الجمعة، سبتمبر 30، 2011

رحيل المجاهد المؤرخ محمود الصباغ

مائة عام إلا سبع سنوات..

هكذا عَمَّر الرجل الفذ على هذه الأرض، قضى شبابه مجاهدا، ثم جاءته الأيام بما لا يحتسب، فترك للتاريخ كتابين كشفا عن ذاكرة قوية وذهن حاضر، وأهم من هذا وذاك، كشفا عن صدق وتجرد للحق وإن خالف فيه الأصحاب والأحباب والناس جميعا..

***

في مثل هذا المكان قبل شهرين كتبتُ عن مؤرخ الفتوحات الإسلامية أحمد عادل كمال، والآن أكتب عن رفيقه الأستاذ محمود الصباغ، رفيقه في النظام الخاص للإخوان المسلمين، ورفيقه في المحنة التي انتهت بفصلهما من جماعة الإخوان المسلمين في بداية الخمسينات إبان الأزمة الشهيرة مع مكتب الإرشاد، وهو رفيقه أيضا في التأريخ للنظام الخاص.

ما لم أذكره عن أحمد عادل كمال في المقال السابق هو أنه مضى في تأريخه للنظام الخاص للإخوان المسلمين في كتاب (النقط فوق الحروف) على غير طريقة المؤرخ، بل سلك فيها طريق الداعية!

ذلك هو العيب الوحيد الذي أنتقده على الأستاذ الكبير الفذ أحمد عادل كمال، ذلك أن طريقته هذه وإن كان غرضها حسنا حميدا يتمثل في "إخماد الفتنة" فإنها أخفت عن جيلنا الحالي حقيقة التاريخ الذي حدث في تلك الفترة، وحقيقة الأدوار والأسماء والمسؤوليات، وبالتالي خفي علينا الدرس الذي يجب أن نتعظ به في مستقبلنا وحياتنا الحاضرة..

إن جزءا كبيرا من أزمة الإخوان المسلمين اليوم أنهم لا يعرفون على وجه التحديد كيف أمكن لعبد الناصر أن يلعب بقيادتهم قبل نصف قرن حتى أوردهم السجون والمهالك، ولا يعرفون كم كانت قيادتهم في ذلك الوقت تحفل بعيوب جسيمة في الإدارة والتنظيم والقرارات جعلها مليئة بالثغرات التي استطاع الأعداء النفاذ منها.. وهذه الأزمة تتجلى في أن قياداتهم حتى هذه اللحظة لم تكتب تاريخ تلك الفترة بالوضوح والجلاء والصراحة التي ينبغي أن يكتب بها التاريخ! لذا تراهم اليوم على تردد وارتباك في العلاقة مع المجلس العسكري في مصر، ونسأل الله ألا يأتي اليوم الذي يتكرر فيه ما كان قبل نصف قرن، وهو إلى هذه اللحظة مشهد يعيد نفسه بدقة مدهشة!!

***

لولا الأستاذ محمود الصباغ لظل تاريخ هذه الفترة مجهولا بالنسبة للباحثين في تاريخ الإخوان المسلمين، ولهذا فإن فضله هو فضل الرائد المتميز الذي كشف أمرا تواطأ الجميع على إخفائه، ولئن كان إخفاؤهم هذا بحسن نية إلا أنه برأيي خطأ غير مقبول على الإطلاق!

"حقيقة التنظيم الخاص ودوره في دعوة الإخوان المسلمين"

هذا هو الكتاب الأول للأستاذ محمود الصباغ، وهو أوثق ما كتب على الإطلاق في تاريخ النظام الخاص للإخوان المسلمين، لم يكتب مثله ولا يُتوقع أن يكتب مثله، فالرجل كان واحدا من قيادات الهيئة العليا للنظام الخاص.

وقد قَدَّم للكتاب المرشد الخامس للإخوان المسلمين مصطفى مشهور، وقد شهد بأن مؤلفه "اجتهد في تحري الحقيقة من واقع الممارسة العملية"، وعَضَّد رأي المؤلف في أن ما كُتب عن النظام الخاص من أناس لم يكونوا منه إنما شَابَهُ الخطأ والنسيان.

وهذا الكتاب لم يكن فقط مجرد رحلته هو منذ تعرفه على الإخوان وحتى انكشاف أمر النظام الخاص في حادثة الجيب الشهيرة (1948م). بل كان كتابا تتلخص فيه رسالة الجهاد التي حملها الإخوان المسلمون، بدأه بمقدمة طويلة نوعا ما عن "الجهاد فطرة وشرعا"، ما كاد فيها يتحدث عن نشأته في قرية من قرى محافظة الشرقية والفطرة السليمة التي تسود القرى حتى بدا كأن حديث الجهاد جذبه من الحديث عن نفسه فانطلق يذكر الآيات والأحاديث وضرورة الجهاد للأمم والشعوب لا سيما الشعوب المحتلة كمصر (وقت الاحتلال الإنجليزي).

