الخميس، ديسمبر 30، 2010

التفوق السياسي أم التفوق الحضاري؟!

كاتب هذه السطور ممن يرى بأنَّ الحضارة ذات وجهين: “وجه ثقافي ووجه مادي”.. وعليه، فإنَّ ثقافةً لم تستطع أن تثبت نفسها في واقع الأرض عبر إنتاج مادي لا تكون حضارة، كذلك فإنَّ إنتاجًا ماديًّا لم تُفرزه صيغة حضارية هو “عشوائيات” أشبه أن تكون كالمشكوك في نسبه وانتمائه.

ولهذا لا يمكننا الحديث عن “حضارة بهائية” أو “حضارة صابئية” أو “حضارة درزية”.. فكل هذه الأفكار لم تستطع أن تثبت نفسها في الواقع – حتى الآن على الأقل – فلم تنشأ لها دول ولا حضارات. وظلت الإنتاجات الماديَّة في أوساط البهائيين والصابئة والدروز من إفرازات الحضارة السائدة التي يعيشون في ظلالها.

ولا يمكننا أيضا الحديث عن “حضارة صهيونيَّة” بل ولا “حضارة يابانيَّة” أو “حضارة صينيَّة” في الوقت الحاضر، لأنَّ هذه الأفكار – وإن استقرت لها دول – لم تتميز إنتاجاتها الماديَّة بأيّ خصوصيّات حضاريَّة.. بل كلاهما كان نقلاً للحضارة الغربيَّة المعاصرة، ومساحة من مساحات التأثر بها.

وحديث السطور القادمة لا عن الحضارة ولا عن فلسفتها، بل عن نقطة حرجة في مسيرتها؛ تلك هي الخلاف حول طريق بداية النهضة: هل يبدأ من التفوق الحضاري الذي يفرز تفوقًا سياسيًّا (ويدخل في السياسي التفوق العسكري والاقتصادي)، أم أن التفوق السياسي هو الذي يلد تفوقًا حضاريًّا؟

إنَّ ميدان التنظير فسيح بل شاسع، وقرائح العقول تأتي فيه بكل جديد، وكلما تخيلنا أنَّ الشعراء ما غادروا من متردّمٍ إلا ورأينا أودية جديدة يبتكرها الشعراء فيخوضونها فيصدقون قول الله عز وجل على مر الزمان (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون).. إلا أنَّ قرائح العقول تأتي بما لا يكون وبما لا يكون، تأتي بالتطوير الواقعي كما تأتي بالأحلام والخيالات والأوهام.. وهم بهذا يصدقون قول الله عز وجل (وأنهم يقولون ما لا يفعلون)، ذلك أنهم – وكما يقول سيد قطب – “يعيشون في عوالم من صنع خيالهم ومشاعرهم، يؤثرونها على واقع الحياة الذي لا يعجبهم!… والإسلام يحب للناس أن يواجهوا حقائق الواقع ولا يهربوا منها إلى الخيال المهوّم”.

ولهذا فأحسب أنّه لكي نستطيع الحصول على إجابة “واقعيَّة” لهذا السؤال فلابد لنا من أن نبحث عنها في كتب التاريخ.

***

لما أقبلت الجيوش الصليبية إلى الشرق استطاعت بتفوقها العسكري أن تثبت نفسها، رغم أنها قادمة من ظلمات أوروبا في العصور الوسطى إلى الشرق الذي كان في تألقه الحضاري في هذه الفترة.. وحدث ما هو متوقع؛ إذ وقع الصليبيون في “الأَسْر الحضاري” للشرق فارتفعوا وتمدَّنوا وتعلَّموا وترجموا، حتى لقد شكا الصليبيون القادمون من أوروبا من ترفع واستكبار إخوانهم صليبيي المشرق عليهم بما هم فيه من ترقي ومدنية.

لكنهم وإنْ وقعوا في الأسر الحضاري فإنَّهم لم يتحولوا إلى مسلمين، ولم تنشأ في الممالك الصليبيَّة دول إسلاميَّة، ولم ينتج التفوق الحضاري الإسلامي تفوقًا سياسيًّا إسلاميًّا.

بل إنَّهم لم يندحروا من الشرق إلا حين أنتجت الحضارة الإسلامية “تفوقًا عسكريًّا”، وحين خرج إلى مراتب القيادة عسكريون وأتابكية.. عماد الدين زنكي ثم نور الدين ثم صلاح الدين ثم البيت الأيوبي ثم المماليك.. سلسلة من القيادات العسكريَّة تولت جهاد الصليبيين، وبالتفوق العسكري – لا الحضاري – خرج الصليبيون من الشام.

***

نفس الحال حدث من قبل مع النورمان الذين استطاعوا إخراج المسلمين من صقلّية بعد مائتي عام من الحضارة فيها، وقعوا بدورهم في “الأَسْر الحضاري” الإسلامي، وصار بلاط صقلية حتى بعد انتهاء دولة الإسلام بلاطا عربيًّا إسلاميًّا، وتسمى الملوك النورمان بالألقاب الإسلاميَّة فحمل روجر الثاني لقب “المعتز بالله”، وحمل وليام الأول لقب “الهادي بأمر الله”، وحمل وليام الثاني لقب “المستعز بالله”، ولبسوا العباءات الإسلامية المزخرفة بالآيات القرآنية، وظلت دواوين النورمان وأنظمة مملكتهم تدار على الطريقة الإسلاميَّة.

لكن هذا لم يمنعهم من إبادة المسلمين فيما بعد على يد واحد من أكثر الملوك إعجابًا وانبهارًا بالحضارة الإسلاميَّة (فريدريك الثاني)، ولم يمنعهم من تسيير حملة صليبيَّة (هي الحملة السادسة) إلى بيت المقدس، ولم يمنعهم من احتلال شواطئ تونس وانتزاع الأراضي من دولة الأغالبة التي كانت تحكم الشمال الإفريقي في ذلك الوقت.

ومن ثم يجب أن ننتبه إلى أنَّ التفوّق الحضاري الإسلامي لم يلِد تفوقًا سياسيًّا، ولم يُعِدْ دولة الإسلام إلى صقلية، بل استفاد النورمان من وراثة الحضارة الإسلامية ثم بدأوا في صناعة حضارة لهم.

***

نفس الكلام يمكن أن نقوله عن الإسبان الذين أخرجوا المسلمين من الأندلس، فلقد ورثوا تفوقا حضاريًّا نفيسًا، ملايين المخطوطات في كل المناحي العلميَّة، وما زالت نفائس الأندلس إلى الآن لم تخرج كلها من عالم المخطوط إلى عالم المطبوع، وما زلنا لا نعرف على وجه الدقة مقدار ما بلغت الحضارة الإسلاميَّة الأندلسيَّة من آفاق.

ولو بدأنا الحساب منذ تاريخ سقوط طليطلة (عام 478 هـ)، وحتى سقوط غرناطة (897 هـ)، فنحن أمام أربعمائة عام من التفوق الحضاري الإسلامي الكاسح، بل المتزايد، ومع هذا فإن هذا التفوق الحضاري لم يُعِدْ حاضرة أو مدينة إلى دولة الإسلام بعد سقوطها فضلاً عن أن يعيد الأندلس كلها.

إنَّ الحقيقة التي ربما تصدم البعض هي أنَّ الإسبان ورثوا الحضارة الإسلاميَّة، وتأثروا بها، ولكنهم بدأوا بعد زمن التأثر من صناعة حضارتهم هم.

***

ونفس الكلام يقال أيضًا عن الحالة العثمانيَّة، فلقد بلغت الدولة العثمانيَّة من التفوّق الحضاري ما جعلها المثال والنموذج الذي يتطلع إليه الإصلاحيون في أوروبا، بل لقد كان المضطهدون في أوروبا – واليهود – لا يجدون مأمنًا لهم إلا في ظلال الدولة العثمانيَّة، ولا مقارنة على الإطلاق بين ما بلغه العثمانيون من حضارة وبين شرق أوروبا الذي كان في ظلال العثمانين في أوقات مجدهم.

وحين دخل العثمانيون في طور الضعف والتراجع، وتساقطت شرق أوروبا من بين أيديهم، لم ينفعهم تفوّقهم الحضاري في أن يُرْجع إليهم ما فقدوه بضعفهم السياسي والعسكري.. بل لقد ورثت أوروبا الأنظمة والمؤسسات العثمانية واستفادت بها على طريق نهضتها وصناعة مسيرتها الحضارية.

***

كان الأنسب – في تقديري – أنْ تكون الأمثلة المذكورة من التاريخ الإسلامي، ذلك أنَّ الخطاب متوجه إلى مسلمين في المقام الأول، وإلى أصحاب نهضة تستمد نفسها من المنهج الإسلامي والتاريخ الإسلامي وتصل نفسها بجذورها في هذا التاريخ.

إلا أنَّ الأمثلة من غير التاريخ الإسلامي لا تطرح غير نفس الإجابة، فالرومان الذين قهروا اليونان عسكريًّا وتفوقوا عليها سياسيًّا أُسِروا بحضارة اليونان، إلا أنَّ هذا الأسر لم يبعث الحضارة اليونانيَّة بل استفاد منها في صناعة الحضارة الرومانيَّة، وإنَّ القوط الذين قهروا الرومان عسكريًّا وأسَرَتهم الحضارة الرومانية لم يعيدوا الدولة الرومانيَّة بل أنشأوا دولة القوط وحضارتهم.

وفي التاريخ الحديث استطاعت فرنسا ثم بريطانيا ثم روسيا بقوّتهم العسكرية تأجيل انهيارهم الحضاري وخروجهم من المسرح العالمي سنين طويلة. بينما لم تستطع لا اليابان ولا ألمانيا دخول هذا المسرح بعد تجريدهم من القوة العسكرية.

وأمريكا تعيد الآن نفس المشهد، فهي رغم كل ما تعانيه من تراجعات اقتصادية وحضارية، تُمسك التاريخ وتؤجل انهيارها بقوتها العسكرية التي تستخدمها في إعادة تمويل نفسها إن لم يكن باستخدام “سمعة” الدولار للمضاربة عليه في البورصة وأخذ مزيد من فرص القروض، فبإشعال الحروب والاستيلاء على عقود الإعمار وعائدات النفط وأموال الدول الحليفة!

***

إنَّ الدولة المركزيَّة معضلة حقيقية، وهي في عالمنا العربي والإسلامي معضلة كبرى وعقبة كؤود، ذلك أنَّ الأنظمة العربيَّة لها مسار هو ضد مسار الأمة الحضاري على طول الخط، فالأنظمة العربية ترسخ التخلف والفساد والاستبداد، ولا تسمح لطاقات الأمة أن تعيد بناء الحضارة، هي ظاهرة يمكن أن نسميها “الحبس الحضاري” وفيها لم يسمح النظام العربي للطاقة الحضاريَّة للأمة المسلمة بالفعل، ولا حتى بالوجود في كثير من الأحيان.

كان يكفي للنظام أن يرى شعبية أحدهم تزداد حتى يتوجس منه خيفة أو يعلن عليه الحرب، مهما كانت أعماله تصب في سياق النهوض الحضاري للبلد.. إنَّ نموذج عمرو خالد في مصر نموذج مثالي على الطاقة الحضارية التي لا يُسمح لها بالفعل.

***

والخلاصة أنَّه:

لا ينبغي لمن يسعى في سبيل النهضة أن ينسى ضرورة التفوق السياسي والعسكري معتمدًا على تفوّق مشروعه الحضاري فحسب، ولا متوهمًا أن التفوق الحضاري يلد تفوقًا سياسيًّا وعسكريًّا..

فليراجع كل ذي مشروع مشروعه، فإنَّها نهضة سعيدة أو نكبة أخرى جديدة.

نشر في: يقظة فكر

الأحد، ديسمبر 26، 2010

الدولة تبني الحضارة.. والأمة أيضا


في حواره مع الموقع الشبابي الرائد "يقظة فكر"، قال الأستاذ الكريم المقري الإدريسي عبارة أحسب أنه ينبغي التوقف عندها كثيرا، فلقد قالها ببساطة وحسم وكأنها "قانون معروف"، أو كأنه "اكتشاف حضاري" يملك عليه الأدلة المتواترة. تلك هي قوله "حضارة الإسلام بنت الدولة وليست الدولة التي بنت حضارة الإسلام".. ولقد جعل الموقع من هذه العبارة عنوان الحوار الرئيسي مما عطاها ثِقلاً جديدا.

وأحسب أن الأستاذ جانبه الصواب في هذه العبارة، لاسيما وأن مقدماته لا توصل بحال إلى هذه النتيجة؛ لقد نفي الأستاذ –عن حق- أن الدولة الإسلامية "دولة شخص لأنه حتى الرسول – صلى الله عليه وسلم – الشخصية المحورية والمركزية في كل هذا المشروع، قال عنه القرآن الكريم: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم علي أعقابكم)... المعنى من هذا أنَّ الدولة الإسلاميَّة ليست دولة شخص وليست الأُمَّة الإسلاميَّة أمة الدولة بل هي تصنع الدولة" ثم انتقل من هذه المقدمة ليقول: "في تاريخ الإسلام الدولة مكون من مكونات الأُمَّة, وهي عنصر ناظم فقط لكل طاقاتها، حيث توفر جانب الأمن والكرامة والحريَّة والرمز والراية والجيش والعلاقات الخارجيَّة والأمن والاستخبارات فقط، وماعدا هذا فالأوقاف والمجتمع الأهلي والمدني والعلماء والقضاة والدعاة والمجاهدين والشهداء والمفكرين والمرجعيَّات كانوا يمثلون عمدة الوجود المعنوي للأمة، ولهذا فـ”حضارة الإسلام بنت الدولة وليست الدولة التي بنت حضارة الإسلام“.

ويبدو أن الأستاذ المقريء الإدريسي أراد أن يُعَظِّم من شأن المجهود الجمعي للأمة وإسهاماته الحضارية فَتَطَرَّف في العبارة حتى أَغْرَب في هذا الاتجاه، إلى الحد الذي جعل الحضارة والدولة من نتاج هذا المجهود!

والحق أن ثمة "خصوصية إسلامية" في المسار الحضاري للأمة المسلمة، تلك هي "الإبداعات" الحضارية التي جعلت الأمة تمتلك "تمويلا ذاتيا" لمشروعاتها الحضارية، وأهم مصادر هذا التمويل هو مؤسسة الوقف.. لقد ضمنت مؤسسة الوقف بما تجمعه من الأمة من أموال نموا ذاتيا للمؤسسات العلمية والتعليمية والصحية والتعميرية، وضمنت أيضا استقلالا للعلماء الذين يحصلون على أجورهم من أموال الأمة لا من خزانة السلطان، ثم ضمنت تمويلا لطلبة العلم المتفرغين له، وكل هذا أتاح للأمة أن تواصل مسيرتها ونموها الحضاري بمعزل عن الحالة السياسية.

ولهذا تكرر كثيرا أن يهوى الوضع السياسي في الضعف والانحدار فيما الأمة تواصل تفوقها الحضاري، فحين أقبل الصليبيون أخذوا الأرض نتيجة الانهيار السياسي، ولكنهم أُسِروا أمام التفوق الحضاري وبدأوا يتعلمون منه، وكذلك المغول، وكذلك الإسبان حين كانوا يقتطعون من الأندلس حتى ابتلعوها، وكذلك النورمان حين طردوا المسلمين من صقلية... وهكذا، كانت النمو الحضاري للأمة بمعزل عن حالتها السياسية.

لكن يجب ألا نتوقف هنا فنضع نقطة في آخر السطر ونسكت، وكذلك يجب ألا نبالغ في هذا المجهود الجمعي حتى نظن أن الأمة هي التي أفرزت الدولة وهي التي أفرزت الحضارة.. بل إن الحقيقة التاريخية المعروفة تقول بأن الحضارات لا تنشأ إلا في دُوَلٍ مستقرة.

***

إن بداية الحضارة دائما كانت من الدولة وليست من الأمة، ثم إنه لا معنى لأن نقول إن الأمة تفرز الحضارة، ذلك أن الحضارة –بشقيها: المادي والقِيَمي- لابد لها من أرض تنشأ عليها، ولابد لها –كذلك- من دولة توفر لها مقومات الحياة، والأستاذ الإدريسي نفسه قال بأن الدولة "عنصر ناظم فقط لكل طاقاتها، حيث توفر جانب الأمن والكرامة والحريَّة والرمز والراية والجيش والعلاقات الخارجيَّة والأمن والاستخبارات فقط"، ولنا أن نتعجب ما نشاء من لفظ "فقط" بعد كل هذه "الضرورات الحيوية" التي ذكرها، ثم كيف يستقيم أن تكون الدولة عنصرا ناظما لطاقات الأمة بما يُفضي في النهاية إلى تكوين الحضارة، ثم يُقال بعد سطور بأن الحضارة إفراز من الأمة وليست من الدولة؟

لقد بدأت حضارة الإسلام من "دولة" المدينة، وكانت الحضارة في هذه اللحظة متكثفة في المنظومة القيمية لا في الإنتاج المادي، وما كان لهذه المنظومة القيمية أن توجد إلا في ظل "دولة"، صحيح أن القيم نفسها بدأت مع الرسالة في مكة إلا أنها حوربت وعوديت ولم يُسمح لها بالحياة، فلما أن قامت "دولة" الإسلام في المدينة نزلت الأحكام التفصيلية التي كانت بمثابة الثوب والتطبيق والتفعيل للقيم التي جاءت بها الرسالة.

ما كان المسلمون في مكة يستطيعون أن يطبقوا منظومتهم الأخلاقية الحضارية، فما استطاعوا أن يُنشئوا الحضارة الإسلامية في مكة، ولو في شقها القيمي الأخلاقي فحسب.. بل نزلت الأحكام حين صارت لهم "دولة" تستطيع أن تبدأ فيها الحضارةُ مسيرتَها.

***

ثم بدأ منحنى الإنتاج المادي يتصاعد، لكن هذا التصاعد بدأ بـ "قرارات الدولة"، فاستيعاب أحوال الدواوين الفارسية واعتمادها في الدولة الإسلامية كان بقرار من الخليفة، ثم تعريب الأنظمة والمكاتبات والنقود كان بقرار من الخليفة، ثم انطلاق مشروع الترجمة عن العلوم اليونانية والفارسية والهندية كان بقرار من الخليفة، وبداية إنشاء المؤسسات العلمية والتعليمية والصحية كلها كانت قرارات صدرت من رأس "الدولة".. كان لابد من دولة تُطلق "الشرارة الحضارية" ثم بعدئذ تتمكن الأمة من تمويل هذه البدايات الحضارية ورعايتها ودعمها حتى تتمكن من الاستقرار والمواصلة.

ولو لم تكن الدولة صاحبة هذه القرارات التي بدأت بها "الشرارة الحضارية"، ما كان أحد من الناس يستطيع أن يتخذ قرارا بتنظيم الدواوين، ولا بتعريبها، ولا بإنشاء دار الحكمة، ولا برعاية مشروع الترجمة، ولا ... ولا ... ولا ... إلى آخر هذه القرارات التي بدأت بها مسيرة حضارية.

كان عهد أبي بكر الصديق بتثبيت استقرار الدولة ثم بتمكينها، ثم جاء عمر ومن بعده عثمان فبدأت في عهدهما بدايات الحضارة الإسلامية (في شقها المادي بالطبع، لأن الشق القيمي الأخلاقي استقر منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم).

ثم حدثت اضطرابات معروفة في مسار الدولة، حتى تمكن عبد الملك بن مروان من إحكام أمر الدولة ثم توسيعها، فكان عهد الأمويين عهد الفتوحات والاستقرار السياسي الذي أسس لظهور البناء الحضاري الشامخ الذي بلغ ازدهاره في عهد العباسيين الذين ورثوا ملكا مستقرا فكان عليهم أن يُثَمِّروه ويُنضِجوه حضاريا ففعلوا هذا على خير وجه.. وفي عهدهم نمت العلوم والمؤسسات وأساليب الإدارة والحكم والفن وسائر المظاهر الحضارية.

وفي الأندلس لم تبدأ الحضارة الأندلسية إلا بعد استقرار الدولة على يد عبد الرحمن الداخل، ونفس الأمر تم مع العثمانيين.

كانت الحضارة تبدأ بعد استقرار الدولة، وبقرارات الحكام الأقوياء النابهين الذين يظهرون في هذه المراحل من عمر الدول، فيُطلِقون الشرارة الحضارية فتبدأ عجلة الحضارة في الدوران.

فلهذا تنشأ الدولة فتنظم شؤون الأمة ثم تبدأ شرارة الحضارة فتعمل الأمة على تلقفها وتثميرها وتمويلها ودعمها.. ولو صح أن الأمة تفرز الدولة والحضارة لرأينا المسار معكوسا، لرأينا الأمة –وإن كانت في فترات اضطرابها – تستطيع أن تنتج دولة أو حضارة.. وهو ما لم يحدث.

***

صحيح أن الحضارة الإسلامية لم تكن تنتهي حين ينتهي النظام السياسي، إلا أنها كانت تتأثر بمناخ الضعف والانحدار ولاشك، وحين يطول عليها الانهيار في الحالة السياسية فإن أعراض الضعف تبدأ فيها حتى نصل إلى التخلف الحضاري.

لكن اللحظة الفارقة والمؤثرة في المسار التاريخي للعالم كله كان في ظهور "الدولة المركزية"، وخطورة الدولة المركزية تتمثل في أنها استولت على مقدرات الأمة وما كان بيدها من أدوات، فاحتكرت الإعلام والتعليم والسلاح حتى جردت الأمة من إمكانيتها في الحركة، فإذا جاء على رأس هذه الدولة مستبد أمكنه أن يصوغ الناس على مثاله ولو كره الناس.

ولقد بدأت هذه اللحظة في العالم الإسلامي على يد محمد علي، ألغى الأوقاف وجمع في يده مقاليد الأمور حتى لم يعد للأمة شيء، ولا حتى إمكانية الدفاع عن نفسها، وعلى رغم انتصار المصريين بمجهودهم الذاتي على حملة فريزر الإنجليزية وردها عن مصر خاسرة، إلا أن محمد لم يسمح بأن يبقى في يد العامة سلاح لأنه يعلم جيدا أنه سلاح تحرر من المحتل ومن المستبد أيضا.

وعليه جمع محمد علي السلطات في يده، وجَرَّد الأمة من مقوماتها الذاتية، فبدأت مرحلة تاريخية جديدة، مرحلة إذا مات فيها الحاكم مات معه مشروعه الحضاري (كما حدث مع مشروع محمد علي نفسه)، وإذا هُزِم فيها جيش الدولة فإن الدولة كلها تسقط تحت الاحتلال.

وبعد أن عاشت الحملة الفرنسية ثلاث سنوات تعاني فيها من مقاومة شعبية لا تتوقف، إذا بالاحتلال الإنجليزي ينعم بسبعين سنة في مصر. وبعد أن تولي محمد علي السلطة على رغم أنف الباب العالي بدعم من "القيادات الشعبية" المصرية، ترك محمد علي الحكم لأولاده وقد خلت مصر من القيادات الشعبية واستقر فيها حكم القائد الواحد المستبد. وبعد أن كان الشيوخ مستقلون بما يجري عليهم من أموال الأوقاف صارت رواتب الشيوخ تخرج من خزائن السلطان.

منذ ظهور الدولة المركزية بطبيعتها المتغولة صار كل إصلاح يصطدم بالدولة التي تملك وسائل التأثير والتوجيه والضغط والإغراء، ومن قبل ذلك وبعده تملك القوة التي يُحسم بها كل أمر مريب.

لقد أدى هذا إلى نشوء ظاهرة أسميها "المجتمع الإسلامي المشوه" (صدر ضمن إصدارات يقظة فكر)، مما يحسم التفكير نحو نتيجة خلاصتها أنه لابد من إصلاح الدولة لكي نحقق هذه النهضة الحضارية المأمولة.

نشر في: يقظة فكر

الثلاثاء، ديسمبر 21، 2010

تحقق ما توقعته..

لست -يعلم الله- ممن يحب أن يقول إذا صح له رأي: ألم أقل لك؟ ألم أقل لك؟

ولكنه ليس إلا تذكيرا بأن أمورا شديدة الوضوح قد تغيب عن الذهن أحيانا حين يزيد التفاؤل عن حده الطبيعي فيدخل في حد الحلم والخيال..

وكنت قد كتبت قبل أكثر من سنة عن أن الحركات الإسلامية ستعود أدراجها بعد "طردها" من المجال السياسي نحو التربية والعمل المجتمعي، متصورة أنها لم تتراجع ولم تخسر.. وهو ما كشف عنه بصراحة ووضوح المقال الأخير للدكتور عصام العريان. (الفقرة الأخيرة على وجه التحديد).

انظر:


وكنت قد كتبت من قبل عن المقال العجيب للدكتور عصام العريان، وتوقعت أنه ليس أكثر من مناورة ستفشل (الفقرة الأخيرة على وجه التحديد).. وقد حدث هذا كما رأيناه جميعا.

ولا أدعي أنها عبقرية أو ذكاء غير عادي.. إنما أزعم أنه قراءة عادية جدا لواقع واضح جدا، لا يغيبه عن الأذهان إلا تفاؤل مفرط لابد من التحكم فيه.

الأربعاء، ديسمبر 08، 2010

الهجرة .. ومنهج البحث عن حل

يكاد القرار العُمَري الذي اتخذ الهجرة حدثا للتاريخ الإسلامي أن يكون وحيا، ولا عجب؛ فذلك العقل العُمَري بلغ من الشفافية والعبقرية أن قد نزل الوحي ليوافقه في أكثر من رأي، ومن ثم كان قرار التأريخ بالهجرة ثمرة من ثمار ذلك العقل الألمعي الجبار فاقتضى أن يتوقف المسلمون أمامه في كل عام، وهي وقفات لا تزال تمدهم بالجديد والضروري لمسيرتهم في التاريخ.

في هذه السطور سنرى أن الهجرة تقدم للمسلمين منهجا في بحثهم عن الحلول للمشاكل القائمة، وسنرى كيف أن الإخفاقات التي يشهدها واقع الأمة راجعة إلى اعتماد حلول "ناقصة" لم تدرك بعض الحقائق التي كان ينبغي استلهامها من حادث الهجرة.

***

طبيعة المشكلة

كان قيام الدولة الإسلامية ضرورة شرعية وضرورة تاريخية، فعلى المستوى الشرعي كان لابد للرسالة الخاتمة أن تستكمل فصولها فتخبر الناس كيف يديرون حياتهم في دولة، وكيف ينظمون لأنفسهم طرق السياسة والإدارة والحرب والقانون. فكان لابد من وجود صورة للدولة الإسلامية تظل بمثابة النموذج الذي يُلهم الناس ويُرشدهم. وهي صورة لا يستفيد منها المسلمون وحدهم بل هي كذلك من وسائل الدعوة لكل العالمين، فإن تحقيق الفكرة للنجاح على الأرض يدفع ويُغري من لم يقتنع بالفكرة ذاتها إلى أن يقتنع بها حين يرى آثارها وثمارها.

وذلك قانون تاريخي لا يُجادل فيه، فكل فكرة في التاريخ لم تستطع صناعة دولة -تتمثل بها في واقع الحياة- ماتت في مهدها أو في صباها، أو ظلت –في أحسن الأحوال- حلما يراود الخيال، وينفر منه الواقعيون، ويطرحه السياسيون والقادة وصناع التاريخ.

فكان لابد للرسالة الخاتمة أن تُنشيء الدولة لتحقق ثمرة الفكرة، ولتثبت الفكرة أنها عملية قادرة على الحياة وقابلة للتطبيق، بل هي النموذج الأمثل والأنجح من بين كل الأفكار. هذا على مستوى الضرورة الشرعية.

وأما على مستوى الضرورة التاريخية، فيبدو الأمر واضحا لو حاولنا تخيل مسار التاريخ الإنساني بدون الرسالة الإسلامية، إن الصورة تبدو كارثية بكل الوجوه، فإن القفزة الحضارية التي صنعها المسلمون وضعت بصمتها على كل التاريخ الإنساني وعلى مختلف أنشطة السلوك الإنساني حتى ليبدو المفكر الإنجليزي الكبير مونتجمري وات مذهولا إذ يقول "إننا لنجد شيئًا لا يكاد العقل يصدقه، وبالتالي فهو أمر يخلب اللبَّ، حين نقرأ عن كيف تحوَّلت الحضارات القديمة في الشرق الأوسط إلى حضارة إسلامية"[2]، هذا مع اعتراف المستشرق الإنجليزي الشهير ألفريد جيوم بأن تأثير الحضارة الإسلامية لم تدرك أبعاده بشكل كامل إلى الآن، يقول: "وعندما ترى ضوءَ النهار جميعُ الموادِّ النفيسة المختزنة في مكتبات أوربا، فسيتضح لنا أن التأثير العربي الباقي في الحضارة الوسيطة لهو أعظم بكثير مما عُرِفَ عنه حتى الآن"[3].

إلا أن المشكلة العويصة التي عاناها النبي (صلى الله عليه وسلم) في قريش أن أحدا من ساداتها وصناع القرار فيها لم يقتنع بأن هذه الفكرة إن اعتنقوها وآمنوا بها سادوا العرب والعجم وملكوا الأبيض والأحمر، بل كان نظرهم قاصرا وكانت قلوبهم مستكبرة فلم ينظروا فيها إلا إلى تسفيهها عقول آبائهم ورفع شأن العبيد إلى مرتبة السادة والقضاء على عبادة الأوثان التي كان وجودها "ضرورة اقتصادية" لتجارتهم بما تدره عليهم من أموال.

ورغم كل المجهود المبذول لإقناعهم بصحة الرسالة وبفوائدها لهم إلا أنهم صدوا واستكبروا بل وانهالوا على المؤمنين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم حتى تآمروا لقتل صاحب الرسالة نفسه.

كان لابد للرسالة أن تجد أرضا تستقل بها فتحقق فيها الفكرة، ولكن أين الأرض؟ ومن ذا الذي يقبل أن يغامر؟.. ذلك هو صلب المشكلة التي تبحث عن حل.

***

(1) الحل موجود

هذه هي المنهجية الأولى في البحث عن حل، وهي الإيمان بأن الحل موجود للمشكلة القائمة، وأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، وهو –من ثَمَّ- لا يكلف الأمة ما لا تطيق وما ليس لها إليه من سبيل، إلا أن هذا الحل قد يخفى فلابد إذن من السعي للبحث عنه، وهو سعيٌ يؤمن بأنه يبحث عن شيء موجود.

ثلاثة عشر عاما قضاها النبي (صلى الله عليه وسلم) قبل أن يتوصل إلى الحل، لكن المهم في هذه الأعوام أنه لم يفتر ولم يسكت ولم ييأس أبدا، كانت كل المحاولات التي تنتهي بنتائج غير مرضية تزيد من عزمه (صلى الله عليه وسلم)، فتبدأ بعدها محاولة أخرى.

وإني لأحاول أن أتصوره (صلى الله عليه وسلم) يجلس وهو في عمر الخمسين، بعد عشر سنوات من الجهاد والأذى يستعرض كيف قام بالدعوة منذ سنين وكيف أوذي وكيف عذب هو وأصحابه، وكيف حوصر في شعب أبي طالب حتى كادوا أن يهلكوا من الجوع، ثم كيف ذهب إلى الطائف وعاد منها مُهانا، ثم كيف يعرض نفسه على القبائل فترده القبائل كلها كأنما دبروا هذا بليل.

ثم أتصوره وهو عازم لم يثنه كل هذا، وما يزال يحاول ويجاهد، ويبحث عن أرض تقله وعن بشر يحمونه، حتى يُظفره الله بنفر الأنصار الذين كانوا بداية النصر والتأييد (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال : 62].

إن لكل مشكلة حل، لكن لا يصل إلى هذا الحل إلا من أخذ في البحث والتقصي واجتهد، قد يتعثر مرة ومرات لكنه سيجده. وصحيحٌ أنه قد يكون صعبا، وهي صعوبة تبلغ أن يقف النبي ناظرا خلفه إلى مكة التي يعانقها الليل فيقول دامعا "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت"[4]. بل تبلغ أن يتذكر -بعد السنين والجهاد الطويل- أصعب يوم مَرَّ عليه وقد كان يوم الطائف.

(2) اكتب "جدول الأعمال"

الإيمان بوجود الحل يثمر وضع "جدول الأعمال" أو "خطط التشغيل"، ولقد كان لدى النبي (صلى الله عليه وسلم) "جدول أعمال" هذا: سنجرب هذا الطريق ونبذل فيه كل ما نستطيع، فإن لم ينجح فهذا، فإن لم ينجح فهذا ثم هذا ثم هذا... وهكذا حتى يصل بنا أحد هذه الطرق إلى الحل المطلوب.

إن الضرورة الشرعية والتاريخية التي تحتم قيام الدولة الإسلامية تجعلنا ننظر إلى الفترة المكية على أنها سيرة رجل يبحث عن القلوب ليهديها إلى الدين، ثم هو أيضا يبحث عن إقامة الدولة التي تتحقق بها الفكرة، وبهذا نفهم خطة السير أو "جدول الأعمال" الذي اعتمده النبي (صلى الله عليه وسلم) في هذه الفترة، ونستطيع أن نرى بوضوح ثلاثة بنود في هذا الجدول الذي يهدف إلى إقامة الدولة الإسلامية.

البند الأول: محاولة إقناع سادة قريش وكبرائها، وكان حرصه (صلى الله عليه وسلم) على هذا عظيما إلى الحد الذي عوتب فيه بقرآن يصفه بأنه "يقتل نفسه" من الغم لعدم إيمانهم (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) [الكهف:6] (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء:3]، ثم عوتب حين عبس لأعمى شغله عن جلسة مع كبار القوم، فنزل القرآن (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) [عبس:5 - 10]، بل تروى بعض الآثار –وفيها ضعف- أنه (صلى الله عليه وسلم) هَمَّ بالاستجابة لطلب سادات قريش بأن يجعل لهم مجلسا غير مجلس العبيد لئلا تسقط بينهم المقامات، فنزل قول الله تعالى (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنعام : 52].

ولكن اللافت للنظر، والجدير بالتأمل والاعتبار، أنه (صلى الله عليه وسلم) وقد رأى إصرارهم لم يقعد جالسا منتظرا أن يحول الله قلب أحدهم إلى الإيمان، أو منتظرا تغير الظروف والأحوال، وموازين القوى في مكة، بل انتقل إلى البند الثاني بعدما بدا أن الأحوال في مكة لا تبشر بخير في المدى المنظور.

البند الثاني: خرج النبي إلى الطائف –وهي القوة المنافسة لقريش في الجزيرة- باحثا عن الأرض التي يقيم عليها الدولة في حماية سادات الطائف، وحين وُوجه هناك بأقسى مما توقع فأُوذي وأُهين وهو الكريم النسب والخلق فإنه أيضا لم يقعد ولم ينتظر.

البند الثالث: وسع (صلى الله عليه وسلم) دائرة البحث حتى كان يعرض نفسه (وكم توحي هذه العبارة بالإصرار على الهدف، كما توحي بالهوان على الناس) على القبائل في موسم الحج. وكان شعار هذه الفترة معبرا عن طبيعة الهدف "ألا رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي"[5]، وذكر أصحاب السِيَر أسماء خمس عشرة قبيلة كلها رفض دعوته، حتى أعثره الله في آخر الأمر على النفر الستة من يثرب، فأيده الله بهم.

وأخيرا تحقق الهدف، ووجدت الأرض التي تستعد لإقامة دولة الفكرة، دولة الإسلام.

السير بلا رؤية ولا تخطيط أحد المشكلات التي تتسم بها حركة كثير من الإصلاحيين، كذلك الجمود على طريق وطريقة مشكلة أخرى تعاني منها كثير من الحركات والتيارات الإصلاحية.. كلاهما مشكلتان أنتجهما غياب منهج "جدول الأعمال".

(3) وضوح الحد الأدنى المقبول

هذه المنهجية مع التي تليها أصلان لا غنى عنهما لكل من يتحرك بفكرة أو قناعة أو عقيدة في واقع يناهضها، فلابد من الوضوح الذي يُعرف به ما هو الحل المقبول وما هو الحد الأدنى الذي يُرضى به ولا يُقبل بما هو أدنى من ذلك.

لقد قبل النبي (صلى الله عليه وسلم) بالحد الأدنى من شروط إقامة الدولة في المدينة، وقبل بأدنى درجات الحماية والنصرة، وهي الحماية داخل المدينة فقط[6]، ففي بيعة العقبة الثانية كان النص يقول "وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم وتمنعوني مما تمنعون عنه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم"[7]. فعبّر عن الحماية داخل المدينة بلفظ "تمنعوني".

ومن ثَمَّ فحين خرج (صلى الله عليه وسلم) لاعتراض عير قريش في بدر فأفلت العير وصارت الثلة القليلة أمام جيش قريش وعن غير استعداد، احتاج النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى ما نستطيع أن نسميه "بيعة جديدة" تشمل بند "القتال والنصرة خارج المدينة" وهو ما وافق عليه الأنصار على لسان سيدهم سعد بن معاذ.

إن هذا دليل آخر يثبت ضعف رواية تفاوض النبي (صلى الله عليه وسلم) مع بني شيبان والتي تقول بأنهم قَبِلوا حمايته فيما يخص جهة العرب فحسب لا من جهة الفرس، وأن النبي (صلى الله عليه وسلم) رفض الحماية المنقوصة واشترط الحماية الشاملة وقال:"إن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه"[8].

ما كان النبي ليترك قوما يريدون حمايته من جهة العرب ويعجزون عن جهة الفرس، فيبقى في قوم لا يحمونه حتى من جهة أنفسهم، بل يعذبونه وأصحابه حتى يضطرونهم إلى كلمة الكفر!! ثم إنه قَبِل بمن سيحمونه داخل مدينتهم فقط!!

(4) رفض العروض التلفيقية والتخديرية

إن الهجرة، أيضا، درس في البحث عن الحل الجوهري، وترك الحلول الجزئية التوفيقية أو التلفيقية التي تعطل المسيرة الإصلاحية وتمتص حماستها وزخمها وتعمل على حصارها أو تخديرها أو تنويمها.

يبدو هذا الدرس عظيما في كل العصور وأمام كل المشكلات، إلا أنه في "عصر المفاوضات" يبدو أشد عظمة وأكثر إبهارا، فكم من الثورات التي قامت بها الشعوب العربية والإسلامية دخلت في نفق الحلول التوفيقية، فوضعت على طاولة المفاوضات حتى انتهت وتلاشت. إن المرء ليتذكر كثيرا من هذه الثورات بحسرة، كما يتذكر وبحسرة أشد كثيرا من الخِدَع التي انطلت على مجاهدين وثائرين وإصلاحيين حتى اغتالت أحلامهم وأحلام شعوبهم وأتباعهم، والأمثلة كثيرة ولا أشك أن من يتأمل التاريخ والواقع سيخرج بالكثير من هذه الأمثلة.

إن سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) تخبر أنه لم يرض أبدا بحل توفيقي طوال مرحلة الاستضعاف، لكنه ربما فاوض وبحث عن حلول وسطى في المرحلة المدنية، وذلك بالرغم من أن هذه الحلول التوفيقية كانت تتسع يوما بعد يوم، ويزيد فيها الإغراء بعد كل نجاح إسلامي يتحقق؛ فلقد بدأت منذ أن عُرض عليه أن يعبد إلههم عاما ويعبدون إلهه عاما، ولئن كان هذا عرضا مرفوضا في وجدان قارئ هذه السطور الآن، فإن العروض تطورت حتى وصلت إلى ذروتها مع عتبة بن أبي ربيعة: "يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت من هذا القول مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تريد شرفا شرفناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك رئي تراه ولا تستطيع أن ترده عن نفسك طلبنا لك الطبيب وبذلنا فيه أموالنا حتى يبرئك منه... "[9]. والحقيقة أن هذا العرض بالملك والنفوذ والسيادة لا يزال يبدو مغريا بعد 1431 سنة، فقط إذا وضع القاريء نفسه مكان النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) المستضعف في مكة، الحريص على إيمان السادة والكبراء، الباحث عن حماية ونصرة.

غير أنه (صلى الله عليه وسلم) رفض كل حل يخمد حماسة المؤمنين أو ينتهك صميم الإيمان، وظل يجاهد ويُؤْذَى ثم يجاهد ويؤذى، حتى أقام الدولة الحق بالحق. ولو أن هذا الدرس وعاه أبناء الأمة لما وجدنا واحدا يكتب رحلة حياته -التي فشلت- في مذكرات بعنوان "الحياة مفاوضات".

(5) البحث عن الحل لا تحميل المسؤولية

كثيرا ما يبدو الغضب والانزعاج على العلماء والدعاة والقائمون بالإصلاح تجاه وقوع تقصير من الأفراد في الأوراد التعبدية أو في السنن والنوافل، أو باتجاه ارتكاب بعض الذنوب وجلها من الصغائر، وكثيرا ما نسمع خطابا يُحمّل الذي يسمع الأغاني أو المتبرجة أو المتعلق بالكرة أو غير المقيم على تلاوة القرآن مسؤولية ما صارت إليه الأمة من الضعف والهوان.

ونرى أن هذا من تحميل الأمور فوق طاقتها، وفي سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) وطوال المرحلة المكية لم نر أسلوبا كهذا، وقد انهار الأوائل الذين اسلموا: عمار بن ياسر وأمه سمية وصهيب والمقداد (رم) تحت التعذيب الشديد فنطقوا بكلمة الكفر، كما في حديث ابن مسعود قال: "كان أول من أظهر إسلامه سبعة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد. فأما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فمنعه الله بعمه أبي طالب. وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه. وأما سائرهم فأخذهم المشركون وألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس. فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلال"[10]. وأتى عمار للنبي حزينا يقول: "ما تُرِكْت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير. قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان قال: إن عادوا فعد"[11]، ثم نزل فيه قول الله عز وجل يستثنيه من العذاب (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ -إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا- فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النحل : 106]

لم ير النبي (صلى الله عليه وسلم) في أزمة الإسلام وقتها أن هذا بسبب أن بعض من أصحابه –كخباب وعمار والمقداد و... و....- لم ينجح في اختبار الثبات والصمود، وبالتالي فتلك الفئة ما زالت في حاجة لمزيد من التربية والاحتضان والتوعية، ولمزيد من الإيمان. لم يعتمد النبي هذا التفسير، ولم يعتبر أن هذا هو سبب تأخر النصر والتمكين، بل استمر (صلى الله عليه وسلم) في مسيرته لمعالجة سبب الأزمة الحقيقية وهو عدم "الاستقلال" في أرض تعيش عليها الفكرة الإسلامية في أمان، وفيها تثمر.

في الحقيقة فإن المتبرجات والتافهين والمفرطين في الطاعات بل حتى المتعاطين للمخدرات وغيرهم إنما هم ضحايا أفرزها ابتعاد المجتمعات الإسلامية عن الإسلام وما صنعته الحكومات من تولية المفسدين مناصب الإعلام والتوجيه والتأثير، وهؤلاء أولى أن ينظر إليهم بعين الرحمة والرعاية قبل أن ينظر إليهم باعتبارهم سبب نكبة الأمة ونكستها. ومن الهروب أن يُصَبَّ السَبُّ على هؤلاء ولا يصب على من أوردوهم هذه المهالك. وأحرى بالعلماء والدعاة والحركات الإصلاحية أن تواجه الحقائق وأن تحارب أكابر المجرمين لا أن تُحَمِّل الضحايا مالم يفعلوه ولا يستطيعون!

