الأربعاء، يونيو 23، 2010

الفارق الجوهري بين المنهج الإسلامي والفلسفات الغربية

ثمة “فارق جوهري” بين المنهج الإسلامي والفلسفات الغربية، وبقدر ما يبدو هذا “الفارق الجوهري” واضحا في إنتاج كلا الطرفين بقدر ما يمثل غياب إدراكه مزيدا من الأزمة وسوء الفهم، هذه الأزمة وسوء الفهم يفصح عن نفسه كأوضح ما يكون في الحوار أو حتى العراك بين الإسلاميين والعلمانيين، الذي هو بدوره صورة مصغرة للسجال بين الشرق والغرب.

الغربيون والعلمانيون ومن رأى رأيهم يرون المواجهة قائمة بين طرفين: بين العقل والخرافة، أو بين الأسلوب العلمي وبين الموروثات المتعلقة بما وراء الطبيعة، ومن ثم فهم يرون أن هذه المعركة لا تقتصر على الإسلام فقط بل هي تشمل كل الأديان، إنها –في نظرهم- مراجعة شاملة لموروث البشرية كله على قاعدة من العقل.

على الجانب الآخر وعند العرب والمسلمين والإسلاميين تبدو هذه النظرة التي تريد حذف الدين من الحياة –لا سيما الإسلام الذي تتركز عليه حملات الهجوم وجحافل الاحتلال- مخالفة لحقائق البشر البديهية ومخالفة كذلك للتاريخ ولسنن الحياة، فالعقل لا يستقل وحده بالمعرفة وليس الصواب من حتمياته، ولابد له من مرجعية معصومة لكي يهتدي.

فلم هذا الانشقاق الكبير الذي لا يبدو له التئام؟

التاريخ –ربما وحده- يملك الكشف عن هذا الفارق الجوهري…

إن الفلسفات الغربية نشأت قبل أن تعتنق أوروبا الدين المسيحي، نشأ منذ سقراط وأفلاطون وأرسطو فيما قبل ميلاد المسيح (عليه السلام) ثم استمرت أوروبا ثلاثة قرون بعد ميلاد المسيح لا تعتنق المسيحية بل تضطهدها حتى جاء الأمبراطور قسطنطين إلى عرش الإمبراطورية الرومانية، ومن ثم سيطرت المسيحية على أوروبا في فترة العصور الوسطى، ثم نشأ الخلاف الكبير بين الكنيسة وبين التطور العلمي، ذلك الذي انتهى على النحو الحالي في فصل الدين عن الدولة.

لقد نشأت أغلب الفسلفات الغربية –تلك التي خرج بها الغرب من العصور الوسطى- في إطار الصراع مع الدين كعقائد غيبية، أو مع الملوك والبابوات كأسلوب حكم وسياسة، حتى انتهى الصراع تقريبا بالثورة الفرنسية (1789م) بعدما كانت أوروبا قد أنتجت “الفلاسفة العظام” منذ تباشير “عصر النهضة” وحتى الانتصار بـ “الثورة الفرنسية”.

فالميراث العقلي الغربي والفلسفات الأوروبية يمكن أن نقسمها إلى ثلاث مجموعات كبرى: مناهج ما قبل المسيحية (فلاسفة الإغريق واليونان والرومان وما إلى ذلك)، ومناهج توفيق بين العلم والدين (أوائل فلاسفة العصور الوسطى وأبرزهم بالطبع القديس توما الإكويني)، ومناهج تختلف مع المسيحية فقد تصححها أو تهاجمها أو تأتي بالبديل عنها (قرون ما قبل الثورة الفرنسية والتيار العقلي مثل ديكارت، أو تثور على الكنيسة وتفترض بديلا آخر كمارتن لوثر وكالفن).

في حين أن الوضع في العالم العربي الذي هو قلب العالم الإسلامي مختلف تماما، والسبب ببساطة أن العرب فيما قبل الإسلام كانوا بلا حضارة ولا فلسفة ولا أسلوب حكم إمبراطوري ولا كانت الحياة حولهم تحفل بكثير من التفاصيل، ولم ينتج منهم فلاسفة ولا منظرين ذوي أثر (والحديث عن التاريخ المعروف بالطبع، لكن لاشك أن الأنبياء في أرض العرب كهود وصالح وإبراهيم وإسماعيل كانوا قمما في عصورهم).

وكل الميراث العقلي والإسهام الحضاري للعرب هو منبثق أساسا ومستند بشكل كامل على الإسلام، والإسلام كما يفهمه العرب والمسلمون وكما هي طبيعته، ليس فقط مجرد عقائد بل هو منهاج حياة كامل، وهو يحتوي على مبادئ للحكم والسياسة والإدارة والتفكير والنظر والعبادات والمعاملات، وهو قبل ذلك تفسير ورؤية للكون والحياة والطبيعة والإله والبشر.. أي أنه منظومة “فلسفية” كاملة. وبالطبع فإن المسلمين يرفضون تماما اعتبار الإسلام “فلسفة” ولهذه الكلمة لديهم وقع مختلف عن وقعها في الأذن الغربية. بل يعتبرونه “دينًا”، بل لا يتصورون إمكانية أن يوجد دين شعائري يكتفي فقط بالطقوس والمعابد.

