السبت، يونيو 25، 2011

الإسلاميون وضرورة الترشح للرئاسة (3)

اقرأ أولا:

الإسلاميون وضرورة الترشح للرئاسة (1)

الإسلاميون وضرورة الترشح للرئاسة (2)

أول ما بدأتُ الكتابة في هذه السلسلة كان المشهد الإسلامي في مصر وكأنه تَابَعَ قرار جماعة الإخوان المسلمين بعدم الترشح للرئاسة، فالسلفيون اختلفوا على ما دون ذلك من تشكيل الأحزاب ودرجة المشاركة السياسية، لكن الوضع قد اختلف الآن وصار لدينا أكثر من مرشح إسلامي قوي على رأسهم: د. سليم العوا، ود. حازم صلاح أبو إسماعيل، ود. عبد المنعم أبو الفتوح، حتى إن الساحة الإسلامية تشهد رغبة في التوحد خلف مرشح واحد وتخشى من تفتت الأصوات، وهو كل حال أمر سابق لأوانه!

حين اعتزم د. أبو الفتوح الترشح للرئاسة كانت النغمة العلمانية تعزف أنه يمثل رأس الحربة الماكر للمؤامرة الإخوانية الخبيثة في "الانقضاض – القفز – القنص – السيطرة - ..." على الوطن، عبر مسلسل توزيع الأدوار بين الجماعة وأبو الفتوح، فلما بدا واضحا أن قرار الإخوان صادق وجاد وتم فصل د. أبو الفتوح، تحول الرجل بين عشية وضحاها إلى الرمز المعتدل المستنير ضحية الإرهاب الإخواني وأُسبِغت عليه مدائح ومناقب ممن لم يقف بجواره مرة واحدة في أي محاكمة أو اعتقال أو تضييق.. إلا أن الوقت فاجأهم بالمصيبة الأخرى؛ إذ أعلن د. سليم العوا ترشحه للرئاسة، وهو الترشح الذي قلب كل استطلاعات الرأي على الانترنت، حتى تهدد موقف البرادعي (الذي يصفه البعض عن حق بمرشح الانترنت) لصالح العوا، فبدأت وصلات الهجوم على العوا سرا وجهرا، تلميحا وتصريحا، غمزا ساخرا أو غمزا في ثوب نصيحة!.. إن هذا يؤكد لمرة أخرى الحقيقة اليقينية في خطورة أن يُترَك مصير البلاد إلى مثل هذه الفئة التي يصفها الشيخ حازم أبو إسماعيل عن حق بأنها ليست إلا "ظاهرة تلفزيونية".

***

المهم في سياقنا الآن، أن الوتيرة قد زادت بشأن تعداد تجارب الحكم الإسلامية على أنها جميعا وعن بكرة أبيها تجارب فاشلة، وتستعرض هذه التجارب غزيرة التفاصيل في سطر أو بضع سطر، وبأسلوب يمثل نموذجا للتسطيح والاختزال، مع كثير من الجهل والافتراء.. على أن الرد لم يعد مجديا، المُجدي في السياق الإسلامي أن نرى هذه التجارب في ضوء بعض الأسئلة:

1. إلام انتهت التجارب التي خلت من الإسلاميين، أو التي ترك فيها الإسلاميون السلطة طوعا أو كرها؟

2. ما هي التجارب التي فشلت بالفعل؟ وما هي التجارب التي يُسَوَّق أنها فشلت؟

3. وهذه التجارب الفاشلة.. لماذا؟ وهل أسبابها قَدَرٌ سيطارد الحالة المصرية؟

4. ما هي التجارب التي نجحت؟ وهل أسباب نجاحها مستبعد في ظل الحالة المصرية؟

إن لدينا تجارب كثيرة منذ نصف القرن الماضي الذي شهد موجات من الثورات العربية التي خلعت الاحتلال، غير أنها -وبكل أسف- ثورات لم تكتمل، إذ قفز الخارج في المشهد الداخلي وتحالف مع طبقة العسكر التي قامت بانقلابات سرقت بها الثورات الحقيقية، وعملت النخب التي زرعها الاحتلال كإسناد يوالي ويشرعن لهذا الوضع الجديد.

أما التجارب التي خلت من الإسلاميين أو تركوا فيها السلطة طوعا أو كرها فهي تمثل صلب المشهد العام في العالم العربي، منذ انقلابات سوريا في أواخر الأربعينات حتى انقلاب موريتانيا الأخير في 2008م، فإلى أين صار المشهد العربي في هذه السنوات الستين؟ أليس حال العالم العربي كله دليلا ولا أوضح على فشل وبؤس وسقوط التجربة العلمانية؟!

بالكاد تم إسقاط النظام في تونس ومصر بعد أعوام من القهر والفساد (وما زال يُخشى على ثورتيهما)، ومشهد دموي فاجر في ليبيا وسوريا، ووضع قلق مضطرب في اليمن، وقهر سائد مطبق في الجزائر التي تحولت لغرفة عمليات إفشال الثورات العربية ودعم الأنظمة المستبدة، ومن قبل هذا: سقوط العراق تحت الاحتلال، واستقرار القوات الأجنبية في الخليج والبحر الأحمر والمتوسط، وانفصال جنوب السودان، ودخول القضية الفلسطينية في متاهة المفاوضات التي يديرها مجموعة من العملاء.. وبالجملة، فالعالم العربي بعد ستين سنة من ثورات حلمت بالتحرر والحرية والتقدم صار بين محتل ومقهور وممزق ومجاهد ينفذ ثورة جديدة فإما وصل ويخشى على ثورته وإما ما زال يجاهد لإنجاح ثورته.

***

إيران، أفغانستان، السودان، غزة .. هذه هي الأسماء التي يحفظها المطالع لإعلام النخبة العلمانية في سياق تشويه الحكم الإسلامي، ومما يثير الدهشة أن جبل الخوف الرهيب تمخض بعد الضغط والفحص فولد أربعة أسماء فقط!!

وقد كانوا من قبل يضيفون "تركيا" فالآن يتجنبون ذكرها خِزْيًا وتزويرا!

أما غزة فهي في الحقيقة تجربة نجاح أسطورية لا مثيل لها، وهي وحدها كافية تماما للدلالة على أن الحكم الإسلامي هو أفضل النماذج، فهذا القطاع الصغير المخنوق جغرافيا، والمحاصر من جميع الجهات، والذي تآمرت عليه القوى العالمية والإقليمية، واجتمع عليه شرار العرب والعجم، يستطيع مواصلة الحياة بدون ديون خارجية وبشفافية شهدت بها التقارير الدولية، وتصدى وحده للوحش الإسرائيلي القادر على اكتساح محيطه العربي كله بسهولة، ويدير علاقاته العربية والدولية بقدر غير متوقع من الكفاءة والمهارة، فيم تتراكم الديون واتهامات الفساد وتجارب الفشل السياسي على جماعة رام الله!!

وأما إيران، فهي بعد ثلاثين سنة من ثورتها أفضل من جميع الدول العربية بعد نصف قرن من ثورتها، وهي قوة إقليمية لا يمكن تجاوزها، ولها نفوذها الواسع، وتحقق تقدما اقتصاديا جيدا، وأوضح منه تقدمها العسكري الذي يجعلها بالنسبة للقوى الأخرى موضع تهديد.. ولئن كان لا يعجبنا من إيران استبدادها الداخلي أو محاولتها نشر التشيع ودعم بشار في سوريا، فهذا أمرٌ سيئ بلا شك غير أنه دليل على سوء السياسة لا على فشل تجربة الحكم الإسلامي، على أن كثيرا من هذا السوء راجع إلى طبيعتها كدولة تعتمد المذهب الشيعي وولاية الفقيه وهو الأمر الذي لا وجود له في الحالة المصرية ولا في أي حالة إسلامية أخرى.

وإذن، فقد بقيت لدينا من التجارب الفاشلة: أفغانستان والسودان، ولا بأس أن نعترف بأنهما تجربتان قد فشلتا، حتى لو تجاوزنا كل الأسباب من حصار دولي ودعم لحركات التمرد والمعارضة، ثم تحالف القوى الدولية لاحتلال أفغانستان الفقيرة الضعيفة (مشهد نموذجي للتوحش)، وتحالف دولي آخر لفصل جنوب السودان الفقير المتهالك هو الآخر!

في كلا التجربتين كثير من الأعذار والمبررات، ولكن، لا بأس.. لنعترف جدلا ودون دخول في تفاصيل بأنهما تجربتين قد فشلتا، مقابل تجارب إسلامية أخرى ناجحة، ومقابل تجارب علمانية كلها فاشلة!

***

على أن ما يهمنا في السياق المصري أن كثيرا من أسباب الفشل في تجربتي أفغانستان والسودان لا تتوفران في الحالة المصرية، فليس في مصر مناطق تمرد كجنوب السودان أو شمال أفغانستان، وليس في مصر تمايز عرقي أو لغوي أو ديني كالذي فيهما، والعمق الجغرافي لمصر آمِنٌ ومتسع على خلاف السودان وأفغانستان، كما أن مصر أفضل من أفغانستان في الموارد وأكثر قدرة على استغلال مواردها من السودان.. إلى غير هذا من الأمور التي تصب كلها في صالح الحالة المصرية.

إن اللحظات الفارقة تصنع أوضاعا فارقة، فبعد عشر سنوات يمكن أن نتحدث عن سبل تحسين الأداء في المرحلة القادمة، كما يمكن أن نؤرخ للمذبحة التي كانت فيها ويكون أقصى الأمل هو الخروج بأقل الخسائر والبحث في متاهات الوضع القانوني والسياسي عن مجرد التواجد الشرعي.

إن الأتراك يتحدثون عن المستقبل الأفضل، فيم يتحدث المصريون والتونسيون عن بداية المستقبل، فيم يظل آخرون يجاهدون في سبيل الخروج من الماضي البغيض، وثمة أناس ما زالوا يبحثون عن بداية للخروج من هذا الماضي.. فأي هؤلاء نود أن نكون بعد نصف قرن آخر؟

ليس الأمر سهلا، هذه حقيقة معروفة، إلا أن الأمر لن يكون ذات يوم سهلا، بل الخشية ألا يكون –إذا أفلتت هذه الفرصة- بمثل ما هو الآن عبر جيلين أو ثلاثة.. لابد من دراسة المخاطر والمحاذير وسبل التعامل معها، وهذا بإذن الله ما نتركه للمقال القادم والأخير في هذه السلسلة.

نشر في شبكة رصد الإخبارية

الإمام المجاهد سليمان الكلاعي

لست ألوم أحدا إن لم يعرفه، فالحق أن الأجيال الأخيرة من أمتنا يكفيها ثباتها الأسطوري على دينها، واعتزازها الكبير بانتمائها لهذه الأمة على رغم ما أحيطت به من ظروف كانت كافية لاستلال أي فكرة من العقول والقلوب، إلا أن معدن الأمة أصيل، شهد له الله تعالى بقوله (كنتم خير أمة أخرجت للناس).

إنه الإمام العلامة الكبير، والمجاهد العلم الشهيد، سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي البلنسي، كنيته أبو الربيع.

***

لم يحفل عصر من عصور الأندلس بالعلماء والمحدثين كما حفل القرن الممتد من منتصف القرن السادس الهجري إلى منتصف القرن السابع الهجري، إذ بلغت التراجم التي أحصاها ابن الأبار في "تكملة الصلة" لشيوخ هذا العصر نحو 2500، فيم لم يُحص ابن بشكوال في قرن ونصف –منذ أول الخامس حتى منتصف السادس- سوى 1440، وكان ابن الفرضي قد أحصى خلال القرون الأربعة الأولى 1766 رجلا، وهذا مع أن الأندلس كان قد تقصلت أرضه في الزمن الذي رصده ابن الأبار[1].

ولسنا نذكر هذا إلا لشيء واحد، ذلك أن بروز عالم، وظهوره في عصر العلماء الحافل إنما هو الدليل الأظهر على مقامه في العلم ورسوخه فيه، إذ الميدان فسيح والفرسان كثير، فكيف إذا كنا نتحدث عن "شيخ العصر" الذي انتهت إليه صدارة العلم في أيامه؟!

ولم يشهد عصر من عصور الأندلس تضعضعا وتراجعا مثلما شهد في النصف الأول من القرن السابع الهجري، ففي أوله نزلت بالمسلمين هزيمة ساحقة في موقعة "العقاب" (609 هـ = 1212م)، ثم ما لبثت دولة الموحدين أن –التي كانت تحكم المغرب والأندلس- أن خارت قواها، وكان من آثار انحلال العُرَى أن تساقطت ممالك الأندلس وحواضرها سريعا كأنما حبات عقد انفرط، حتى قال ابن الدباغ الإشبيلي:

فما في أرض أندلس مقام ... وقد دخل البلا من كل باب

في 623 هـ سقطت بياسة، ثم جزيرة ميورقة وبطليوس (627هـ)، وماردة (628هـ)، وأبدة (630هـ)، واستجة والمدور (633هـ)، وفي نفس العام سقطت وقرطبة –عاصمة الإسلام الباهرة ودرة مدن أوروبا الوسيطة، وبلنسية (636هـ)، ومرسية وشلب (640هـ)، ودانية ولقنت (641هـ)، وأريولة وقرطاجنة وجيان (643هـ)، وشاطبة (644هـ)، وإشبيلية (646هـ)، وشنتمرية الغرب (647هـ)... وغيرها من أواسط المدن وصغارها.

وبلغ الحال من الضعف أن وقعت مملكتي قشتالة وليون [أسياد الغرب والوسط] من ناحية، ومملكة أرجون [سيدة الشرق] من ناحية أخرى اتفاقية "المرسى Almirza" فيما بينهما (642هـ = 1244م)، وهي تشبه كثيرا اتفاقية سايكس بيكو المشهورة، إذ اتفقا على حدود توسع كل منهما في البلاد الأندلسية التي تتأهب للسقوط.

لم تكن معضلة العصر في العلماء فلقد كانوا من الكثرة بمكان، كانت المعضلة في الأمراء، ولعل في قصة الإمام سليمان الكلاعي نموذج لقصة العصر الذي خرجت فيه حواضر الأندلس من ظل الإسلام ولم تعد إليه حتى الآن.

***

تنازع أمراء البيت الموحدي على الحكم، وكان بالأندلس منهم أربعة أمراء كبار؛ أبو محمد عبد الله في مرسية، وأخوه أبو العلا إدريس في قرطبة، وابن عمهما أبو زيد عبد الرحمن على بلنسية، ثم أخوه –أي أخي أبي زيد- عبد الله البَيَّاسي على إشبيلية. وكلا هذين الأخيرين سيكون لهما قصة مخزية.

ثار أبو محمد عبد الله على خليفة الموحدين عبد الواحد فخلعه وتلقب بـ "العادل" (621هـ)، ثم ما لبث أن ثار عليه ابن عمه عبد الله البياسي الذي لم يجد عونا من الموحدين في ثورته هذه، فما كان منه إلا أن انحاز إلى فرناندو الثالث ملك قشتالة وتنازل له عن عدد من بلاد الأندلس، ثم قاتل معه المسلمين وقتل منهم بضعة آلاف في أكثر من مدينة مهمة، واستولى فرناندو بسبب هذا التحالف على مجموعة من المدن الحصينة التي تمثل خط الدفاع عن قرطبة، وظلت هذه الحال ثلاث سنوات يتصاعد فيها نفوذه وخطره وخطر النصارى معه حتى مُني بهزيمة شديدة أمام إشبيلية التي كانت في يد أبي العلا إدريس (623هـ)، فما لبث أن هام على وجهه فتلقفه أهل قرطبة فقتلوه لما كان من خياناته الكثيرة، بل ذكر ابن عذارى أنه دخل في النصرانية.

لكن الأمور لم تهدأ، فأبو العلا إدريس الذي لم يستطع أن يواجه عبد الله البياسي في الأندلس إلا وهو أمام أسوار مدينته إشبيلية، ثم لم يستطع أن يحرز نصرا على النصارى بعدئذ فأبرم معهم (624هـ) هدنة لمدة عام مقابل ثلاثمائة ألف قطعة فضية، هذا الرجل الذي تتفلت من بين يديه الأندلس نادى بنفسه خليفة على المغرب والأندلس وخرج على أخيه العادل وتآمر عليه حتى بلغ مأربه، فقُتِل العادل، وتلقب هو بـ "المأمون" (624هـ). إلا أن الأمر لم يَصفُ له، فلقد بايعت المغرب ابن أخيه يحيى "المعتصم"!!

وهنا، كرر المأمون سيرة الخائنين فذهب إلى فرناندو يجدد معه الهدنة، ويطلب منه قوة عسكرية تنزل معه المغرب وتحارب له، وقبل بشروط فرناندو المهينة التي كان منها: بناء كنيسة للنصارى في مراكش، والتنازل عن عشرة حصون يختارها بنفسه، وإذا أسلم نصراني يُرَدُّ إلى أهله، وإذا تنصر مسلم فلا سبيل لأحد عليه!!

ثم إن المأمون جمع جنوده ونزل بهم إلى المغرب وترك الأندلس كلها بلا دفاع فصارت مكشوفة للنصارى. ولم يبق بالأندلس إلا الأمير الرابع الذي ظل بعيدا عن الأحداث أبو زيد عبد الرحمن.

ثار بالأندلس ثلاثة رجال، ثار ابن هود على المأمون، ثم ثار ابن الأحمر على ابن هود، وفي شرق الأندلس ثار أبو جميل زيان، وحيث أننا في سياق قصة الإمام سليمان الكلاعي، فسنركز المشهد على بلنسية في شرق الأندلس، وهي الجهة التي كان فيها إمامنا سليمان الكلاعي، وهي المنطقة التي كانت تأكلها مملكة أرجون.

فمع الاضطراب الحادث بالجزيرة وانهيار سلطان الموحدين ثار في بلنسية وزيرها ومدبر أمرها أبو جميل زيان على واليها -والي الموحدين- أبو زيد عبد الرحمن الذي يحكمها منذ 620هـ، وكان أبو زيد عبد الرحمن قد هزمه منذ قليل ثائرُ مرسية ابن هود الذي كان يطمع في الاستيلاء على ما بقي من الأندلس. هرب أبو زيد وصارت بلنسية في يد أبي جميل زيان الذي انهزم لمرة أخرى أمام ابن هود. وحين رأى أبو زيد أن بلنسية قد صارت نزاعا بين أبي جميل وابن هود وأن دولة الموحدين يتواصل انهيارها ذهب لاجئا إلى خايمة الأول (Jaima I) ملك أراجون، فكرر بذلك سيرة أخيه عبد الله البياسي مع فرناندو الثالث!!

كان ذلك في أوائل 626هـ. طلب منه أبو زيد عبد الرحمن المساعدة في مقابل أن يعطيه ربع الأراضي التي يسترجعها هو، ومتنازلا له عن كل الأراضي التي يستولي عليها خايمة بنفسه، وعاد أبو زيد عبد الرحمن (629هـ) واستولى على بعض الأراضي بمساعدة الأراجونيين، ثم إنه أدرك من خلال أرض الواقع أنه لن يستطيع أن يعطي خايمة ما اتفق معه عليه، فتنازل عما له من حقوق في الاتفاقية، ثم كانت سقطته الكبرى.. لقد تنصر ودخل في حمى النصارى وتزوج بنصرانية، وسمى نفسه "بثنتي Vicente"، ثم صار من جنودهم في الاستيلاء على الأراضي الأندلسية!!

وطَّد أبو جميل زيان سلطانه في بلنسية، ولم تنته المنازعات بينه وبين ابن هود، حتى دهمه خايمة الأول يريد أخذ بلنسية قاعدة شرق الأندلس.

ثمة رواية نصرانية[2] تقول بأن أبا جميل بدأ بالجهاد واستولى على عدد كبير من ثغور مملكة أراجون، فكان أن نهض إليه خايمة، إلا أن مسار الأحداث، وسكوت الرواية الإسلامية عن ذكر هذا، وطبيعة هؤلاء الزعماء تحملنا ترك هذه الرواية، بل "لا يمكن أن يكون أبو جميل بن زيان هو صاحب قرار مواجهة النصارى، لأنه كان في نفس هذا الوقت يفاوضه مستجلبا رضاه، بل هو بعد أن سقطت بلنسية وسار إلى دانية أخذ يفاوض ملك قشتالة ليتنازل له عنها في مقابل ميورقة. وإذن فقرار الخروج لحرب الأرجونيين كان مصدره أهل بلنسية وشيخهم أبا الربيع سليمان الكلاعي"[3].

كان الإمام سليمان الكلاعي في السبعين من عمره، خرج يقود الناس ويحرضهم على الجهاد حتى خرج معه أهل بلنسية (فالينسيا Valencia) يواجهون بإمكاناتهم المحدودة جيش النصارى الضخم، عند أنتيشة على بعد سبعة أميال من حاضرة بلنسية، وكانت موقعة كبيرة كان يحمل فيها الراية[4] حتى نال فيها الشهادة "مقبلا غير مدبر، ينادي المنهزمين: أعن الجنة تفرون؟! [وذلك] ضحى يوم الخميس الموفي عشرين لذي الحجة سنة أربع وثلاثين وستمائة"[5].

***

لاشك أن الثلاثين سنة الأخيرة من أيام الكلاعي كانت عصيبة كما رأينا، لقد انتهت دولة الموحدين القوية وورثها من لا يتردد في محالفة النصارى وتسليمهم البلاد في مقابل الاستعانة بهم على بني دينه، وأي شيء أقسى على قلب العالِم المجاهد حين يكون في ظل مستبد، لا هو يجاهد ولا هو يترك الناس يجاهدون، بل هو يتحالف مع العدو الذي يتوجب جهاده؟!

الأقسى عليه ألا يجد ملجئا آخر، فعاصمة الخلافة تنهبها الفتن، وبلاد الأندلس موزعة على ثائرين متناوشين لا يمتلكون شرعية وليس فيهم كفء يتولى الأمر.

في مثل هذه الأحوال لا ينتبه التاريخ لأمر العلماء بل يحفل بشأن الأمراء، فالعلماء في الأسر والقَيْد، والأمراء يكتبون مصاير الممالك بما يَخُطُّونه من مناوشات وتحالفات، ولولا أن الإمام سليمان الكلاعي سقط شهيدا في جهاد، لما عرفنا أنه كان من المجاهدين، ولا شك في أن التاريخ غفل عن كثير من حوادث جهاده في طول حياته، إذ أننا لا نعرف من المعارك التي شهدها سوى هذه التي استشهد فيها برغم قول ابن فرحون الذي يؤكد أنها كانت كثيرة "كان من أولي العزم والبسالة والإقدام يحضر الغزوات ويباشر بنفسه القتال ويبلي البلاء الحسن"[6].

وأصل ما نعرفه عن الكلاعي مأخوذ عن تلميذه المؤرخ الشهير ابن الأبار صاحب اثنين من أهم مراجع التاريخ الأندلسي وهما "الحلة السيراء"، و"التكملة لكتاب الصلة"، وهذا الأخير ألفه ابن الأبار بأمر من شيخه الكلاعي وبمساعدة منه؛ أعطاه من علمه وفتح له خزائن كتبه.

يُعرف الكلاعي بإمامته في كثير من العلوم، قال ابن الأبار: "عني أتم العناية بالتقييد والرواية، وكان إماما في صناعة الحديث، بصيرا به، حافظا حافلا، عارفا بالجرح والتعديل، ذاكرا للموالد والوفيات يتقدم أهل زمانه في ذلك، وفي حفظ أسماء الرجال وخصوصا من تأخر زمانه أو عاصره، كتب الكثير وكان حسن الخط لا نظير له نهاية في الإتقان والضبط، مع الاستبحار في الآداب والاشتهار بالبلاغة والفصاحة، فردا في إنشاء الرسائل، مجيدا في نظم القريض، خطيبا فصيحا مفوها مدركا، حسن السرد والمساق لما يحكيه ويحدث به ويود سامعه لو وصل حديثه ولم يقطعه"[7].

إلا أنه في علم الحديث أَجَلُّ وأَبْرَز، قال عنه الذهبي: الإمام، العلامة، الحافظ، المجود، الأديب البليغ، شيخ الحديث والبلاغة بالأندلس[8]، الحافظ الكبير، بقية أعلام الحديث ببلنسية[9]. ولذا تضافرت كتب طبقات المحدثين على إيراد ترجمته[10].

ومصنفاته تدل على تعلقه برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، فغالبها كان في علم الحديث والسيرة وتاريخ الصحابة، مع شيء في الأدب، ومن المؤسف أنه لم يبق من تراثه الذي نقرأ عناوينه في الكتب التي ترجمت له إلا كتابه في السيرة "الاكتفاء في مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء".

والحقيقة أن منهجه في هذا الكتاب كاشف عن جانب من عقلية هذا الرجل، فهو قد أراد وضع كتاب يحكي فيه قصة النبي وخلفائه للبسطاء والعامة، فاعتمد على سيرة ابن إسحاق، فجردها من الأسانيد وسلاسل الأنساب والأشعار، ثم أكمل ما يقع من نقص في القصة بما أفادت به الكتب الأخرى – كالمغازي لموسى بن عقبة، والمبعث للواقدي، والتاريخ الكبير لأبي بكر بن خيثمة- دون أن يشير إلى هذا منعا لقطع استرسال القصة "ليكون المساق أَبْيَن والاتساق أحسن"[11].

فهو إذن، في علو علمه، كان رجلا داعية قريبا إلى شؤون الناس وأمورهم، رصد حاجتهم في كتاب قصة سلسة ممتعة، والعهد بأكابر العلماء –في كثير من الأحيان- انصرافهم عن التبسيط إلى التطويل، وعن العرض إلى التحقيق، وتفريعهم في الأمور وتصديهم للنوادر والفرائد مما يحقق تفوقهم ويؤكد صدارتهم وجلالتهم. والعهد أن يتولى هذا الاختصار والتبسيط لعموم الناس الدعاة وطلاب العلم، إلا أننا أمام نموذج جمع بين الأمرين، وهو أمر لا يتكرر كثيرا.

يؤكد لنا هذا أيضا هذه العبارات "الدعوية" –إن صح التعبير- التي أوردها في سياق هدفه من وضع الكتاب، وفيها يبدو واضحا تأثير عصره الفادح الكروب والمحتاج إلى الصبر والجهاد، يقول: "لا يخلو الحاضرون لهذا الكتاب من أن يسمعوا ما صنع الله لرسوله في أعداء تنزيله فيستجزلوا ثواب الفرح بنصر الله، أو يستمعوا ما امتحنه الله به من المحن التي لا يطيق احتمالها إلا نفوس أنبياء الله بتأييد الله، فيعتبروا بعظيم ما لقيه من شدائد الخطوب ويصطبروا لعوارض الكروب تأدبا بآدابه وجريا في الصبر على ما يصيبهم والاحتساب لما ينوبهم على طريقه صبره واحتسابه. وتلك غايات لن نبلغ عفوها بجهدنا، ولن نصل أدانيها بنهاية ركضنا وشدنا، وإنما علينا بذل الجهد في قصد الاهتداء، وعلى الله سبحانه المعونة في الغاية والابتداء"[12].

ونفس الداعية هذه تتبدى بجلاء في ترجمة النباهي له، إذ يذكر أنه "حسن الهيئة والمركب والملبس والصورة، كريم النفس، يطعم فقراء الطلبة، وينشطهم، ويتحمل مؤنتهم"[13].

والكلاعي من علماء التفسير أيضا، نبصر ذلك حين يسوق لنا ابن حيان الأندلسي صاحب "البحر المحيط"، سلسلة إجازته لرواية تفسير ابن عطية، فيكون الكلاعي فيها شيخ شيخ ابن حيان[14].

***

إمام في العلم، وإمام في الجهاد.. عندما حمل راية العلم أخذها بحقها فحَمَّلّتْه راية الجهاد، ثم ألبسته تاج الشهادة، نحسبه كذلك والله حسيبه.

وعند هذا الحد من التنقيب في كتب التراجم والأخبار ينقطع عمل الباحثين في التاريخ، ولربما ندعو واحدا من تلاميذ شيخ العربية محمود شاكر "أبي فهر" أن "يتذوق" شعر الكلاعي وأدبه، فيرشدنا إلى لمحات في شخصية الرجل وتاريخه، كما فعل العلامة شاكر في تاريخ المتنبي حيث استخلصه من شعره فأخرج تاريخ المتنبي من جديد، فللكلاعي شعر رائق بديع، سهل منساب مريح، نختم مقالتنا هذه بالتقاط أبيات منها توحي بأنها قيلت في لحظة معاناة بالغة.

أمولى الموالي ليس غيرك لي مولى ... وما أحد يارب منك بذا أولى

تبارك وجهٌ وُجِّهت نحوه المُنى ... فأوزعها شكرا وأوسعها طوْلا

تبرأت من حَوْلي إليك وقوتي ... فكن قوتي في مطلبي وكن الحوْلا

وهب لي الرضا مالي سوى ذاك مبتغى ... ولو لَقِيَتْ نفسي على نَيْله الهَوْلا

نشر في المركز العربي للدراسات والأبحاث



[1] د. حسين مؤنس: شيوخ العصر في الأندلس، دار الرشاد، القاهرة، الطبعة الثانية، 1417 هـ = 1997م. ص117.

[2] أوردها محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 6/439. ينقلها عن: A. P. Ibars : Valencia Arabe, p. 628

[3] د. حسين مؤنس: شيوخ العصر في الأندلس، دار الرشاد، القاهرة، الطبعة الثانية، 1417 هـ = 1997م. ص120 (بتصرف).

[4] أبو الحسن النباهي: تاريخ قضاة الأندلس، تحقيق : لجنة إحياء التراث العربي في دار الآفاق الجديدة، دار الآفاق الجديدة – بيروت، الطبعة الخامسة، 1403 هـ - 1983 م. 1/119.

[5] ابن الأبار: التكملة لكتاب الصلة، تحقيق: عبد السلام الهراس، دار الفكر، بيروت، 1415هـ- 1995م. 4/103.

[6] ابن فرحون: الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، تحقيق: مأمون بن محيي الدين الجنان، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1417 هـ = 1996م. ص201.

[7] ابن الأبار: التكملة لكتاب الصلة 4/101.

[8] الذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة التاسعة، 1413هـ = 1993م. 23/134 وما بعدها.

[9] الذهبي: تاريخ الإسلام، تحقيق: د. عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1407هـ - 1987م. 49/190.

[10] الذهبي: المعين في طبقات المحدثين، تحقيق: د. همام سعيد، دار الفرقان، عَمَّان، الطبعة الأولى، 1404هـ. ص62 (رقم 2086)، والذهبي: تذكرة الحفاظ، تحقيق: زكريا عميرات، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1419هـ- 1998م. 4/141، والسيوطي: ذيل طبقات الحفاظ، تحقيق: زكريا عميرات، دار الكتب العلمية بيروت. ص288.

[11] الكلاعي: الاكتفاء، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1387 هـ = 1968م. 1/2 وما بعدها.

[12] الكلاعي: السابق 1/6.

[13] النباهي: تاريخ قضاة الأندلس 1/119.

[14] ابن حيان الأندلسي: البحر المحيط، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2001 م. 1/114.

الخميس، يونيو 23، 2011

يا معشر الإسلاميين: اليقظة وحدها لا تكفي!

فإن يقظوا فذاك بقاء قوم ... وإن رقدوا فإني لا أُلام

بهذا البيت نادى نصر بن سيار والي خراسان على الخليفة الأموي مروان بن محمد ليسارع بالتصرف إزاء التهديد الذي فاجأ الدولة الأموية، غير أن مروان انشغل بأمور أخرى حتى تعاظم التهديد الخراساني الذي أنهى الدولة الأموية كلها!

في لحظاته الأخيرة تساءل مروان بن محمد عن هذه الهزائم التي نزلت به، فقال له خادمه: من ترك القليل حتى يكثر، والصغير حتى يكبر، والخفي حتى يظهر، وأخر فعل اليوم لغد، حل به أكثر من هذا.

ينبغي أن يعلم الإسلاميون أن الثورات العربية التي سرقت قبل نصف قرن بسبب من سذاجة ومثالية وحسن ظن القيادات الإسلامية آنذاك قد أدخلت بلادنا في العصر الأسود الذي ما زلنا نجاهد للخروج منه، وعليه فينبغي أن تكون قضية إنجاح الثورات العربية الحالية مسألة حياة أو موت!

والملاحظ للحركة الإسلامية في هذه الأيام يلحظ فيها ذات المثالية والبطء وإيثار الهدوء والسلامة والانسحاب من دائرة التأثير على صناعة القرار، بينما ينشغل الطرف الآخر بإدارة المعارك والضغط في مناطق صنع القرار حتى خرجت تصريحات تثير القلق، فنائب رئيس الوزراء الذي لا ندري ماذا يفعل على وجه التحديد يعلنها حربا واضحة وصريحة ضد اختيار الجماهير، وتجرأ ليؤكد بأن رئيس الوزراء على نفس رأيه (ولم نسمع نفيا علنيا من رئيس الوزراء) كما أن كلمات بعض أعضاء المجلس العسكري أصبحت لينة حمالة أوجه، يفهم منها ما يريب ويُحتاج في نفيها أن ندخل في حديث حول السياق والاقتطاع وسوء الفهم!

إن الحركة الأهم ليست على مستوى الجماهير، فالإسلاميون يملكون من التأثير ما ليس لخصومهم في الشارع، غير أن هؤلاء الخصوم يعرفون من أين تُؤكل الكتف، وآخر هذه الأنباء ما كشف عنه إبراهيم عيسى من أن لقاء مغلقا جرى بين البرادعي مع المشير والفريق، وهو خبر خطير ومعانيه كلها لا تطمئن، وقبله لقاء مغلق آخر مع البابا شنودة، ومن السذاجة أن يعتقد الإسلاميون أنهم كانوا غائبين عن مناقشات هذه اللقاءات! بل الذي لا شك فيه أنه لم يحضر غيرهم في هذه النقاشات.. فما الذي كان يرتب لهم؟

كيف نأمن على الوطن قوما يريدون السياسة بلا أخلاق، ويرفضون الدين مرجعية، كيف نرجو أن يحافظوا على مبادئ ديمقراطية قد تسلب منهم سلطانهم؟!!

قد يكون مفهوما أن الهدوء مطلوب لإنهاء المرحلة الانتقالية بأسرع ما يمكن عبر تفويت الفرصة على صانعي المشكلات ومفجري الفتن، غير أنه ينبغي أن يكون معلوما أيضا أن الطامح إلى الذرائع لا تُعْجِزه الحيل، وقد يصنع هو ذريعته بنفسه لكي يحتج بها بعدئذ، وما تزال الكثير من الشواهد مثيرة لأقصى درجات القلق.

اليقظة والمتابعة والرصد أمور لا تكفي وحدها، لا بد من استعداد للتحرك عند كل بادرة تحتمل الشك، والحقيقة أن البوادر قد كثرت، ليس آخرها هذا الاستفتاء غير المفهوم على موقع المجلس العسكري حول المترشحين للرئاسة، ولا تصريحات توني بلير التي هي بالتأكيد لا تعبر عن مجرد رأي شخصي لا يتبعه عمل، ولا هذه اللقاءات المغلقة، ولا التأخر في إصدار قانون مجلس الشعب..

ما أسوأ أن يجلس إنسان بعد نصف قرن آخر يؤرخ لسرقة ثوراتنا هذه الأيام، ويحصي كم من الدماء والأموال والأعراض والبلاد قد ضاعت!! إن الخطأ في اللحظات الفاصلة ليس كالخطأ في غيرها، إنه خطأ بطول السنين وعرض البلاد وعمق المأساة.

نشر في المصريون