما عملاء وإما أغبياء.

ثم الطائفة الأوسع، وهي السلفية العلمية، ومنهجهم في العموم ينحو إلى التربية والإعداد بتصحيح العقيدة والعبادة وتعلم العلم الشرعي، رافعة شعار “كتاب وسنة بفهم سلف الأمة” و”لا يصلح آخر الأمة إلا بما صلح به أولها” .. وتلك الطائفة أطياف كثيرة، يقترب منها طيف نحو الجامية والمدخلية في شأن ترك السياسة والولاء لولي الأمر المتولي بالغلبة، وربما كانت جماعة التبليغ والدعوة وجماعة أنصار السنة أوضح الأمثلة على هذا. وطيف آخر يبتعد، على هذا المستوى، حتى يصل في اهتمامه السياسي والواقعي إلى جماعة الإخوان المسلمين، مع مواقف بدأت تتغير وتتأرجح بشكل ما حول شرعية أولياء الأمر المتغلبين في بلاد المسلمين اليوم (وبالمناسبة فموقف الإخوان الشرعي متأرجح أيضا لكنما الواضح هو الموقف السياسي)، وبعض المواقف السياسية التي تمثل نقلة في مسار الحركة السلفية، وأوضح الأمثلة على هذا الحركة السلفية في الإسكندرية.

هذا التيار العام من السلفية العلمية توظفه الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين، يدعمهم في هذا الحقيقةُ المؤسفة المتمثلة في كون أغلب رموز هذه المدرسة ذوي مستوى مؤسف سياسيا وواقعيا، وإن كانوا عمالقة أحيانا في تخصصهم الشرعي لا سيما علم الحديث، وطيبة الشيوخ دائما في التاريخ وفي الواقع كثيرا ما يستطيع أن يُسَخِّرها ويلعب بها لؤم ودهاء أجهزة الأمن. (بالمناسبة: كثير منهم ذوي مستوى فاضح في السياسة وفي العلم الشرعي معا)

كذلك لدينا السلفية الجهادية، وهذا حديث آخر خارج الموضوع إذ الكلام الآن عن منهج التربية الذي لا تعتمده السلفية الجهادية.

بالوسع أن يُقال إن المدرسة السلفية العلمية لا تملك، أو بالأحرى، لا تقدم طريقا واضحا للإصلاح والتغيير، ولم يصدر عنها –على حد علمي- منهج إصلاحي عملي ((مرة أخرى: عملي)) للانتقال بأحوال المسلمين من النكبة الحالية إلى النصر المنشود.

والإخوان من بعد ارتفاع الضغط الأمريكي الذي وفر لهم انتخابات نزيهة ذات يوم، عادوا –بشكل عملي- أدراجهم نحو التربية والإعداد من جديد، فبعدما صدرت تصريحات في يوم من شتاء 2005 بأنهم الآن في مرحلة “الحكومة المسلمة” (وهي المرحلة الرابعة في منهجهم الإصلاحي)، تشير التصريحات والأوضاع الحالية إلى أنهم في مرحلة “المجتمع المسلم” (المرحلة الثالثة) مرة أخرى.

وإذا، فقد التقى التياران الكبيران على الساحة الإسلامية في مرحلة العمل، أو في عنوان مرحلة العمل (التربية)، وخلافهم هو في “كيفية” هذه التربية.

لا يمنع هذا من أن الإخوان يخوضون معركتهم السياسية مع الأنظمة الفاسدة والمستبدة، حتى وإن كانوا يخوضونها بلا أوراق ضغط إطلاقا، بل وبأجنحة مقصوصة، وغاية ما يبلغونه أن يمارسوا الاحتكاك بالإطار المسموح به الذي يضعهم فيه السلطان.. وفي النهاية هم لا يستطيعون أكثر من إخراج مظاهرات كبيرة وبعد حسابات دقيقة ونوع من تفاهمات.

ولا يمنع هذا من أن السلفيين يخوضون معركتهم ضد الشيعة والتشيع، وضد القرآنيين، وضد الأشاعرة والقائلين بتأويل الصفات، وضد الإخوان أيضا .. إذ لابد لكل حركة من معركة أو نوع نشاط تمارسه وتحترق فيه وتضحي له، وتبرر به وجودها وتصنع منه رسالتها في الحياة.

أما الاشتباك مع الأنظمة أو محاولة تغيير الوضع السياسي فغاية ما فيه، عند السلفيين، كلمة نصح ( لا كلمة حق) مغلفة بأنواع الأدب لولي الأمر (لا للسلطان الجائر)، ولقد كانت حرب غزة حدثا كاشفا وفارقا، وما يزال حصار غزة وتهديد المسجد الأقصى ومحاولات توريث البلاد كواشف أخرى لا تساوي عند هذه المدرسة المساس بـ”فرضية النقاب”.

والخلاصة أن الساحة السنية الآن في “عصر التربية”.

اقرأ:

الحركات الإسلامية؛ انسحاب وتراجع أم عودة للتربية 2/3

الحركات الإسلامية؛ انسحاب وتراجع أم عودة للتربية 3/3


الاثنين، نوفمبر 09، 2009

للهم أنزل على استاد القاهرة صاعقة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك

لست أدري تحديدا كم مرة منعت نفسي ألا أكتب في شأن هذا الهوس الغبي بمباراة مصر والجزائر التي ستقام يوم السبت القادم .. وإنها لأشبه بالطوفان الذي لا ينجو منه من كان بمعزل ولو آوى إلى جبل يعصمه من الماء .. فحتى أبعد الناس عن الكرة والاهتمام بها مسه من الأخبار شيء وأشياء.

ما هذا السرطان الغبي الحماري الملعون المسمى بالفضائيات الرياضية؟ هل أصبح قادرا على إشعال الحروب وغرس الكراهية بين العرب والمسلمين؟

وكيف استساغ منحطوا الضمير وعبدة الكرة أو عبدة الشيطان أن يجعلوا رزقهم في زرع البغضاء بين العرب والمسلمين؟

وما فائدة الكرة أو كل أنواع الرياضة إن كانت تؤجج المشاعر على هذا النحو البغيض .. إن الناس في مصر والجزائر مقبلون فعلا على حرب، وإني والله أخشى أن يتطور الأمر إلى حرب حقيقية .. ولولا ثقتي بأن في مصر رئيس لا يحس ولا يشعر ولا يحب المغامرات ولا اتخاذ مواقف لخشيت بالفعل أن تتطور الأمور نحو حرب.

وحين أتخيل أن عبد الناصر أو السادات مكان مبارك أقول الحمد لله، فحتى الشيطان له فائدة .. وقد أرانا الله بعضا منها.

إن أخبار القدس والأقصى، وحصار غزة، وموت الناس في أفغانستان والعراق، بل وفي مصر نفسها لم تعد تشغل أحدا ولا يكاد يلتفت إليها أحد، كل القلوب تتجه في خشوع نحو استاد القاهرة يوم السبت القادم .. والمصيبة أن كل الخشوع مرصود لمعركة تافهة تدور على كرة لتدخل بين ثلاث خشبات .. ومن استطاع إدخالها فسينال فوزا عظيما .. ألا وهو “شرف دخول” كأس العالم!!!

وماذا لو دخلنا ؟ ثم ماذا لو لم ندخل؟

وماذا فعلنا لما دخلنا؟ وماذا أصابنا حين لم ندخل؟

رحم الله المتنبي، مر ذات يوم على رجلين قتلا فأرا ثم أخرجاه للناس ليريانهم كيف هو الفأر كبير، فخلد المتنبي سفاهتهما في قوله:

لقد أصبح الجرذ المستغير … أسير المنايا صريع العطب
رماه الكناني والعامري … وتلاه للوجه فعل العرب
كلا الرجلين اتلى قتله … فأيكما غل حر السلب
وأيكما كان من خلفه … فإني أرى عضة في الذنب

(لقد أصبح الفأر العظيم الذي أغار بجيشه قتيلا بعد كمين محكم، فعلها الكناني والعامري فصرعاه لوجهه كما يفعل العربي شديد البأس، لكني أرى الفأر عاريا فمن منكما سرق غنائمه وجواهره وسباياه، ثم من الذي حاربه من الوراء فكان صاحب هذه العضة الشجاعة التي أراها في ذيل الفأر؟؟)

وعذرا للقراء الذين قد يرون أني شوهت بشرحي المتكلف جمال أبيات المتنبي ولكن الشبه قريب، ومن يفهمون في الكرة لا يفقهون في اللغة.. أو قل كان من دواعي العصر الذي تستولي فيه الكرة على العقول وتحشد المشاعر أن تزول عنه اللغة فكيف بأشرف اللغات.

أنا لا أحسب أنه يمكن تجييش الناس في مصر في قضية بأشد من هذا، وكذلك في الجزائر .. إن ظلال الحرب قائمة ولا أحسب اليهود الآن أبغض لمتعصبي الكرة في مصر من الجزائريين، وفي الجزائر من المصريين.

ما كان يظن أحد أن قنوات الكرة يمكن أن تكون بهذه الخطورة، وإلا لأفتى العلماء بحرمتها قطعا، فأي شيء أشد على المسلمين من فساد ذات البين، فإنها الحالقة كما ورد عن النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- .. ولست أدري لو ظهر فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كيف يواجهه مشعلوا الحرائق هؤلاء؟؟!!!

“ستاد القاهرة في يوم السبت القادم” .. العنوان الذي ذابت فيه مشاكل مصر والجزائر واستولى على قلوب الناس وعقولهم ..!!!!!! كيف؟؟؟ ثم كيف ؟؟؟ ثم كيف؟؟؟

رحم الله الرجل المخلص -أحسبه كذلك- الذي قال مستنكرا: اللهم أنزل على استاد القاهرة صاعقة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك. فقال له أحد من سمع مازحا: “إن فيهم أبو تريكة”، فرد جادا لا مازحا : “ثم يبعثون على نواياهم”.

الخميس، أكتوبر 29، 2009

حنا النقيوسي.. ومغازلة الأقباط المهينة



فوجئت صباح اليوم (29/10/2009) بكتاب (تاريخ مصر) ليوحنا النقيوسي صادرا ضمن سلسلة مكتبة الأسرة التي تدعمها الدولة في مصر، وكان منبع الدهشة أن الدولة التي تعاني مشكلة طائفية حادة تثور نقاطها البركانية الملتهبة تحت السطح الرقيق لنظام الدولة المصرية بين كل حين وآخر، هذه الدولة كانت في غنى عن نشر مثل هذا الكتاب بالسعر المدعوم.

لماذا؟

يحتاج هذا السؤال لأن نفهم حكاية هذا الديوان:

فديوان حنا النقيوسي هو التاريخ الذي كتبه الأسقف القبطي المصري حنا النقيوسي لتاريخ الفتح الإسلامي لمصر، وهو تاريخيا أقرب المصادر التاريخية لزمان الفتح الإسلامي، بما يجعله ذو أهمية خاصة باعتباره المصدر الوحيد “المعاصر” في الجانب المصري لهذه الفترة في تاريخ مصر، حتى أن ألفريد بتلر صاحب الدراسة التاريخية (فتح العرب لمصر) يعترف أنه لم يمكن كتابة دراسته إلا بعد اكتشاف الإنجليز لمخطوطة حنا النقيوسي في الحبشة[1].

وهذا الاعتراف نابع من تفاصيل تاريخية غير موجودة إلا فيه، من ناحية الصورة والتفاصيل والحوادث في معسكر الرومان والأقباط، وهي بهذا صورة لم توجد أو لم تفصل في كتابات المؤرخين المسلمين.

ويمكنني أن أضيف “ظنا” آخر لهذا الاعتراف، وهو محاولة الحيادية والموضوعية لدى بتلر باعتبار أن المصادر المتوفرة عن الفتح كلها إسلامية أو رومانية، فكان في حاجة لمصادر مصرية أيضا، غير أن بتلر لم يكن محايدا كما ينبغي[2]، وإن لا ينكر أنه بذل جهدا بحثيا عظيما ومتميزا.

على أية الحال، فأهمية الكتاب من الناحية التاريخية لا ينكرها أحد على مستوى الباحثين، لكن الاستغراب نابع من أن مشروع مكتبة الأسرة الذي تدعمه الحكومة قد يَسَّرَه لجمهور الناس، وجمهور الناس في مصر مسلمون، فكانوا أحوج مثلا إلى كتاب ابن عبد الحكم “فتوح مصر وأخبارها”، أو إلى مثله.

إلا أن يكون هذا مغازلة للأقباط (أعني المسيحيين في مصر)، ولكنه غزل تم في نقطة حرجة حساسة، كما تم بشكل غير مناسب على الإطلاق.

لأن ديوان حنا النقيوسي هو المصدر الوحيد الذي يشتمل على أن المسلمين ارتكبوا مذابح غزيرة لدى فتحهم مصر، ونسب إليهم أنهم لم يرحموا أحدا لا شيخا ولا طفلا ولا امرأة. ولا أظن مثل هذه المعلومات الكاذبة، كما سأبين بعد قليل، يحتاج أحد في مصر، فضلا عن النظام المتهالك الذي تتسع عليه الخروق، أن يذيعها وينشرها موثقة في مصدرها التاريخي. ونستثني من هذا طبعا طوائف المنصرين وأقباط المهجر والقيادة الكنسية التي لم يعد يخفى أنها ترى في المسلمين غزاة محتلين لمصر.

فكان من المثير للدهشة أن ينشر مثل هذا الكتاب تحديدا.

غير أن الإنصاف يقتضي أن أقول إن الكتاب المنشور لم يكن هو المشهور بين الباحثين، فإلى ما قبل تسعة أعوام، كان الموجود في أيدي الباحثين هي النسخة الإنجليزية المترجمة عن الفرنسية المترجمة عن الحبشية المكتوب بها المخطوط الحبشي، الذي هو النسخة الوحيدة الموجودة لديوان حنا النقيوسي[3]، فقام الدكتور عمر صابر عبد الجليل بعمل ممتاز، فترجم المخطوط من الحبشية إلى العربية مباشرة، مصحوبة بتحقيق علمي وتاريخي شارك فيه المؤرخ المعروف د. قاسم عبده قاسم، بما جعل الكتاب متجنبا لمثالب الترجمات الكثيرة ومصحوبا برؤية تحقيقية نقدية.

***

أما بخصوص ما انفرد به الكتاب من ذكر المذابح والمجازر التي ارتكبها المسلمون في مصر، ووصف الإسلام والمسلمين بأوصاف شنيعة، فإن ما ينقضه ويرد عليه هو حنا النقيوسي نفسه وفي الكتاب نفسه.

فالكتاب متناقض إلى حد كبير وهذه بعض أمثلته:

يتحدث عن قسوة عمرو بن العاص في فرض الضرائب وأخذها على أهل الإسكندرية فيقول: "وزادت الضرائب قدر اثنتين وعشرين عصا من الذهب، حتى اختبأ كل (!!) الناس، لكثرة البؤس، وعدموا ما يؤدون"[4]، رغم أن عمرو بن العاص كان قبل سطر واحد على هذه الصورة:

"وكان عمرو (بن العاص) يقوى كل يوم في عمله، ويأخذ الضرائب التي حددوها، ولم يأخذ شيئا من مال الكنائس، ولم يرتكب شيئا ما، سلبا أو نهبا، وحافظ عليها طوال الأيام"[5].

ويتحدث عن مذبحة إسلامية تجاه المصريين فيقول: "ثم دخل المسلمون نقيوس واحتلوها، ولم يجدوا أحدا من المحاربين، وكانوا يقتلون كل من وجدوه في الطريق وفي الكنائس، رجالا ونساء وأطفالا، ولم يشفقوا على أحد"[6]، رغم أنه منذ صفحة واحدة فقط كان يتحدث عما أنزله الروم بالمسيحيين في مصر، فيعقب بقوله عن المسلمين: ولم نجد من يصنع مثل هذا ممن يعبدون الأصنام الكذبة"[7].

وهو يتحدث عن مصريين اعتنقوا الإسلام مبكرا حتى قبل اكتمال الفتح، يقول: "وعندما وصل هؤلاء المسلمون مع المصريين الذين جحدوا عقيدة المسيحية"[8]، رغم أنه منذ فقرة واحدة فقط يتحدث عن "خوف في كل مدن مصر، وكان أهل المدينة يهربون ويلجأون إلى مدينة إسكندرية، وهجروا كل أموالهم وخزائنهم وحيواناتهم"[9].