والشاهد أن كل العطاء الحضاري للمسلمين، بما فيه العطاء الفكري “الفلسفي”، يستند تماما إلى الإسلام، وعليه يتأسس ومنه ينطلق. وكل هذا العطاء إنما يستهدف العودة إلى العصر الذهبي الإسلامي؛ عصر النبي –صلى الله عليه وسلم- والراشدين.

فالمجهود العقلي الإسلامي –أو ما يسمى الفلسفة الإسلامية- كان يقدم نفسه باعتباره “فهما جديدا للشريعة” وليس بديلا عنها ولا رفضا لها ولا سخرية منها، ولم تزعم فرقة من الفرق التي نشأت في التاريخ الإسلامي على اختلافها أن مذهبها “خارج عن الإسلام”، بل كان الصراع الدائر بين الفرق المختلفة صراع حول زعم كل فريق بأنه يقدم “الفهم الصحيح للإسلام” يستوي في ذلك العلماء الراسخون ومن انحرف ذات اليمن أو ذات الشمال.

كما كان المجهود العملي الذي يبذله كل مصلح يستهدف صناعة إنسان وصناعة مجتمع على غرار العصر الذهبي، صناعة إنسان يكون قدوته رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وصناعة مجتمع يستلهم صورة مجتمع الصحابة، يستوي في ذلك المصلحون المتبعون، وكذلك المبتدعون ذات اليمين أو ذات الشمال.

وهذا الفارق الجوهري ينتج لنا ثلاثة اختلافات حاسمة بين المنهج الإسلامي والفلسفات الغربية:

1. فالمنهج الإسلامي ليس له إلا رافد واحد، منه وُلد وتشكل، وبه انطلق، وعليه تأسس. بينما الفكر الغربي يستمد نفسه من ثلاثة روافد: فلسفات ما قبل المسيحية، وفلسفات التوفيق بين المسيحية والعلم في العصور الوسطى، وفلسفات الهجوم والتصحيح والنقد للمسيحية. وصدق الله تعالى (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا).

2. المنهج الإسلامي يريد العودة إلى الصورة المثالية التي تحققت بالفعل؛ في النبي –صلى الله عليه وسلم- فهو القدوة الحسنة على مستوى الفرد، وفي جيل الصحابة الذي هو خير القرون على مستوى المجتمع. بينما لا يزال الفكر الغربي “يتمنى” و”يحلم” و”يتصور” ويريد أن يرسم ملامح الفرد السوي والمجتمع المثالي، فهو واقع ما بين فردية نيتشه وجماعية دور كايم، وما بين عقلانية هيجل ومادية ماركس وروحانية توينبي، وتحت كل بند تجد أطيافا من الفلسفة الهائمة على وجهها. حتى إن صورة المجتمع المثالي حائرة بين السعادة التي بدأها أفلاطون في “الجمهورية الفاضلة” وحتى فوكوياما في “نهاية التاريخ” وما بين الصراع وبقاء الأقوى التي بدأها دارون في “أصل الأنواع” وحتى هنتنجتون في “صراع الحضارات”. وصدق الله تعالى (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله).

3. المنهج الإسلامي نشأ “فجأة”، فلم يكن رد فعل على حالة قائمة، ولا نتاج صراع دائر، ولا ثورة على مؤسسة حاكمة، فلهذا جاء خاليا من التطرف الذي هو سمة ردود الفعل. (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله).

بينما تاريخ الفلسفة الغربية هو تاريخ من ردود الأفعال، فسقراط-ثم أفلاطون- هو ردٌّ على السفسطائيين، والبروتستانتية ردٌّ على الكاثوليكية، وجون لوك هو ردٌّ على توماس هوبز، ودور كايم هو ردٌّ على نيتشه، والشيوعية ردٌّ على الرأسمالية، والاشتراكية ردٌّ على الطبقية والإقطاع… إلخ(1). (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا)؟؟

وبعد؛ (فأي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا)؟؟..

————

(1) من أبرز الكتب التي اهتمت بهذا التناقض، كتاب رونالد سترومبرج “تاريخ الفكر الأوروبي الحديث”، وكاتبه متعصب للحضارة الغربية ولا يرى في التاريخ حضارة غيرها، وانظر في تاريخ الفلسفة الغربية كتاب براترند رسل “حكمة الغرب” وكتاب ول ديورانت “قصة الفلسفة” ، وهذا الكتاب الأخير هو أفضلهم وأمتعهم عبارة وأقربهم إلى التفكير الإنساني غير المتعصب.

نشر في الألوكة، وقصة الإسلام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق