السبت، أبريل 30، 2011

كاميليا شحاتة.. امرأة هزت عرش البابا!!

ليس من العجيب أن يكون أكثر المتضررين من سقوط نظام مبارك هم الذين كانوا مستفيدين من انهيار دولة القانون لحساب شبكة العلاقات والمصالح والتوازنات.. إلا أن المؤسف أن تضم هذه الفئة بطريرك الأقباط في مصر الأنبا شنودة.

من المؤسف كذلك أن "دولة الإعلام" التي نشأت في ظل نظام مبارك وبرعايته ما تزال قائمة بل وفاعلة وتمارس نفس التضليل والتحريض والافتراء، وهو دورٌ متجرد من المنطق فوق تجرده من الأخلاق، حتى إن المرء ليستدعي قول الشاعر:

وليس يَصِحُّ في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل

ثمة سيدة اسمها "كاميليا شحاتة" تحتجزها الكنيسة بغير وجه حق، ولا يُدرى عنها شيء، وثمة دلائل لا تقبل الشك على أنها أسلمت، والمطلوب من الأغلبية المسلمة أن تخرج هذه السيدة لتعلن في أجواء خالية من الضغوط حقيقة دينها فيرتاح الجميع.. إلا أن الكنيسة تصر على موقفها كما تصر على صمتها.

هذا الموقف مستفز، وهو –للطرافة- مستفز للأغلبية الكاسحة، وفي دول القانون لا يمكن لأزمة مثل هذه أن تحدث لأن القانون فوق الجميع، وأما في دول اللاقانون فإن الأقليات لا تجرؤ على استفزاز الأغلبية بهذا الشكل لأن الخلافات هناك تُحل بالمجازر والدماء.. يجب أن نسجل أن المسلمين في مصر يقدمون نموذجا فائقا لضبط النفس والحرص على الوطن.

لست أناقش هنا دور النظام البائد وأجهزته الأمنية الحقيرة في هذه الأزمة، فنحن –بإذن الله- سنرى عذابهم يوم القيامة، إنما نناقش دور الإعلام الذي يتجاوز كل هذه الأزمة ليركز على مشاهد في المظاهرات المطالبة بالإفراج عن كاميليا شحاتة، فيلتقط تصريحا هنا ولقطة هناك ولفتة هنالك، ثم يُسَوِّق المشهد على أن المسلمين (يسميهم السلفيين لمزيد من المراوغات والتشوية) يهددون ويتوعدون ويحذرون وينذرون وهم على وشك أن يفجروا فتنة طائفية وحربا أهلية!!

لا أحد يريد أن يسأل الأسئلة الحقيقية التي تحل الأزمة: ما سلطة الكنيسة في احتجاز الناس؟ لماذا يصر البطريرك على استمرار الأزمة وشحن المزيد من الغضب والاحتقانات؟

إذا كان "السلفيون" يُهاجَمون لأن الموضوع تافه ولا ينبغي إشعال الوطن من أجل امرأة واحدة، فلماذا لا يوجه هذا السؤال إلى الكنيسة؟ خصوصا وأن البطريرك يوصف بالحكمة والوطنية والعقل والحلم في مقابل السلفيين الذين يوصفون بالتوحش والشراسة والانغلاق وهم لا يتورعون عن قطع الآذان وشرب الدماء في روايات أخرى؟

فليتحل البابا بشيء من "الحكمة والحلم والعقل والوطنية" وليفوت على هؤلاء "المتوحشين" إشعال الوطن من أجل امرأة واحدة!!

السبت، أبريل 23، 2011

زمانك انقضى.. يا مصطفى!!

ربما بدا "مصطفى الفقي" رجلا مناسبا لمنصب الأمين العام لجامعة الدول العربية، شخصية بلا موقف، بلا تاريخ نضالي، متقلب بين الآراء، يحب السير في المنطقة الوسط، وكل هذا جيد فيما يخص هذا المنصب، فإنما هو منصب لا شرف فيه.

ولئن كان الناس استبشروا بعمرو موسى من قبل وحسبوا أن شخصيته -التي بدت ذات موقف يوم كان وزيرا للخارجية المصرية- ربما ساهمت في إصلاح الحال المائل بعد أمين عام بلا شخصية ولا موقف كعصمت عبد المجيد.. لئن كان الناس استبشروا فقد أثبتت لهم الأيام أن عمرو موسى لم يؤثر في المنصب بقدر ما أَثَّر فيه المنصب، أو لعله المنصب هو الذي كشف لنا شخصية موسى الحقيقية.

على كل حال، يمكن للأخ الفقي أن يكون مناسبا لهذا المنصب المثير للغثيان، غير أن الاعتراض عليه إنما ينطلق من سببين:

الأول: أن عهد مبارك قد انتهى، وهو رجل ربما كان إفرازا طبيعيا ومناسبا لعصر مبارك، ولربما لو كان مبارك قد رشحه للمنصب لما تعجبنا، أما مصر ما بعد الثورة فأمر آخر، فلا هو منها ولا هي منه، لا يناسب مصر التي ثارت أن ترشح سكرتير مبارك للمعلومات، ثم عضو البرلمان بالتزوير، ثم رئيس لجنة برلمانية للشؤون الخارجية (المباركية)، وقبل كل هذا وبعده مُنَظِّر لسياسة الحزب الوطني المنتهية ولايته وصلاحيته كذلك.. وصاحب المواقف المشينة من قضايا العرب (لا سيما ونحن لا ننسى له –مثلا- موقفه من الجدار الفولاذي!).

والثاني: أن العالم العربي قبل شهور غير العالم العربي بعد شهور، فلئن كان العرب القدامى يصلح لهم أمثال عصمت وعمرو والفقي، فإن العرب الجدد بعد نجاح ثوراتهم لا تناسبهم أمثال هذه الشخصيات.. إن الأنظمة الجديدة التي تفرزها ثورات الشعوب الحرة لا يناسبها العمل مع رجال الزمن القديم، ولهذا يبدو أن مثل هذا المنصب سيكون كبيرا ومتسعا على أمثال هذه الأنماط.

لا مانع أن أضيف سببا ثالثا ومعه اقتراح، ذلك أني فُجِعت حين شاهدت الفقي مع إيناس الدغيدي (مخرجة الأفلام المعروفة) في حوار يبدو فيه الرجل خبيرا بالرقص الشرقي وشديد الحماسة له حتى كاد أن يقول إنه واجب إسلامي!! ذلك سبب يدفعني لرفضه مرشحا، كما يدفعني كذلك لدعم اقتراح فيساوي (نسبة إلى الفيس بوك) ظريف بأنه يصلح أمينا لـ "شارع جامعة الدول" السيء السمعة في القاهرة.. مكانه هناك مناسب، وهذا الحوار خير دليل!!

السبت، أبريل 16، 2011

كيف نبني نظاما جديدا؟

صورة من محاضرة سابقة


أدعوكم لحضور المحاضرة التي سألقيها في "جمعية مصر للثقافة والحوار" يوم الأربعاء القادم 20/4/2011 -الساعة السادسة والنصف مساءًا- وهي بعنوان:

"كيف نبني نظاما جديدا_ رؤية إسلامية حضارية"

تناقش كيف نستفيد من النموذج النبوي والتاريخ الحضاري الإسلامي في صناعة النظام الجديد الذي نرجوه لبلادنا.

يشرفني حضوركم، وأسألكم الدعاء، سواء من حضر أو من حبسه العذر :)

-------

جمعية مصر للثقافة والحوار: ٢٦ عمارات رابعة الاستثماري, شارع النزهة, مدينة نصر - القاهرة.

الأربعاء، أبريل 13، 2011

أنف كليوباترا وكف فادية!!

استطاع جمال كليوباترا، ملكة مصر البطلمية، أن يسحر القائد الروماني مارك أنطونيو، وكان هذا من أسباب دخوله في حرب أكتيوم البحرية الفارقة في التاريخ، حيث هُزِم أنطونيو وتحطم أسطوله، وولدت الامبراطورية الرومانية. كان التاريخ في روما يسير بعيدا عن مصر في هذه الأثناء، إلا أن دخول كليوباترا على خط الصراع، وهو الحدث الصغير في ذاته، تفاعل حتى صنع حدثا كبيرا هائلا.

