الخميس، فبراير 24، 2011

ثقافة مطمئنة

كان السويسري هانس كونج قسيسا مرموقا، وأستاذا للاهوت، وقد وصل في المراتب إلى أن عينه البابا السابق للفاتيكان يوحنا بولس مستشارا خبيرا لأعضاء مجلس الفاتيكان، وهو قرينٌ للبابا الحالي بندكت السادس عشر، إلا أنه نشر عام 1971 كتابه "معصوما من الخطأ" والذي تبنى فيه القول بعدم معصومية البابوية، فأزيح من مناصبه وحرم من التدريس كعالم لاهوت، ثم إنه ابتكر مشروعا وتبناه وعمل عليه بدأب شديد، ذلك هو مشروع "الأخلاق العالمية" الذي يدعو جميع البشر إلى التوحد على الأخلاق الأساسية التي وُجِدت في كل الأديان والثقافات الكبرى. يؤمن هانس كونج بأن البشر جميعا متفقون في أصول هذه الأخلاق، ومن ثم فإنه يمكنهم بالتمسك بها أن يصنعوا حياة أفضل يظللها تعايش إنساني واقفٌ على هذه الأرضية المشتركة.

لقد لفت نظري عبارة قالها في محاضرته التي ألقاها في افتتاح ملتقى أديان العالم بجامعة سانتا كلارا في (31/3/2005)، ففيها كان يؤكد على أن الأديان ليست عقبة في سبيل التعايش الإنساني، بل إن لديها القدرة الدائمة على تطوير نفسها وتقديم نماذج جديدة استجابة للمستجدات الحديثة، واستدل على هذا بأن هذه الأديان تعرضت من قبل لحركات إصلاحية؛ فلقد "مرَّ عصر الإصلاح المسيحي بمرحلة أخرى من تغير النموذج، تلك المعروفة بالتنوير. أما اليهودية بعد الثورة الفرنسية ونابليون فقد مرت بتجربة حقبة التنوير أولا، وكنتيجة، مرت أيضا على الأقل بمرحلة الإصلاح اليهودي، بتجربة الإصلاح الديني". لكنه عند الإسلام قال: "أما الإسلام، على الرغم من ذلك، فلم يشهد أي إصلاح ديني، ولهذا فإنه حتى يومنا هذا يواجه بعض المشكلات الخاصة أيضا فيما يتعلق بتعامله مع الحداثة وعناصرها الجوهرية، حرية الوعي، والدين، حقوق الإنسان، التسامح والديمقراطية"(1).

ولست ممن يسيء الظن بالرجل، فإن عامة كلامه من قبل ومن بعد عن الإسلام جيد بل جميل جدا، لا سيما في كتابه "الإسلام؛ الماضي والحاضر والمستقبل" والذي جعل فصله الأخير بعنوان "الإسلام رمز الأمل".

إلا أن الشاهد الذي يهمنا الآن يتمثل في أن خبير الأديان هذا أَقَرَّ –وإن بعبارة مهذبة لطيفة- بأن الديانات الأخرى أُجْبِرَت على تطوير نفسها، من خلال حركات إصلاحية وعبر مجازر ومذابح وحروب دينية طويلة. وأن هذا لم يحدث للإسلام الذي ظل على حاله ولم يتعرض لمحاولات "إصلاحية عميقة".

***

وهذه النتيجة التي وصل إليها كونج، وإن كانت في نظره من السلبيات، يرى المسلمون عكسها تماما؛ إذ يؤمنون بأن الله يبعث في كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، وأن الشريعة الإسلامية لها من عوامل السعة والمرونة ما يُمَكِّنها من استيعاب كل المستجدات في عالم البشر، كما أن تاريخا كاد يبلغ ألفا وخمسمائة من السنين يشهد بأن الثقافة الإسلامية لم تتعرض لما يمكن أن نسميه "محنة ثقافية"، فكلما بدا في الأفق شيء من الخروج على أصول الثقافة الإسلامية هيأ الله لها من المجددين من يجابهها؛ فكان –كما يقول العلامة رشيد رضا- الإمام أحمد في مواجهة المعتزلة، وكان الغزالي في مواجهة تيار الفلسفة والباطنية، وكان ابن حزم في مواجهة الجمود والتقليد وتعظيم أقوال الأئمة على النصوص الشرعية، وكان ابن تيمية وابن القيم في مواجهة المذاهب الكلامية والتصوفية الإلحادية (2)... وهكذا.

***

إن رؤية كونج صحيحة على مستوى أن الإسلام لم يتعرض لحركة "إصلاح" جذرية، فلم تتعرض المفاهيم الأصيلة أو الثوابت الكبرى للنقد والتغيير، فضلا عن العبادات والطقوس.

يتجلى هذا المعنى حين نرى أن الكَمَّ الأكبر من الفلسفات الغربية والتيارات الإصلاحية الغربية مَثَّلت "انقلابا" على الدين نفسه أو على أصول راسخة فيه، بينما كانت الفلسفات والتيارات الإصلاحية الإسلامية عبر التاريخ الإسلامي تُقَدِّم نفسها على أنها "الفهم الصحيح للدين" لا على أنها "انقلاب" عليه، ولم تدخل العلمانية –التي تمثل انقلابا على الدين نفسه- بلاد المسلمين إلا على يد الاستعمار أو أتباعه بالقوة والقهر ثم هي لم تنجح في أن تكون تيارا أو ظاهرة حتى الآن برغم كل ما امتلكته من وسائل وانفراد بساحة التأثير أكثر من مائة عام.

وإذن، فقد احتفظت الثقافة الإسلامية بالاستقرار والرسوخ في أصولها وثوابتها ومفاهيمها الكبرى، غير أنها في ذات الوقت كانت قادرة على أن تستوعب وتتعايش وتتفاعل مع ثقافات تمتد على طول المساحة التي وصل إليها الإسلام من المعمورة، فتعرضت "لاختبارات ثقافية" بعدد ما واجهته من شعوب مختلفة وبيئات مختلفة، وهي اختبارات استمرت لأربعة عشر قرنا، ثم هي ما زالت تنجح في هذا الاختبار.

هي إذن ثقافة راسخة وثابتة في أصولها، ولكنها ذات قدرة على التفاعل والتعايش والمواجهة.. هي إذن "ثقافة مطمئنة"..

والثقافة التي نعنيها –كما قال العلامة محمود شاكر- هي "التي تذوب في بنيان الإنسان وتجري منه مجرى الدم لا يكاد يحس به، لا من حيث هي معارف متنوعة تُدرك بالعقل وحسب، بل من حيث هي معارف يؤمن بصحتها من طريق العقل والقلب، ومن حيث هي معارف مطلوبة للعمل بها، والالتزام بما يوجبه ذاك الإيمان"(3).

***

ولقد تجلى هذا مبكرا في الحياة الإسلامية، منذ وقف جعفر –رضي الله عنه- أمام النجاشي وشرح له الإسلام بعبارات جامعة مانعة، برغم أنه رجل خارج من بيئة قبلية وهو الآن في بيئة حضارية، ويعتنق فكرة جديدة مطاردة وضعيفة ثم هو يشرحها لملك يعتنق ديانة رسخت منذ ستة قرون وصار لها دول وحضارة.. لقد كان مطمئنا، حتى بعد أن اضطر إلى أن يخوض في موطن الخلاف الجوهري "ماذا تقولون في المسيح؟"، لم يفارقه اطمئنانه بالدين فقال ما يؤمن به ولو كان فيه احتمال الهلكة.

كذلك تجلى هذا الاطمئنان بأوضح من هذا في موقف ربعي بن عامر أمام رستم، إذ تجاوز "الصدمة الحضارية" التي أرادها قائد الفرس، أو قل لم ينتبه لها أصلا، فسار يخرق النمارق ويُفسد الوسائد ثم قال بثبات واعتزاز "جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".

ونحن نؤمن بأن هذا الاطمئنان سيظل إلى آخر لحظات الدنيا، إلى ذلك الرجل الذي أخبر النبي r أنه يخرج لمواجهة المسيح الدجال، والدجال يومئذ ربٌ وله عبيد، ومعه كنوز الأرض، ومعه جنة ونار؛ قال r: "يخرج الدجال فيتوجه قبله رجل من المؤمنين فتلقاه المسالح (الشُرطَة) مسالح الدجال فيقولون له: أين تعمد؟ فيقول: أعمد إلى هذا الذي خرج. قال: فيقولون له: أو ما تؤمن بربنا؟ فيقول: ما بربنا خفاء. فيقولون: اقتلوه. فيقول بعضهم لبعض: أليس قد نهاكم ربكم أن تقتلوا أحدًا دونه؟ قال: فينطلقون به إلى الدجال فإذا رآه المؤمن قال: يا أيها الناس هذا الدجال الذي ذكر رسول الله r. قال: فيأمر الدجال به فيُشْبَح فيقول: خذوه شجوه فيوسع ظهره وبطنه ضربا، قال: فيقول أو ما تؤمن بي؟ قال: فيقول: أنت المسيح الكذاب، قال: فيؤمر به فيؤشر بالمئشار (يُنشر بالمِنْشار) من مِفْرقه (رأسه) حتى يفرق بين رجليه. قال: ثم يمشي الدجال بين القطعتين، ثم يقول له: قم. فيستوي قائما، قال: ثم يقول له أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة، قال: ثم يقول: يا أيها الناس إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس. قال: فيأخذه الدجال ليذبحه فيُجْعَل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاسا فلا يستطيع إليه سبيلا، قال: فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار وإنما ألقي في الجنة، فقال رسول الله r هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين" [رواه مسلم]

***

إن هذا يُثبت لنا أن الحضارة ليست تفوقا ماديا فقط، بل هي –قبل هذا ومعه- تفوق ثقافي، أو إذا أردنا الدقة "اطمئنان ثقافي".. ويحتاج هذا لبعض تفسير.

إن سقوط الحضارات كان دائما أمام مجموعات أقل منها في المظاهر الحضارية، وقد حدث غير مرة أن أَسَرَت الحضارةُ المهزومة مجموعات المنتصرين، يحدث هذا الأَسْر إذا كانت ثقافة المهزومين متفوقة على ثقافة المنتصرين.

وبهذا نفسر كيف لم تتهيب جيوش المسلمين حضارات الروم وفارس التي قضت في الزمان أكثر من عشرة قرون، فيما هم بدو خرجوا قبل قليل من الصحراء، كانت الجيوش مطمئنة إلى دينها –الذي هو هو ثقافتها- فلم تأسرهم حضارات الآخرين بل استفادوا هم منها لصنع حضارتهم الجديدة.

وبهذا نفسر أيضا دخول المغول والأتراك في الإسلام؛ ذلك أن لم تكن لهم حضارة من قبله، فهم برغم انتصارهم العسكري على المسلمين إلا أنه لم يمض كثير وقت حتى دخلوا في الإسلام وجددوا حضارته مرة أخرى في الهند ووسط آسيا والقوقاز وفي آسيا الصغرى وأوروبا.

ولا نجد حتى في لحظات الانهيار الحضاري للمسلمين انخلاعا من الإسلام إلا على مستوى القليل النادر ممن خطف أبصارهم بريقٌ آخر، وهؤلاء هم الذين لم يكونوا مطمئنين بالإيمان، فهُزِموا في ميدان الحضارة، أما عامة المسلمين ومعهم نخبتهم الأصيلة فلهم موقف آخر؛ فالجبرتي مثلا نراه في لحظة الانهيار العسكري والحضاري أمام الحملة الفرنسية يفسر الحال بأنه "اختلال الزمن وانعكاس المطبوع وانقلاب الموضوع"(4).. ثم يأخذ في نقد الفرنسيين نقد مطمئن بنفسه وثقافته، فلم يبهره تفوقهم، بل أبان عن عوامل تفوقهم وعن غوائل تجبرهم.

وتاريخ القرن الماضي كله ينتصب دليلا على أن الأمة المسلمة احتفظت بثقافتها برغم كل ما سُلِّط عليها من وسائل تحملها على أن تسير ذات اليمين وذات الشمال، ولا يعوز الأمة الآن إلا أن يقودها من يعبر عنها، فإن نكبتنا الثقافية والحضارية في هذه الحقبة ليست إلا لغياب هذا العامل.

إن الغوص في أعماق الناس يكشف أن الأمة لا تعاني هزيمة ثقافية، بل هي حقا مطمئنة إلى دينها الذي هو ثقافتها، وليست تجري انتخابات "شبه" نزيهة في أية دولة إلا ويكتسحها المعبرون عن هويتها وثقافتها بسهولة، وكل هذه المظاهر التي تبدو على السطح من آثار التغريب والانحلال ليست إلا كحال عمار بن ياسر –رضي الله عنه- حين نطق بكلمة الكفر بعد طول العذاب الشديد، إلا أن قلبه كان مطمئنا بالإيمان!

***

ثمة دليلان رئيسيان يثبتان أن الإسلام "ثقافة مطمئنة":

الأول: أنه لم يُكره أحدا على اعتناقه، واعترف للآخرين بحرية اختيار أديانهم، بل سار في المسار بأبعد من هذا، فجعل رعاية هذه الحرية من مهماته. بل إن مونتجمري وات يسير أبعد من هذا فيقول "هناك اهتمام في الإحصاءات الإرسالية (التبشيرية) بعدد المتحوِّلين للمسيحية، وبزيادة الأعضاء المنتمين للكنائس المحلية، والمسيحية في هذا الصدد تصل إلى حَدِّ التناقض مع الإسلام، فرغم أنه دين دعوة كالمسيحية، إلا أنه أقلُّ تباهيًا بالداخلين فيه؛ فالمجتمع الإسلامي يجذب أناسًا إلى الإسلام لمجرَّد قبولهم كإخوة (في الإسلام)، وهذا الاتجاه لا يَتَّخذه إلا أصحاب دينٍ واثقون من دينهم ثقة عظيمة لا تجعلهم يؤكدونها بالإحصاءات، بينما نجد المسيحيين الغربيين يمرُّون بأزمة ثقة في النفس"(5).

والثاني: أنه على طول هذا التاريخ لم يتعرض "لمحنة ثقافية" كتلك التي تعرضت لها المسيحية في أوروبا مع اكتشاف الحقائق العلمية، ومع ظهور المذاهب الإصلاحية المسيحية، ومع ظهور الإسلام كذلك.. وغاية ما يمكن أن يُذْكَر في هذا الأمر هو نشوء المذاهب المنحرفة، وهي المذاهب التي لم يُكتب لها البقاء طويلا، ولا تُقرأ الآن إلا في مجال دراسة التاريخ الفكري.

***

إن العولمة الثقافية أزمة حقيقية تواجه أصحاب الثقافات التي لا تمتلك من الإمكانيات ما تستطيع به التعبير عن نفسها أو حتى صد الهجمة الثقافية التي تتسلح بالإمكانيات الحديثة، ولهذا فالنظر إلى هذه الأزمة من حيث إدراك خطورتها والتنبيه عليها والدعوة للحذر منها وترتيب الخطط والوسائل لدفعها عن ثقافتنا الإسلامية هو عمل جليل ولا ريب، بل هو عمل واجب يفرضه الدين وتَطْلبه الفطرة الإنسانية، ولذا فلا ريب في أن تصوير خطر العولمة والتهديد الثقافي على سبيل التنبيه والتحفيز وإعداد العدة هو من واجبات المرحلة.

لكن توسيع دائرة الرؤية وعدم حصرها في هذه اللحظة التاريخية يكشف لنا أن أزمة العولمة على الثقافة الإسلامية ستكون كغيرها من الأزمات التي اشرأبت بنفسها واكتست زينة واكتسبت بريقا، ثم تهاوت بعدئذ وصارت أحاديث!!

ولذا فلسنا نخاف على الثقافة الإسلامية، فهي ثقافة راسخة أصيلة.. إنما التحدي الواجب في هذه اللحظة أن ننظر في الطريقة الأمثل التي تتفاعل بها مع هذه التحديات المستجدة، فهي –أيضًا- ثقافة قادرة على التفاعل والاستيعاب والتعايش وكذلك على المواجهة.. ونحن لن نفعل هذا ولا ذاك على وجه الصحة ما لم نوقن ونؤمن في قرارة أنفسنا أولا بأن الإسلام "ثقافة مطمئنة"..


(1) هانس كونج: الإسلام رمز الأمل؛ القيم الأخلاقية المشتركة للأديان، ترجمة رانيا خلاف، دار الشروق - القاهرة، الطبعة الأولى، 2007م. ص37.

(2) محمد رشيد رضا: تاريخ الأستاذ الإمام، دار الفضيلة، الطبعة الثانية، 2006، 1/ج.

(3) محمود شاكر: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ص30.

(4) الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار، دار الجيل – بيروت. 2/179.

(5) مونتجمري وات: الإسلام والمسيحية في العالم المعاصر، ص225، 226.

نشر في مجلة الوعي الإسلامي،

عدد 547: ربيع الأول 1432 هـ / فبراير 2011م

الاثنين، فبراير 21، 2011

منهج إسقاط النظام

(فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

إن هذه الآية هي الترجمة القرآنية لهتاف "الشعب يريد إسقاط النظام"..

لقد امتن الله على عباده لا بنهاية الطاغية وحده، ولا بنهاية الظالمين كوجوه وشخصيات مع بقاء الظلم والفساد، بل بانتهائهم كأشخاص وكمنهج معا (فَقُطِع دابر القوم الذين ظلموا).. أي استؤصلوا.. انتهى أصلهم.

أو بعبارة هذه الأيام "سقط نظامهم"..

بهذه النعمة امتن الله على الإنسانية، وبها خُتِمت قصص الأنبياء..

وحتى في قصة فرعون، وهي الحالة التي توحد فيها الظلم حول شخص الطاغية نفسه، وصارت شخصية الفرعون هي الأبرز في الظلم، جاء القرآن الكريم واضحا في صياغتها وصياغة نهايتها.. فلم تكن رسالة موسى إلى فرعون وحده بل إلى من معه أيضا:

(وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ)

كما لم تكن النهاية نهاية الطاغية وحده، بل نهاية نظامه معه..

(ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)

(وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ)

(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ)

(وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ)

إنه منهج.. منهج "إسقاط النظام"..

***

وهذا المنهج في "إسقاط النظام" كان واضحا لدى موسى (عليه السلام) عندما توجه بالدعاء، فلم تشغله شخصية فرعون وحده برغم مالها من مركزية في القصة، (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ)

ذلك أن فرعون لا يفعل كل الجرائم بيديه وإنما عبر "نظامه" الرهيب.. (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ)

كما أن هذا "النظام" كان يقوم بدور التنظير وإسباغ الشرعية على فعل الفِرْعون، وكانوا يلتمسون المبررات التي يجابهون بها الحقائق مهما كانت واضحة (ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ).

وكان يقدم الخطط والمقترحات (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) ثم إنهم قاموا بدور إعلامي خطير وهو حشد الناس في اتجاه تأييد السَّحرة لا تأييد من سيثبت أنه على الحق (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ).

وكانوا أنصاره على أكاذيبه ودعاواه الباطلة، كما كانوا شركاءه في التكبر والتجبر على الناس (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ).

ولم يكن ثمة مجال لكونهم مخدوعين أو لم يتبينوا الحق فيما جاء به موسى، فلقد بلغت المعجزات تسعة، كلها دخلت إلى قلوبهم (تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).

***

كأنما لخصت هذه الآيات –من سورة الزخرف- قصة "نظام فرعون".. تأملها بقلبك!

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ)

***

ولأجل هذا حَذَّر الله الناس، لا من أن يكونوا ظالمين، بل من مجرد أن يكونوا قريبا من الظالمين وجزءا من منظومتهم، لأن العقاب سيشمل "النظام" كله، قال تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ).

***

في منهج "إسقاط النظام" يكون زوال الطاغية كزوال الرمز أو الصورة، ولا بد أن يتواصل الجهاد حتى يكتمل سقوط دولة الظلم والطغيان، ولو أن مجرد سقوط الطاغية كان كافيا لكان مقتل أبي جهل وأبي لهب وأبي بن خلف في غزوة بدر هو المشهد الأخير.. إلا أنه في الحقيقة كان مجرد المشهد الأول، كان مشهد "الفرقان"، حيث تتميز المعسكرات، أما المشهد الأخير فكان في "فتح مكة" حين سقطت الأصنام وارتفع الهتاف "جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا"..

نشر في يقظة فكر

السبت، فبراير 19، 2011

من دروس الثورة المصرية

أعلم أن الواجب الآن هو الحديث في المستقبل والتنبه لما يُحاك من مؤامرت "الثورة المضادة" التي ينفذها رجال النظام القديم في ظل تعتيم كامل، وسكوت مطبق من جانب المجلس العسكري الذي ما زال تباطؤه يثير القلق، أعلم هذا لكنما أخشى أن تفلت منّا بعض الدروس المهمة فيما حدث حتى الآن.

(1)

حينما اندلعت ثورة تونس فجأة، تفاجأ الجميع، وحينها اكتشفتُ أن ما أعرفه عن تركستان الشرقية أكثر مما أعرفه عن تونس، وكنت وما زلت أرى أن ما كتب في تحليل ثورة تونس لم يرق إلى أن يفسرها أو ربما لا يرق إلى أن يفهمها.

وفي هذه الأيام راجت المقولات عن الفوارق "الرهيبة" بين تونس ومصر، وأن الفساد في مصر من العمق إلى الحد الذي يحول دون حدوث ثورة، وجرى التماس الفوارق المانعة مثل نسبة التعليم وعدد السكان وغيره بل وصل إلى التصريح بأن "الأخلاق" مختلفة في كلا البلدين.

ثم اندلعت الثورة في مصر، وكانت أيضا مفاجأة لجميع الأطراف.. وأستطيع أن أقول إنها أسقطت كل التحليلات التي فرقت بين مصر وتونس، وكل التحليلات التي فلسفت للخنوع والجبن الذي يغرق فيه المصري، بل وصل الحال إلى التصريح بأن الجبن والخنوع طبيعة مصرية في بحوث وكتب تدعي الطابع العلمي، بل لقد خرج علينا آخرون بتأصيلات شرعية تثبت –من خلال القرآن والسنة!!- أن المصريين خانعون جبناء.

قلت كثيرا ومنذ سنوات عديدة بأن الشعوب أفضل من المتوقع، ومتقدمة كثيرا عن الخانة التي يحسبها المحللون والسياسيون بل والدعاة المرتبطون بالشعوب، هذا فضلا عن الخبراء الأجانب، وكنت أستدل على هذا بأن الحركات الإسلامية نفسها تُفاجأ بما تحققه في الانتخابات رغم أنها الأكثر التصاقا بالشعوب.

واليوم أحسب أن الدرس الأول الذي ينبغي تفهمه هو احترام هذه الأمة التي تفاجيء حتى طليعتها ونخبتها بما لم تكن تتوقعه، وأن تزول هذه اللهجة المتعالية من أفواه "المثقفين" و"الخبراء" وكثير من الدعاة.. ها قد ثبت بما لا شك فيه أن الأمة حية ونابضة وأنها بانتظار الشرارة والقيادة.

(2)

ينبغي أن أعترف أني لا أملك تفسيرا أيضا لاندلاع الثورة المصرية، وما زلت أرى أن ما كتب في تحليلها لا يرق إلى فهمها وتفسيرها، ولئن كنت جاهلا بأحوال تونس فأزعم أني متابع للوضع المصري عن كثب، ورغم هذا فلقد كنت من المتفاجئين بما حدث.

يمكن الحديث كثيرا عن العوامل التي فجرت الثورة المصرية عبر ثلاثين سنة، أو ستين، إلا أن هذا الاشتعال في هذه اللحظة ثم هذا التطور الشجاع المذهل في المواجهة لا أجد له تفسيرا حتى اللحظة.

لا يكاد يُفسِّر هذا –عندي- إلا يد الله التي تحرك القلوب، فتهدي قلوبا وتُضل أخرى، وتقذف الشجاعة في نفوس كما تقذف الرعب في نفوس أخرى. وأعلم أن هذا التفسير لا يعجب كثيرين، كما أنه ليس التفسير الكامل حتى بوجهة النظر الإسلامية، إذ أن الله لا ينصر من لا يستحق، ولا بد من عمل بشري يعطيه الله العون.. فأين هذا العامل البشري الذي أمده الله بعونه وتوفيقه؟.. ما زلت لا أدري!

(3)

ضرورة مراجعة الأفكار، وحيث أني من الإسلاميين فإنه يهمني بالقدر الأول أن أتحدث عن الأفكار التي سادت الساحة الإسلامية.

لقد كنت أنتقد كثيرا أن الحركات الإسلاميين مقصرة في استقراء التاريخ، وأن ما ظهر حتى الآن من المشتغلين بالتاريخ ممن لهم انتماء إلى حركة إسلامية إنما يمارسون "التأصيل التاريخي لفكر الحركة"، وهي قراءة تحاول دعم فكر الجماعة أو الدعوة أو الحزب باستدعاء وقائع تاريخية. ومن المهم هنا أن يقال إن "القراءة الإخوانية" للتاريخ كانت أنضج وأرقى من "القراءة السلفية" للتاريخ، ذلك أن الفكر الإخواني أصلا لديه قدر من العمق تفتقده الحَدِّية السلفية التي تنحو دائما إلى التبسيط.

إنما المفاجأة الآن أن بعض الناس لا يقرأون الواقع، ولقد أصابتني صاعقة حين رأيت على قناة سلفية من يرى أن الثورة فتنة وأنها خروج عن الطاعة، لو كان هذا قبل نجاح الثورة ما اندهشت لكنه قيل بعد نجاحها، نجاحها الذي عادت به القناة التي كانت مُغْلَقة بقرار من النظام السابق!!!

لئن كان الوقت فيما سبق يستدعي أو يحتمل نقاشا حول مفاهيم "الفتنة" و"وولي الأمر" و"الخروج على الحاكم" و"تقديرات المفاسد والمصالح في المظاهرات" و .... إلخ، فإن ما بعد الثورة يجب ألا يستدعي نقاشا كهذا، لقد ثبت أن الثورة تحقق مكاسب أكثر بكثير من مفاسدها المتوهمة، وأن مفهوم "القدرة على التغيير دون إراقة الدماء" صار في حكم الممكن المستطاع، وعليه فإن القدرة على الإصلاح صارت أقرب، مما يستدعي تغيرا في الأفكار والتقديرات التي كانت من قبل.

وينبغي أيضا أن نخوض حوارا شجاعا حول مفهوم الحرية والديمقراطية الذي ما زال السلفيون ينظرون إليه على أنه "مؤامرة على الدين"، في حين يراه الناس أمنية وحلما، أيهما أولا: الحرية أم الشريعة؟

لا أتردد في أن أجعل الحرية أولا، ثم في ظلالها يستطيع الناس اختيار ما شاءوا، حتى لو اختاروا الكفر، مع أنه من المفترض أن نثق في أمتنا وشعوبها بأكثر من هذا، لكن دعنا نعرض كل الفرضيات: كيف نجبر الناس على الإسلام وهم يريدون الكفر؟ ما علمنا أن الإسلام يُكره أحدا على الدين.. لنقف جميعا خلف الحرية التي يتمكن بها الناس من الاختيار، فإن اختاروا الإسلام فخيرا فعلوا وهو المظنون بهم والمأمول منهم، وإن اختاروا الكفر فإن الحرية توفر لنا المناخ الذي نتحرك فيه بالدعوة إلى ما نراه الحق.

من غير المقبول أن ينتقل البعض هكذا فجأة من خانة المنعزل تارك السياسة بل والمنتقد لغيره ممن يخوضونها إلى خانة الديكتاتور الذي يريد أن يفرض على الناس فكره وقناعاته وعلى الدولة شكلها ورسمها وتوجاتها.. ليس موقفا شريفا على الإطلاق.

وهذا الكلام ينطبق أيضا على طوائف من العلمانيين والليبراليين والأقباط الذين ما عرفناهم إلا خداما للسلطة المستبدة، ثم لا همَّ لهم الآن إلا فرض توجهاتهم ورؤاهم، ونشر تحذيراتهم من الآخرين.. ليس موقفا شريفا على الإطلاق.

(4)

درس أخير، وهي في غاية الأهمية، بالأمس واليوم وغدا..

لا أتذكر الآن من القائل بأن "القانون تعبير عن رغبات الأقوياء"، غير أنها مقولة صادقة تماما، في هذا العالم القوة هي الحكم، حقيقة لا ينبغي أن ننساها، لقد كان الجيش حجر زاوية في مسار الثورة، بدون انحياز الجيش (الذي هو القوة) إلى المتظاهرين ما كنا نكتب الآن هذه الكلمات، ربما تأخر نجاح الثورة بعد مقتل الآلاف أو عشرات الآلاف، وربما فشلت الثورة وتم إجهاضها على غرار ما حدث في الجزائر وفي سوريا (حماة)، وعلى غرار ما يواجه الآن البحرين وبشكل ما ليبيا واليمن.. نسأل الله النصر لكل هذه الثورات على طغاتها.

والجيش هو الذي يحكم البلاد الآن، يحكمها بمجرد القوة التي يملكها، ربما نستطيع أن نقول بعبارة واضحة أن الجيش هو الذي قطف ثمار هذه الثورة، وإذا أردنا مزيدا من الصراحة نستطيع أن نقول إن الجيش لو أراد أن يقطف الثمرة كاملة ويدخل بالبلاد إلى حقبة عسكرية فلربما يستطيع أن يفعل.. ذلك أنه –وببساطة- اللاعب القوي على الساحة.

والوضع الآن في حالة مقلقة حقا، لأن "صاحب القوة" هذا يصرف البلاد ويحكمها دون شفافية، ونحن في الحقيقة "مضطرون" إلى حد كبير إلى "إحسان الظن".. وهذا –بصراحة ووضوح- غير صحيح.

لكن دعونا نزيدكم من الصراحة بيتا، إن الجيش ولو نفذ كل تعهداته وجرت انتخابات نزيهة أفرزت حاكما مدنيا، فإننا سنظل على وجل أيضا من التحول إلى الحالة التركية القديمة، حيث لا تستطيع الانتخابات إفراز من لا يرضى عنه الجيش، وإن فَعَلت فإن الجيش يمكنه الانقلاب على النتائج وإعادة الوضع إلى الخانة صفر.

لا أريد إغراق أحد في التشاؤم، فإن ما فعلته الثورة المصرية قادر على زرع بحور الأمل في نفوسنا.. إنما المقصد أن أوضح أن القوة هي الحكم، وأنه لابد من أن تكون القوة في خدمة القانون وفي خدمة الحرية لكي تصل البلاد إلى الأمان المنشود، حينها فقط يستطيع الحاكم أن يكون تعبيرا أصيلا عن الشعب.

ولهذا ينبغي على أصحاب الحق امتلاك وسائل القوة، والقوة الشعبية من بينها لا ريب، وهي –بالمناسبة- قوة لا تتأتى إلا في مناخ من الحرية..

إن أمامنا طريقا طويلا حقا، لا ينبغي أن نغفل عن هذا..

إن الحياة كلها جهاد، قال تعالى (لقد خلقنا الإنسان في كبد)، وكما قال الإمام أحمد: لا يجد العبد طعم الراجة إلا عند أول قدم يضعها في الجنة.

الخميس، فبراير 17، 2011

لماذا يجب أن تشارك في جمعة الانتصار والاستمرار؟

لماذا يجب أن تشارك في جمعة الانتصار والاستمرار؟

كانت المرحلة الماضية واضحة، المعسكرات واضحة، والفاعلون معروفون، ويمكن ببساطة متابعة مسار الأحداث وتوجهات الأطراف المختلفة ونواياها من خلال التصريحات. إنما المثير للقلق في هذه اللحظة أن كل الأحداث تجري في الدهاليز والكواليس والأروقة الغامضة، لا تصريحات، لا مؤتمرات صحفية، لا قدرة على الأسئلة والاستفسار.. فقط بيانات عسكرية تُلقَى من الحين إلى الآخر تثير بعض اطمئنان وبعض أسئلة، ثم لا نجد شيئا.

في عالم السياسة لا مجال للنوايا الحسنة والوعود الخالية من ضمانات، وبديهي أن الذين فرطوا في أرواحهم وأعضائهم لم يفعلوا هذا من أجل تغيير جزئي أو شكلي، وما لم تكن الأمور في العلن أمام الناس فيصعب على أحد إقناعهم بأنها تجري على ما يُرام.

إن من حقائق الحياة أن الذين يديرون البلاد الآن بشر، وهم معرضون للخطأ، لا سيما وهم عسكريون يعترفون –بشجاعة يُحَيَّوْن عليها- بأنهم لا يستطيعون إدارة البلاد.. وحيث كان هذا معروفا، فإن إدارتهم لهذه المرحلة الانتقالية الخطيرة دون رقابة شعبية غير مطمئن.

من حقائق الحياة أيضا أن الخارج لا يكتفي بالمشاهدة، ولا شك في أنه داخل على الخط بما يخدم مصالحه، لكن.. إلى أي مدى هو داخل على الخط؟ وإلى أين يريدالاحتفاظ بمصالحه التي كان عليها في النظام السابق؟ .. لا أحد يدري!

أين أركان النظام السابق؟ بل أين رئيسه المخلوع نفسه؟

لا حديث عن عمر سليمان أو صفوت الشريف أو زكريا عزمي، الثلاثي القوي في بنية النظام السابق.. لا نعرف بالتحديد أين حسني مبارك ولا ماذا يفعل في شرم الشيخ.

لماذا هذا الصمت المطبق تجاه إلغاء قانون الطواريء، والإفراج عن المعتقلين السياسيين، وتغيير الحكومة التي هي من أولاد النظام السابق.. صمت مطبق أمام هذه المطالب يثير القلق.

الحديث الدائر والاعتذارات التي يُبديها أذيال النظام السابق وكأنهم أخطأوا في تلويث ثيابنا ببعض الآيس كريم أو عصير المانجو، إنها خطايا بحجم الدماء التي سالت بتحريضهم والأرواح التي ذهبت، وآلاف من الآمال والأحلام تم اغتيالها عن عمد وبسبق الإصرار والترصد وبكل الإخلاص في نفاق النظام السابق.. ثم يرفعون شعار "ليس وقت تصفية الحسابات".. بالعكس، إن مجرد وجود هؤلاء في العهد الجديد يمثل خطرا عليه.

لا يخالطنا شك في أن الجيش اتخذ قرارا شريفا وشجاعا ووطنيا سيكتبه له التاريخ، حين رفض قرارات الرئاسة بضرب المتظاهرين، وأنه لولا هذا القرار لسالت الدماء بغزارة ولكان نجاح الثورة محل شك.. ونحن نعرف أن جيوشا أخرى انحازت للنظم فضاعت بها البلاد، لا ننسى مثال سوريا ولا الجزائر .. ويبدو أن الأمر يتكرر اليوم في البحرين وعلى وشك التكرر في ليبيا.. لا يمكن أن ننسى هذا الموقف العظيم والفارق والتاريخي للجيش المصري.

لكن بالمقابل: فإنه لا يخالطنا شك أيضا في أن أذيال النظام القديم لا تقف متفرجة، ونحن لا ندري الآن ماذا يفعلون، والحق أنه إن صح وجود مبارك داخل مصر فإن هذا مؤشر في غاية الخطر على الثورة، لأن مجرد وجوده يشير إلى أنه يشعر بالاطمئنان ويأمن من الملاحقة، وهذا في حد ذاته يشير إلى أن نظامه ما زال يعمل، أو ما زال لديه الأمل في الاستمرار.. لا سيما حين تأتي الأخبار بأن الخارج تلقى طلبات لتجميد أموال مسؤولين مصريين ليس من بينهم مبارك، ماذا يعني هذا؟

على آية حال.. لا أحب أن أبدو تشاؤميا كما أكره أن أكون حالما أو واهما، لكن التشاؤم أفضل حتى يثبت أننا كنا متشائمين، فهو خير من أن نكتشف أننا خُدِعْنا.

من حقائق الحياة أن القوة هي الحكم، مهما كانت هذه الحقيقة لا تعجب الحقوقيين والقانونيين والمثاليين، ولئن لم تكن القوة في خدمة القانون فلا قانون يمكنه أن يحكم بين الناس.. وهذه الثورة خير دليل على هذا، فلم تتحقق ذرة من إصلاحات إلا تحت ضغط القوة الشعبية.. حتى "سيد قراره" لم يكن يريد التفريط في عضو واحد قبل أيام، فلما رأى القوة الشعبية ظل يتقهقر حتى انتهى تماما، والحمد لله رب العالمين.

لهذا.. نحن نثق في القوة الشعبية، ثم في قوة الجيش، لكن باقي اللاعبين لا نثق فيهم، لا نثق بالخارج ولا بأذيال النظام وأجهزته (تذكروا أننا لا نعرف شيئا عن المخابرات والحرس الجمهوري وأمن الدولة.. أين يقف هؤلاء الآن، وماذا يفعلون؟).. ولا نريد –بل ولا ينبغي- أن تغيب القوة الشعبية عن الساحة في هذه اللحظة بالذات.

إن المشاركة في تظاهرة الجمعة المليونية الاحتفالية ضرورة حقيقية، وهي الآن أشد ضرورة، لأنها الاختبار الأول الذي سيثبت ما إذا كانت الجماهير يمكنها أن تنخدع باختفاء صورة حسني مبارك مع بقاء نظامه أم أنها تعي أنها أطلقت ثورة لتبني نظاما جديدا نظيفا؟

وعليه فينبغي أن تنزل غدا إلى ميدان التحرير في الجمعة المليونية:

إذا كنت تثق في الجيش فأنت تساعده ضد اللاعبين الآخرين على الساحة، فالجيش يحتاج في هذه المرحلة إلى القوة الشعبية التي تسانده.

إذا كنت لا تثق في الجيش فهذا أدعى لوجود القوة الشعبية، وهي الضمانة الوحيدة لإنجاح هذه الثورة والمانع لأن يفكر أحد في الالتفاف عليها وإجهاضها.

إذا كنت واثقا في انهيار النظام البائد فاخرج لكي تستكمل طريقك نحو بناء المشهد الجميل الذي نتمناه جميعا.

إذا لم تكن واثقا من انهيار النظام البائد فعليك أن تخرج، وتواصل الخروج، حتى تثق في انهياره.

إذا كنت ترى أن الثورة نجحت فاخرج لكي تحتفل بالنصر.

إذا لم تكن ترى أن الثورة نجحت فاخرج، وواصل الخروج، حتى يتبين لك أنها نجحت.

-------------

* لا تعطيل لحال البلد لأن يوم الجمعة إجازة رسمية.. فلا خوف من مسيرة الجمعة.

* ينبغي الحذر من دخول عناصر تابعة للنظام السابق (أمن دولة – بلطجية – مخابرات - ...) وصناعة اضطرابات تؤثر في المسيرة أو حتى تؤدي لوقوع ضحايا، في محاولة لجر الجيش نحو ضرب التظاهرات، أو لأهداف أبعد وأخطر.. والمشكلة الآن أنه لا حواجز ولا لجان حراسة مما سَيُصَعِّب مهمة التأمين. نسأل الله أن يضل الظالمين وأن يهدي الثائرين إلى معالجة لهذه المشكلة.

* إذا لم تخرج فلا عذر لك إن لم تواصل الدعاء.. فالدعاء سلاح المؤمن، وكل ما في هذه الدنيا يسير بقدر الله وتدبير الله ورعاية الله..

* اللهم لا ملجأ إلا إليك.. يارب.. يارب.. يارب..

الأربعاء، فبراير 09، 2011

لماذا يجب إسقاط عمر سليمان؟

* طبعا هذا المقال لمن لم يتأثر بصورة جهاز المخابرات المصري كما هو في روايات "رجل المستحيل"!

* كُتب هذا المقال قبل رؤية سيل من المقالات عن عمر سليمان، ولم أستطع رفعه لظروف الانترنت السيئة لدي.

لماذا يجب إسقاط عمر سليمان..

1. منذ اللحظة الأولى التي تم تعيينه فيها نائبا كان التوقع المنطقي أنه سيفرض نفسه كشخصية مستقلة ستقوم بتنفيذ الإصلاحات، ذلك أنه ليس من الطبيعي أن يواجه الرجل ثورة الناس وكأنه تابع لحسني مبارك، لكن الرجل ضرب التوقعات وخرجت كل أحاديثه لتثبت أنه –في أحسن الأحوال- لم يستوعب أنه نائب رئيس الجمهورية، إذ أنه يؤدي –بامتياز- دور الناطق باسم رئيس الجمهورية.

لا يهمني الآن مناقشة السبب، البعض هل لأنه شخصية ضعيفة لا يملك الخروج من ثوب مبارك، أو ربما هو شخصية قوية لكنه لم يسيطر بعد على أجنحة القوة التابعة لرئيس الجمهورية كالحرس الجمهوري مثلا.. لا يهمني الآن أيهما أدق، ما يهمني أنه في كلا الحالين مجرد صورة أخرى من حسني مبارك.

2. من كان متابعا للشأن الفلسطيني لن يتردد في تكوين صورة عن عمر سليمان، فكل الموقف المصري المخزي والفاضح والمشين كان يتولى تنفيذه عمر سليمان، الحصار والقتل وتدمير الأنفاق وتعذيب المقاومين في السجون المصرية والتآمر على المقاومة لصالح الإسرائيليين وقائمة كارثية لا مجال لسردها الآن تثبت أن عمر سليمان ثمرة مخلصة للنظام العميل.. أما من لم يكن متابعا للشأن الفلسطيني، أو كانت له مواقف ضد حركات المقاومة، فعليه الآن أن ينظر إلى ويكيليكس أو إلى النسخ الأجنبية من الصحف الإسرائيلية على الانترنت أو على المتابعات التي ترصدها بعض القنوات للصحافة الإسرائيلية، ومن بعدها أضمن له أنه سيُكوِّن الصورة الواضحة عن عمر سليمان.

3. من لم يتأثر بروايات "رجل المستحيل" يعرف الحقيقة العلمية التي تقول بأن أجهزة المخابرات هي المؤسسات الأكثر قذارة في عالم البشر، حيث لا يُعرف في أروقتها كلمات مثل الشرف والأخلاق وما إلى ذلك.. المصريون يتذكرون جيدا رجلا مثل صلاح نصر الذي كان مديرا لمخابرات عبد الناصر، يعرفون كذلك صفوت الشريف (ومن ذا الذي ينسى صفوت؟!!!) الذي كان "قوادا" واعترف بذلك في المحاكمات الشهيرة، اعتراف من يؤدي واجبه لا من يطلب المغفرة أو الصفح، واستمر نصف قرن بعد هذه الاعترافات يمارس دوره المعروف في خدمة حسني مبارك.

وبناء على هذا، فتصديق رجال المخابرات هو أسوأ من تصديق العسكريين الذين يحتفظون ببقايا من شرف الكلمة في العموم، ولئن كان مبارك –وهو عسكري- لا يوثق بكلامه ولا بوعوده، فكيف برئيس مخابراته؟!!

4. قد كان يمكن للبلبلة والحيرة والانقسام أن تسود بين المتظاهرين لو أن عمر سليمان لبس ثوب أحمد شفيق واتخذ لهجة متسامحة اعتذارية تعد بإصلاح ما فات وتطلب –بلسان المودة- الانصراف من الميدان، غير أن عمر سليمان لم يُرِدْ –أو ربما لم يستطع- أن يفعل هذا، فاحتفظ بثوبه الأمني ولهجته الآمرة وعينيه الجامدتين المُهدِّدَتَيْن.. ثم أخطا الخطأ الكبير حين صرح للأجانب بأن الشعب المصري غير مؤهل للديمقراطية. إن هذا الخطأ وحده كفيل بنسف كل الوعود التي يتكلم بها، فكأنما يصدق عليه قول القائل:

يعطيك من طرف اللسان حلاوة ... ويروغ منك كما يروغ الثعلب

ولقد قرأت في تقرير منذ قديم أنه يُفضِّل أن يوصف بالثعلب!! فهاهي الصورة تكتمل!

5. إن عمر سليمان يُبْدي نفس القدر من العناد الذي نراه في حسني مبارك، هو يعلم جيدا أن المطلب الأساسي للمتظاهرين هو رحيل مبارك ثم يُصِرُّ على أن هذا لن يحدث، وأنه لا رحيل فوري للرئيس، وأنه لابد من التزام الدستور القديم، وأنه لا طاقة للنظام بتحمل الاستمرار في مظاهرات التحرير.. فمن كان هذا طَبْعُه في أول عهده، فكيف يفعل إذا أمسك بأَزِّمة الأمور ومقاليد السلطة؟!! ذلك رجل لا يُؤْمَن جانبه.

***

استطاع عمر سليمان في الأيام القليلة الماضية أن يحسم الخلاف حوله وأن يجعل نفسه عدوا للمتظاهرين، ويبدو أن حسني مبارك يخالف سيرة زين العابدين بن علي، فالثاني هرب وترك نظامه يواجه المصير المحتوم، أما هو فيبدو أن عناده ساقه نحو هدم نظامه قبل أن يسقط هو..

***

الحق أني لا أريد أن أتدخل بنصائح للثورة وقد حرمتني الظروف –المكانية والأُسَرية والمرضية- شرف المشاركة فيها حتى هذه اللحظة، ولئن كنت أتمنى أن تستمر حتى أتشرف بالمشاركة فيها فإني أتمنى أن تنتصر الآن قبل اللحظة التالية.. المهم أن مقامي البعيد يُخْجِلني من التحدث بنصائح للشرفاء الثوار، أبطال اللحظة التاريخية، غير أن واجب اللحظة يقول أنه لابد من عمل شيء ما لإخراج الجيش من موقع المحايد –والمتواطيء مع النظام في الكثير من المواقف- إلى موقع الانحياز للشعب.. لن أدخل في كيف لأنها مليئة بالخلافات والتقديرات التي تؤثر فيها الظروف الميدانية.. غير أن الحقيقة المعروفة أن الجيش لا يتحمل أن يظل متوترا ومستعدا وفي حالة الطواريء فترات طويلة، وهو إن لم يُدفع إلى موقف مع، فإن قياداته –التي اتضح أنها لا تفكر في انقلاب على مبارك- ستُنهي الأمر بضرب الطرف الأضعف في المعادلة، فإن لم يكن ثمة ما يجعل الشعب في موقف الأقوى فإن الوقت يمضي في غير صالح الثورة.

الجمعة، فبراير 04، 2011

فليحذر الثوار من خرافة الدستور والقانون

هل تعلمون لماذا فشلت ثورة 1919؟

فشلت لسبب بسيط، وهو أن قيادتها آلت في النهاية إلى مجموعة من القانونيين (على رأسهم سعد زغلول)، فاستطاع الإنجليز باسم الدستور والقانون استدراج هؤلاء إلى نفق المفاوضات فانطفأت الثورة الشعبية، واستمر نفق المفاوضات التي كانت تلد المعاهدات عن اللا شيء.. استقلال اسمي لمصر وسيطرة فعلية للإنجليز.. ولم يخرج الإنجليز إلا في عام 1956.. بعد 36 سنة من الثورة المباركة التي أطفأها القانونيون الذين يحترمون الدستور والقانون.

لا أريد الآن مناقشة تفاصيل تاريخية ولا نقد شخصيات الثورة.. لكن المهم أن سعد زغلول بعدما كان زعيما شعبيا بامتياز، مات وهو لا يستطيع أن يفعل شيئا إلا التفاوض، بل لقد فشلت المفاوضات مرة فخرج قائلا "لقد خسرنا المفاوضات ولكننا كسبنا صداقة الإنجليز".. ياسر عرفات فيما بعد كان تكرارا لنموذج سعد زغلول.

لكن لماذا نجحت ثورة يوليو؟

رغم أنها مجرد انقلاب عسكري، إلا أنها استطاعت بالفعل أن تكون "ثورة" على مستوى تغيير وجه البلاد ونظمها، لسبب بسيط.. هو أنها فعلا فرضت نفسها، ولم تترك أحدا يقيدها لا بدستور ولا بقانون.. ويمكن الرجوع إلى تفاصيل هذا في كتاب المؤرخ المستشار طارق البشري (الديمقراطية ونظام يوليو).. لقد قلبت الثورة ما كان موجودا من قانون ودستور، وصنعت قانونها لنفسها.. وفي تحليله البديع يقول طارق البشري بأنه ما كان يمكن لها أن تنجح لو لم تفعل ذلك.. لأن النظام القديم كان سيمتصها في دهاليزه وأروقته، ويسكبها في قالبه ثم يحكم عليها بالنجاح والفشل، وذلك لأن الانقلاب العسكري –ببساطة- هو في حد ذاته غير قانوني.

نحن الآن أمام لحظة مصرية فارقة..

تشكلت ما سمي بـ "لجنة الحكماء"، وفيها بعض الأسماء، لا أشك في وطنيتهم لكن لدي بعض التحفظات عليهم، وليس هذا مجال مناقشة هذا.. إنما الخطورة أن هذه اللجنة هي أولا لا تمثل المتظاهرين ولا قيد شعرة.. ربما واحد منها فقط هو الذي لم يكن يحتقر شباب الانترنت، وعلى هذا فهي لا تمثل إلا نفسها.. وعن نفسي لا أعلم من الذي جمعهم واختارهم وشكلهم..

لمرة أخرى.. بعيدا عن أفرادها، أنا أحذر من أن تؤول هذه الثورة إلى هذه اللجنة من الكتاب والمفكرين كما آلت ثورة 19 إلى القانونيين.. فيحدث لها نفس الخدعة التي تلقاها سعد زغلول وفريقه..

بكل الصدق لا مجال للتراجع إلا برحيل حسني مب مبارك على الأقل..

وأخيرا..

متى كانت الثورات تلتزم بالدساتير والقوانين؟ الثورات تثور -ضمن ما تثور- على الأنظمة الفاسدة التي رسخت وجودها بقوانين وأنظمة ودساتير ومواثيق ؟؟ إن البعض يريدها ثورة "إتيكيت"، ثورة "بالشوكة والسكين".. حقا إن مشاهدة المنافقين وقنوات الأنظمة الفاسدة تصيب بالغباء والبلاهة