***

هذا القدر من التناقض دعا د. عمر صابر لأن يَتَّهم المترجم الحبشي لديوان حنا النقيوسي (وهو المصدر الوحيد الموجود إلى الآن للديوان) بأنه "سمح لنفسه أن يقحم في النص عبارات من عنده تنم عن تعصبه ضد الإسلام"، ذلك أن المسلمين لم يكونوا يجهلون اللغة القبطية التي كتب بها حنا النقيوسي في ذلك الوقت، مما يجعل من الصعب توقع أن يوصف الإسلام والمسلمين بما هو موجود من شناعات. كما أن المصادر القبطية اللاحقة مثل تاريخ البطاركة لساويرس بن المقفع والذي ينقل عن ديوان حنا، بالإضافة إلى أن ساويرس كان يُجِلّ حنا النقيوسي نفسه، لم تأت بذكر هذه الوقائع والأوصاف بل بالعكس جاءت بالثناء على الفتح العربي ومعاملته لأهل مصر، فذلك مما يدعم أن تكون الشناعات الموجودة عند حنا النقيوسي من إضافات المترجم الحبشي الذي نقل الديوان إلى اللغة الحبشية بأمر من ملك الحبشة وقائد قواته في وقت حروب ومواجهات بينهم وبين المسلمين[10].

بينما رأى الأستاذ أحمد عادل كمال[11] أن حنا النقيوسي نفسه مُتَّهَم في صدقه وأمانته بدليل الواقعة التي رواها ساويرس بن المقفع الذي يحب حنا النقيوسي ويُجلّه، عن مؤامرة اشترك فيها حنا النقيوسي بتزوير وصية البطريرك يوحنا بأن يخلفه في البطريركية الراهب إسحاق، ونصبوا بدلا منه بطريركا آخر مدعين أن هذه هي وصية البطريرك يوحنا، وهي المؤامرة التي اكتشفها والي مصر عبد العزيز بن مروان فصحح الوضع، وفشل تدبير حنا النقيوسي ومن معه من الأساقفة.

وعلى هذا فالأسقف هو كاتب هذه الافتراءات بأثر من تعصبه وبدليل تزويره وعدم أمانته، بما يجعل تفرده بالتأريخ لمذابح فعلها المسلمون تجاه الأقباط دليلا آخر على كذب هذا التاريخ الذي لم يعرفه غيره من المؤرخين.

وبهذا يكون ساويرس بن المقفع من النزاهة والأمانة العلمية بحيث لم ينقل من حنا النقيوسي هذه الأكاذيب والافتراءات.

وهذا إذا استبعدنا –جدلا- روايات المؤرخين الثقات من المسلمين الذين لم يذكروا شيئا عن هذا الذي يرويه النقيوسي، وتواريخهم لا تُتَّهَم بالتعصب.

والحقيقة التاريخية المتفق عليها بين الباحثين والتي تنفي ما ذكره النقيوسي، أن المسلمين لم يكونوا في عداوة مع المصريين أساسا، وإنما الحرب كانت دائرة مع الرومان الذين كانوا في عداوة مع الأقباط، فليس ثمة داع إلى مشكلات ومذابح مع المصريين.

كما أن الابتهاج لدى الأقباط بالفتح الإسلامي وما ترتب عليه هو حقيقة تاريخية أخرى[12] ذكرها النقيوسي نفسه، فلماذا كانت المذابح؟!!

***

وسواء كان حنا النقيوسي هو الكاتب أو أن العبارات قد أقحمها المترجم الذي نقل الكتاب إلى الحبشية، فإن نشر هذا الكتاب هو غزل فاشل للجماعة القبطية التي ترى في الفتح الإسلامي غزوا يجب التحرر منه، بل هو غزل مهين وعار على من كان لهم يد في النشر.

فكيف ينشر كتاب للعامة مدعوم بمال الدولة وفيه مثل هذا السب الصريح لسيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم):

1. في ص 222: “والآن، كثير من المصريين الذين كانوا مسيحيين كَذَبَة، أنكروا العقيدة الأرثوذكسية والمعمودية الحية، وساروا في عقيدة الإسلام أعداء الرب وقبلوا التعاليم الركس للحيوان الذي هو محمد”.

2. وفي ص 197: “المصريين الذين جحدوا عقيدة المسيحية وانضموا إلى عقيدة هذا المفترس”.

3. وفي ص196: “وارتكب (عمرو بن العاص) آثاما كثيرة لا تحصى”.

4. وفي ص207: “وكانت مصر كذلك مستعبدة للشيطان”.

5. وفي ص 214: “وألحق عمرو الخسران ببلاد مصر”.

وكيف ينشر كتاب حافل بالأكاذيب التاريخية التي لا تخفي حقدها وراء أي ستار، والتي تفتري على الفتح الإسلامي العظيم، فتجعل المسلمين متوحشين لم يرفقوا بأحد لا شيخ ولا طفل ولا امرأة (ص190)، ويأخذون الجزية حتى يبكي عامل الجزية “حين رأى بؤسهم، أشفق عليهم، وكان يبكي لما أصابهم” بل إلى الحد الذي كان المصريون “يقدمون أبناءهم بدلا من الآلاف التي كانوا يقدمونها كل شهر” (ص222).

وهذه الافتراءات هي التاريخية فقط، فلم نتناول ما يكون من رأيه هو كاعتباره المسلمين أعداء المسيح، أو تمنيه أن ينزل الله بهم ما أنزله بفرعون (ص213، 222، وغيرهما).

***

إن نشر مثل هذا الكتاب الذي هو غير مفيد إلا في دوائر البحث، لأن صورته عن التاريخ مجتزأة وناقصة، وتقديمه مدعوما للقاريء العادي لا يحتمل إلا ثلاثة احتمالات:

1. جهل بمحتوى الكتاب، وهو يعبر عن فضيحة قد اعتدنا عليها في الجيل الأخير من المؤسسات الثقافية لعصر الاستبداد.

2. أو علم بمحتواه وموافقه عليه ورغبة في تسويق هذه الصورة للناس عن الفتح الإسلامي، وهذا غير مستبعد من بعض عناصر الدوائر الثقافية في مصر.

3. غزل للأقباط في مصر، مع الجهل بمحتوى الكتاب، إذ لو كان الغزل وحده فقد كان أولى أن ينشر كتاب سير الآباء البطاركة لساويرس بن المقفع، هذا إن لم يكن كافيا نشر كتاب عمر طوسون عن تاريخ الأديرة والرهبان في وادي النطرون والذي صدر قبل قليل من هذا الكتاب.
وهذه الاحتمالات الثلاثة كل منها يمثل عارا يستطيع وحده أن يصم وجوه فاعليه، هذا إن كان ما زال بالوجوه بقية من حياء أو قطرة من دماء.


[1] ألفريد بتلر: فتح العرب لمصر، تعريب محمد فريد أبو حديد، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الثانية 1416 هـ = 1996م. ص30.
[2] انظر مثلا قوله: “الحقيقة الـمُرَّة هي أن كثيرين من أهل الرأي والحصافة قد كرهوا المسيحية لما كان منها من عصيان لصاحبها … ومنذ بدا ذلك لهؤلاء العقلاء لجأوا إلى الإسلام فاعتصموا بأمنه، واستظلوا بوداعته وطمأنينته وبساطته”. فتح العرب لمصر ص458، فهل كلمة (المرة) تعبر عن حياد أم عن مشاعر هي خارج دائرة التأريخ. ولكن الإنصاف يقتضي أن أقول إنه لم يكن متعصبا ذلك التعصب الأعمى أيضا.
[3] مع معلومة ذكرها بتلر عن أن المستشرق الفرنسي الأب أميلينو رأى نسخة عربية لديوان حنا النقيوسي، وهي النسخة التي يتوقع بشكل كبير أن تكون هي التي ترجمت إلى الحبشية، لكن أميلينو لم يُفد بأكثر من أنها موجودة في “أعماق إقليم من أقاليم مصر”. انظر: فتح العرب لمصر ص31.
[4] يوحنا النقيوسي: تاريخ مصر (ديوان حنا النقيوسي)، تحقيق د. عمر صابر عبد الجليل، سلسلة مكتبة الأسرة، 1430 هـ = 2009 م. ص221.
[5] ديوان حنا النقيوسي، ص220.
[6] ديوان حنا النقيوسي، ص205.
[7] ديوان حنا النقيوسي، ص204.
[8] ديوان حنا النقيوسي، ص197.
[9] ديوان حنا النقيوسي، ص196.
[10] ديوان حنا النقيوسي، (مقدمة التحقيق) ص36، وما بعدها.
[11] أحمد عادل كمال: الفتح الإسلامي لمصر، الطبعة الأولى، 1423 هـ = 2003م. ص141 وما بعدها.
[12] ألفريد بتلر: فتح العرب لمصر ص457 وما بعدها.