هذا ما يسميه المؤرخ البريطاني إدوارد كار “أنف كليوباترا”، على اعتبار أن ثمة شيء صغير يمكن أن يقع في لحظة ما فتتفاعل الأحداث في اتجاه غير متوقع، وضرب على هذا عددا من الأمثلة الطريفة، قال: “حينما امتنع القائد العسكري Bajazet بسبب إصابته بالنقرس عن السير إلى وسط أوروبا فإن جيبون لاحظ أن مزاجاً حاداً يصيب شخصاً ما قد يمنع أو يؤخر بؤس أمم عدة، وحين توفي الإسكندر اليوناني في خريف 1920 نتيجة عضة من قرد مدلل فإن تلك الحادثة افتتحت سلسلة من الأحداث (دخول اليونان في حرب مع تركيا) دفعت السير ونستون تشرشل إلى القول: إن ربع مليون إنسان ماتوا نتيجة عضة القرد تلك! أو لنأخذ تعليق الزعيم الروسي تروتسكي على الحمى التي أصابته حين كان يصطاد البط البري، وقد أصابته في لحظة حاسمة من نزاعه مع زينوفييف وكامنييف وستالين في خريف 1923 فقد علق قائلاً: بوسع المرء أن يتنبأ بثورة أو بحرب، ولكن يستحيل عليه أن يتنبأ بعواقب رحلة خريفية لصيد البط البري”.

يمكننا أن ننسج الكثير على هذا المنوال، والتاريخ مليئ بأمثالها، فكم من حوادث صغيرة في لحظات فارقة كان لها أثر كبير.. إلا أن هذا السلوك للتاريخ الإنساني يدفع بالمؤرخ الغربي إلى الظن باستحالة التنبؤ بالتاريخ، لأن حوادث غير معروفة قد تأتي فجأة فتقلب كل التوقعات.

إنها لحظة بائسة يعيشها الفكر الغربي عامة، إذ يحاول الغربيون “السيطرة” على الإنسان والتاريخ والنفس، كما استطاعوا “السيطرة على الطبيعة والعلوم”، والمشكلة الأساسية وراء كل هذا وذاك هو الاعتقاد بأن الإنسان ليس إلا جزءًا من الطبيعة، وهو – لهذا – محكوم بقوانين علميَّة صارمة لا بد من اكتشافها وتسخيرها كما تم في حالة الطبيعة, المواد الخام.

وهذه المشكلة المزمنة التي تواجه كل من لا يؤمن بالإله ويعتقد اعتقادًا دروينيًّا في أصل الإنسان، لا نراها تواجه المؤمنين بالإله في عمومهم، فهم بالتالي يملكون إيمانًا بأنَّ الإنسان فوق الطبيعة وغير خاضع لقوانين المادة.

مشكلة “أنف كليوباترا” تُعيق الفكر الغربي عن التوصّل إلى طريقة تتيح “السيطرة على الإنسان” و”السيطرة على التاريخ”.

بالتأمل في هذه المشكلة لاحظت مفارقة عجيبة، إن “أنف كليوباترا” في الفكر الغربي هي “قدرة الله” في الفكر الإسلامي، أو هي “الأمل في الله”.. إن الشيء الذي يمثل مشكلة عند الغربيين هو ذاته الذي يمثل الأمل عندنا نحن الشرقيين؛ ذلك أن الحوادث والضوائق مهما بلغت صعوبتها وضيقها لا ينبغي أن تدفع بالمؤمنين إلى اليأس لسبب في غاية البساطة، أن الله يرى ويسمع ويقدر.

يا له من تفسير عجيب لقول الله تعالى “إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون”.

قبل شهور فقط، من كان يظن أن صفعة من يد جندية (اسمها فادية حمدي) في مدينة تونسية هامشية على وجه عاطل يمكنها أن تحدث موجة ثورية هادرة تؤثر في العالم كله، فتقلب أوضاعا مستقرة منذ أكثر من نصف قرن، وتزلزل عروشا ظنها الناس لا تتزلزل.

إن الله يرى ويسمع ويقدر.. و”إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون”.

ولَرُبَّ نازلة يضيق بها الفتى ذرعا … وعند الله منها المخرج

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت … وكنت أظنها لا تفرج

نشر في: يقظة فكر

الأحد، أبريل 10، 2011

فقه اختيار الرجال للأعمال (2)

اقرأ أولا: فقه اختيار الرجال للأعمال (1).

لما انتقل النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى الرفيق الأعلى كان منهجه في اختيار الرجال على أساس الكفاءة قد استقر كنظام معمول به[1]، ولهذا لم تكن إلا أياما معدودات حتى تجاوزت الدولة الإسلامية -بعد وفاة النبي- فتنة الردة، وقهرت المرتدين، وأقرت الأمن في الجزيرة العربية، بل انطلقت إلى الفتوح الإسلامية خارج الجزيرة، تلك الفتوح التي يصفها المؤرخ الأمريكي ول ديورانت بأنها: "أعظم الأعمال إثارة للدهشة في التاريخ الحربي كله"[2].

لقد قام هذا المجد على أيدي رجال أكفاء بلا ريب، كانوا على مستوى المهمة المطلوبة.

حتى إن الفتوح في جبهة الروم لما واجهت بعض الصعوبات قال أبو بكر: "والله لأُنْسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد"[3]، وقد كان، فاستخلف خالد على فتوحات العراق رجلا على مستوى المهمة وهو المثنى بن حارثة الشيباني فأكمل العمل على خير وجه، وانطلق هو يحقق الانتصارات في الشام، بل لقد حقق خالد من الانتصارات ما جعل عمر (رضي الله عنه) يخشي من أن يُفتن الناس بخالد كقائد شجاع، فاقترح على أبي بكر عزله إلا أن أبا بكر لم يوافق.

وحين تولى عمر بن الخطاب ورأى أن مصلحة المسلمين في عزل خالد عَزَلَه، إلا أنه كان مستعدًا لهذا القرار برجل آخر على مستوى المهمة، ذلك هو أبو عبيدة بن الجراح، واستمرت الفتوحات في ثلاث جبهات: فارس، والشام، ومصر وما بعدها من الشمال الإفريقي.. ذلك وحده دليل على أن الدولة كانت غنية بالرجال الأكفاء، وكانت تضع كل كفاءة في مكانها.

في ذلك العهد المجيد، كانت القاعدة المستقرة هي قاعدة الكفاءة على حساب الثقة بل وعلى حساب التقوى أيضا!!

فهذا عمر بن الخطاب يقول كلمة عظيمة في شأن المجاملات في المناصب والمسؤوليات: "من وَلِي من أمر المسلمين شيئاً فَوَلَّى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين"[4]. بل إنه يجعل الخيانة تنسحب أيضا لتشمل تولية الكفء في حالة وجود من هو أكفأ منه، قال (رضي الله عنه): "من قلد رجلاً على عصابة وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله، وخان رسوله، وخان المؤمنين"[5].

وبشكل عملي: فقد تعرض الخليفة إلى صنفين من البشر وهما الكفء القليل الدين، أو التقي غير الكفء، وكان هذا الوضع يحزنه ولا يرضيه، ويتمنى أن لو تجتمع الكفاءة والتقوى، فمما حُفِظ عنه قوله: "اللهم إني أشكو إليك جَلَدَ الفاجر، وعجز الثقة"[6].

إلا أنه كان يقدم ذا الكفاءة ممن هو أهل للمهمة، وهكذا شرحبيلَ بن حسنة وعين بدله معاوية. فقال له شرحبيل: أعن سخطة عزلتني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا إنك لكما أحب ولكني أريد رجلاً أقوى من رجل. قال: نعم، فاعزرني في الناس لا تدركني هجنة، فقام في الناس، فقال: أيّها الناس، إني والله ما عزلت شرحبيل عن سخطة، ولكني أردت رجلا أقوى من رجل"[7].

ولما أتعبه أهل الكوفة الذين كلما أرسل لهم واليا كرهوه قال لأهل مشورته: "ما تقولون في تولية ضعيف مسلم أو قوي فاجر؟ فقال له المغيرة بن شعبة: المسلم الضعيف إسلامه له وضعفه عليك وعلى رعيتك وأما القوي الفاجر ففجوره عليه وقوته لك ولرعيتك"[8].

***

لقد صار العهد بالأعمال لذوي الكفاءة ثقافة مستقرة في ذلك العصر، فلهذا لا تتوقف عند اختيار الولاة والقضاة وقادة الجيش، بل في الأعمال الصغرى والمحدودة أيضا.. واسمع هذه القصة:

لما خرج عمر إلى مكة استقبله واليه عليها نافع بن علقمة خارج مكة، فسأله عمر: من استخلفت عليها؟ قال: استخلفت عليها عبد الرحمن بن أبزى. فقال عمر: عمدت إلى رجل من الموالي فاستخلفته على من بها من قريش وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم، وجدته أقرأهم لكتاب الله، ومكة أرض تُحْتَضَر (أي يأتيها المسلمون من كل مكان)، فأحببت أن يُسْمَع كتاب الله من رجل حسن القراءة فقال عمر: نِعْم ما رأيت، إن الله يرفع بالقرآن أقواما، ويضع بالقرآن أقواما، وإن عبد الرحمن بن أبزى ممن رفعه الله بالقرآن"[9].

لقد كان عمر يفقه أن إمامة المولى للسادة من قريش لا يناسب هذه البيئة التي تولي أمر الأحساب والأنساب اهتماما بالغا، إلا أن تقدير نافع بن علقمة كان في أن كثرة الوافدين إلى مكة –والناس حديثوا عهد وعلم بالإسلام والقرآن- يجعل الأولى في أن يستمعوا إلى كتاب الله ممن يجيد قراءته، ثم هي فترة ولاية بسيطة ومؤقتة في ظل غياب الوالي الذي خرج للقاء عمر.

لقد نظر نافع بن علقمة أيضا إلى الكفاءة أكثر مما نظر إلى التقدم في التقوى والإيمان أو السيادة والمكانة، ولهذا أقره عمر.

ويعلق الطبري على هذا الأثر فيقول: "وفيه (من الفوائد والفقه) أيضا أن القوم إذا حضرتهم الصلاة فأحقهم بالإمامة أقرأهم لكتاب الله وأعلمهم به ، وإن كان دونهم في النسب والفضل".

***

على هذا المنوال نسج العلماء والفقهاء، فجاءت مناهجهم وفتاواهم بما يُرسخ قاعدة: أهل الكفاءة قبل أهل الثقة.

منهج المحدثين في نقل الدين:

إذا تتبعنا منهج المحدثين في تقبل الروايات، سنجدهم على مذهب من يقدم أهل الكفاءة على أهل الثقة أو حتى أهل التقوى.

فهذا الإمام مالك يقول: "أدركت مشايخ بالمدينة أبناء سبعين وثمانين لا يؤخذ عنهم ويُقَدَّم بن شهاب وهو دونهم في السن"[10]. وابن شهاب هو الإمام المحدث المعروف محمد بن شهاب الزهري.

وعن بن أبى الزناد عن أبيه قال أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون لا يؤخذ عنهم العلم كان يقال ليس هم من أهله"[11].

وعلى الجانب الآخر، روى أئمة المحدثين عن أصحاب البدع، وعندهم في هذا الأمر خلاف مشهور يؤكد لنا حقيقة النظر إلى الأهلية أو الكفاءة عند المحدثين؛ فالقليل منهم رفض أن يأخذ الرواية عن أصحاب البدع، والجمهور اختلفوا فمنهم من قبل الرواية: منهم من فَرَّق بين الداعية لبدعته والذي لا يدعو لها. فغالبهم يقبلها من المبتدع الذي لا يدعو إلى بدعته، والآخرون يقبلون منه بإطلاق.

وفي أمر التفريق بين الداعي لبدعته وغير الداعي يقول ابن الصلاح "وهذا أعدل الأقوال. والقول بالمنع مطلقاً بعيد، مباعد للشائع عن أئمة الحديث، فإن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة غير الدعاة، ففي الصحيحين من حديثهم في الشواهد والأصول كثير". ولكن ابن كثير يعلق على قول ابن الصلاح هذا فيذكر أن الشافعي قال: "أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة، لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم. فلم يفرق الشافعي في هذا النص بين الداعية وغيره، ثم ما الفرق في المعنى بينهما؟ وهذا البخاري قد خرج لعمران بن حطان الخارجي مادح عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي، وهذا من أكبر الدعاة إلى البدعة!"[12].

وإذن فالشافعي رفض الرواية عن الخطابية من الرافضة ليس لأنهم مبتدعون، بل لأن بدعتهم تجعلهم يستحلون الكذب وهذا "أفقدهم الأهلية" للرواية بهذا السبب تحديدا.

وفي تعليق الشيخ أحمد شاكر على رواية المبتدع وما قاله ابن الصلاح وابن كثير قال: "وهذه الأقوال كلها نظرية. والعبرة في الرواية بصدق الراوي وأمانته والثقة بدينه وخلقه. والمتتبع لأحوال الرواة يرى كثيرا من أهل البدع موضعا للثقة والاطئمنان، وإن رووا ما يوافق رأيهم"[13].

ويمكن – بشكل عملي – أن نعطي مثالين:

نرى الإمام الذهبي في ترجمته لأبان بن تغلب الكوفي يقول: "شيعي جلد، لكنه صدوق، فلنا صدقه وعليه بدعته. وقد وثقه أحمد بن حنبل، وابن معين، وأبو حاتم، وأورده ابن عدى، وقال: كان غاليا في التشيع"[14].

بل يروى الإمام ابن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمته لعبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري، وهو صدوق "وقال محمد بن اسماعيل الفزاري بلغني ونحن بصنعاء ان أحمد ويحيى تركا حديث عبد الرزاق فدخلنا غم شديد فوافيت ابن معين في الموسم فذكرت له فقال يا أبا صالح لو ارتد عبد الرزاق ما تركنا حديثه"[15].

وأمثال هذا كثير، إلا أن الإشارة في هذا المقام كافية في التدليل على أن منهج المحدثين في أخطر قضية تشغل المسلمين، وهي قضية نقل الدين والحفاظ عليه، جرت على القاعدة المذكورة: تقديم أهل الثقة على أهل الكفاءة.

***

يبقى أن نشير إلى بعض الضوابط التي ينبغي أن تُراعى في هذا منهج اختيار الرجال لإدارة الأعمال، وهذا بإذن الله تعالى ما نفرد له المقال القادم حتى تتضح الصورة، فالله الموفق والمعين.



[1] راجع مقال: فقه اختيار الرجال للأعمال (1)

[2] ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة مجموعة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة مكتبة الأسرة 2001م. 13/73.

[3] الطبري: تاريخ الأمم والملوك، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1407هـ. 2/342.

[4] ابن تيمية: مجموع الفتاوى، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، المنصورة، الطبعة الثالثة، 1426هـ = 2005م. 28/247.

[5] ابن تيمية: مجموع الفتاوي 28/68، وقد شك ابن تيمية هل القائل هو النبي أم عمر، والأصح أنه عمر.

[6] السابق نفسه.

[7] الطبري: تاريخ الأمم والملوك، 2/490.

[8] ابن عساكر: تاريخ دمشق، تحقيق: عمر بن غرامة العمري، دار الفكر، بيروت، 1995م. 60/ 39.

[9] الطبري: تهذيب الآثار (889).

[10] الخطيب البغدادي: الكفاية في علم الرواية، تحقيق : أبو عبد الله السورقي وإبراهيم حمدي المدني، المكتبة العلمية، المدينة المنورة. ص159.

[11] الخطيب البغدادي: الكفاية في علم الرواية ص 162.

[12] أحمد شاكر: الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث لابن كثير وهو تعليق على مقدمة ابن الصلاح في الحديث.دار الكتب العلمية، بيروت، ص94.

[13] السابق ص95.

[14] الذهبي: ميزان الاعتدال، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت. 1/ 5.

[15] ابن حجر: تهذيب التهذيب، دار الفكر، الطبعة الأولى 1404 هـ= 1984م। 6/280، 281.

نشر في المركز العربي للدراسات والأبحاث