ولو أن النبي (صلى الله عليه وسلم) عامل أصحابه كما يعامل الدعاة جمهورهم اليوم فلربما لم يكن ليفكر في الهجرة أبدا، بل عاش طوال عمره يغرس مزيدا من الإيمان ومزيدا من التربية ومزيدا من التثبيت...

(6) الحل العملي الذي يتحدي التشويش الإعلامي

وأخيرا، فما أحوجنا إلى هذه المنهجية.. إن الهجرة درس في البحث عن الحل العملي الذي يهتم بتغيير الواقع أكثر مما يهتم بـ "الاتهامات الإعلامية" التي تستطيع التشويش وإثارة المشكلات لمن يهتم لها كثيرا، وأكاد أتخيل أن الهجرة النبوية لو تسلط عليها إعلام مثل إعلام العصر الحالي، فسيستطيع رميها بكل نقيصة، وحينها ستتحول إلى "الهروب الكبير" و "التخلي عن مشكلات الوطن" و "لقد ترك محمد المسلمين الضعاف في مكة يعذبون وذهب ليعيش ملكا منعما في المدينة" ولقد ذهب "يمارس من المدينة جهاد الميكروفونات والمستضعفون في مكة يعذبون". إن "الهروب إلى المدينة دليل على الفشل في مواجهة المشكلات الداخلية" وهو كذلك "استعانة بالدول الأجنبية"... إلخ.

ستتحول الهجرة المجيدة إلى "خيانة عظمى" لو تسلط عليها مثل إعلام العصر الحالي، الذي يُدار معظمه -سرا أو علنا- من القوى التي تعادي الأمة وتفترسها وتريدها عاجزة ضعيفة بلا جهاد ولا مقاومة ولا ذاتية ولا هوية. والواقع أنه لابد أن يمتلك العلماء والمجاهدون حسن التصرف والتعامل مع الإعلام، ومن أسفٍ أن هذا الجانب يحتوي خللا كبيرا، فلا يكاد يمهر في هذا الجانب من بين الحركات الإسلامية الحالية إلا حركة حماس وفصيلين لا أكثر من حركات المقاومة في العراق، وحزب الله في لبنان. ولا أكاد أَعُدُّ عشرة من العلماء يجيدون التعامل مع المناورات الإعلامية وأساليب الصحافة الملتوية.

غير أن الأهم من المهارة الإعلامية لدى حركات المقاومة والإصلاح ألا تعيش تحت "القصف الإعلامي المتواصل" لخطواتها وحركاتها ومشاريعها، خصوصا وأن رضا الناس غاية لا تدرك، فكيف لو كان هؤلاء الناس (الإعلام) –في معظمهم- لا يرضون عن المجاهدين ولا المصلحين إلا أن يتبعوا ملتهم، وهي غربية أو أمريكية أو إسرائيلية؟

لقد كان الواجب العملي والحل الواقعي أن يهاجر النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة ثم يعود بجيش يحرر المستضعفين من المسلمين في مكة، لا أن تتوقف الحياة في سبيل "الواجب الأخلاقي الذي يقتضي –على الأقل- مشاركة القائد للمستضعفين الذين يعذبون بسببه في المحنة لا تركهم في الأسر والبحث عن نعيم الملك في المدينة".

***

هذه منهجيات ستة تلقيها إلينا الهجرة، وهي منهجيات تشتبك بواقعنا الحالي وتعالجه بحيث لا تترك شكا في أن حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) بجميع مراحلها كانت معدة ومهيأة لتكون قدوة للأمة في جميع عصورها اللاحقة. ورحمة الله على الفاروق عمر فكأنما كان يُوحى إليه حين اختار الهجرة بداية لتاريخ الإسلام!



[1] باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية، صاحب مدونة المؤرخ (http://melhamy.blogspot.com)

[2] مونتجمري وات: فضل الإسلام على الحضارة الغربية، ترجمة حسين أحمد أمين، مكتبة مدبولي، الطبعة الأولى - القاهرة، 1403 هـ=1983م. ص19.

[3] ألفريد جيوم: الفلسفة وعلم الكلام، دراسة منشورة في كتاب (تراث الإسلام) بإشراف توماس أرنولد، تعريب جرجيس فتح الله، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الثانية - بيروت، 1972م. ص401.

[4] رواه الترمذي (3925) وقال حديث حسن غريب صحيح، وابن ماجه (3108) وأحمد (18737) والحاكم (4270) وقال: على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في التعليق على الترمذي وابن ماجه، وقال شعيب الأرناؤوط في التعليق على المسند: إسناده صحيح.

[5] يرجع أصحاب السير في أسماء القبائل وعددها إلى الواقدي، وهو حجة في مثل هذه الأخبار وإن كان متروكا في الحديث.

[6] د. أكرم العمري: السيرة النبوية الصحيحة، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، الطبعة السادسة 1415 هـ = 1994م. ص358.

[7] رواه أحمد (14496) وابن حبان (6274) والحاكم (4251) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وصححه الذهبي، وقال شعيب الأرناؤوط في التعليق على أحمد وابن حبان: إسناده صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (63).

[8] وهي جزء من حديث طويل يحكي قصة دعوة النبي مفصلة مع كل قبيلة. رواه الديلمي (897، 7920) وأبو نعيم في معرفة الصحابة (5747) ونقل السيوطي -في جامع الأحاديث، بعدما ساق من خرجه- قول العقيلى: ليس لهذا الحديث بطوله وألفاظه أصل ولا يروى من وجه يثبت إلا شىء يروى فى مغازى الواقدى وغيره مرسل. وضعفه الألباني في السلسة الضعيفة (6457).

[9] رواه أبو يعلى (1818)، وابن إسحاق في السيرة، وحسن سنده الألباني في تحقيقه لفقه السيرة للغزالي. انظر: هامش ص84.

[10] رواه ابن ماجه (150) وحسنه الألباني.

[11] رواه البيهقي (18215) والحاكم (3362)، وقال حديث صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وخالفهما الشيخ الألباني في تخريجه لأحاديث كتاب (فقه الشيرة) للشيخ محمد الغزالي في كون الحديث على شرط الشيخين، ولكنه صحح نزول الآية في عمار لطريق أخرى ساقها ابن جرير الطبري في تفسيره. انظر: هامش ص81 من كتاب فقه السيرة. طبعة دار الشروق.