كان منزل الأستاذ الصباغ الذي نشأ فيه هو المنزل المجاور لمنزل الزعيم المصري الكبير أحمد عرابي الذي عرفت به "الثورة العرابية"، ولا شك أن سيرة عرابي الملهمة كان لها أثر بعيد في نفس الفتى الذي شب على حب الجهاد.

تدرج محمود الصباغ في العمر حتى دخل الإخوان على يد مصطفى مشهور، ولم يدخلها إلا حين علم أنها ليست كالجماعات والأحزاب الأخرى التي يسمح لها الإنجليز بالحركة لأنهم يضمنون أن كل كلامها عن مقاومة الاحتلال ليس إلا شعارات فحسب، ثم دخل النظام الخاص.

لم يكن النظام الخاص مجرد تشكيل عسكري، بل كان في الحقيقة جهاز مخابرات، ولذا كان اختيار أفراده يتم بدقة بالغة بعدما تتحقق الشروط التي تثبت تمتع هذا العضو بالمهارات المطلوبة بدنيا وعقليا وكذلك بالتربية الإيمانية التي تجعله مسلما ذا رسالة!

وعرض الصباغ لقضية السيارة الجيب التي كان انكشافها حدثا هائلا في ذلك الوقت، واهتم الصباغ بأمر القضية وعرض لنصوص الشهادات والوثائق والأحكام الصادرة، ذلك أن النظام الخاص ظل منذ بدأ وحتى لحظة كتابة هذه السطور مدخلا لمن أراد الطعن في الإخوان ورسالتهم، وهو في الحقيقة مفخرة حقيقية تشرف كل من انتمى لهذه الجماعة بل تشرف كل من انتمى لهذا الوطن وكان من أهله الأصلاء لا العملاء للغرب وحكوماته.

***

"التصويب الأمين لما كتبه القادة السابقون عن التنظيم الخاص للإخوان المسلمين"

وهذا هو الكتاب الثاني للأستاذ محمود الصباغ، وفيه كان يقوم بمهمتين في وقت واحد: يستكمل تأريخه للنظام الخاص للإخوان، ويرد كذلك على ما كتب في شأنه من القادة السابقين للإخوان الذين كتبوا مذكراتهم وتعرضوا فيها للنظام الخاص.

هذا الكتاب هو الذي تواطأ الجميع على إغفاله، كما تواطأ الجميع على إظهار الكتاب الأول "حقيقة التنظيم الخاص"، والسبب –كما ذكرنا- أنه كان تأريخا واضحا جليا دقيقا يذكر الأسماء ويحمل المسؤوليات ويثبت بالدليل أن المسار الذي يتخذه الإخوان للتأريخ للفتنة والعلاقة مع عبد الناصر وتحميل المسؤولية للنظام الخاص وقيادته إنما هو مسار باطل، يستهدف تبرئة أقوام وإدانة آخرين!

يفسر الإخوان كل ما نزل بهم بأخطاء عبد الرحمن السندي وقيادة النظام الخاص، وفي البال منذ أمد أن أكتب "دفاعا عن المجاهد الكبير عبد الرحمن السندي" (اسأل الله أن يرزقنا الهمة)، على حين أن تتبع مسار الأحداث يضع الخطأ والمسؤولية عند القيادة السياسية المتمثلة في المرشد الثاني حسن الهضيبي، وبعض ممن معه مثل حسين كمال الدين مسؤول المكتب الإداري للقاهرة، وصلاح شادي وحسن العشماوي (ضابط الاتصال بين الإخوان وعبد الناصر) وعلى حين مات الهضيبي وكمال الدين قبل أن يكتبا، إلا أن صلاح شادي كتب "حصاد العمر" الذي حاول فيه تبرئة نفسه وإلصاق التهمة بالنظام الخاص وعبد الرحمن السندي، وأما حسن العشماوي فقد كتب كتابيه (الأيام الحاسمة وحصادها) و(مذكرات هارب) شرح فيها الواقع واعترف من طرف خفي بأنه كان ممن خدعهم عبد الناصر!

جاء كتاب محمود الصباغ متميزا على أكثر من مستوى:

أولا: مستوى التأريخ، وقد كان الكتاب كسابقه نموذجا في الدقة والتماسك والوضوح، ولئن اتهمه البعض بالتكرار والإطالة إلا أن هذا كان في صالح الكتاب وصالح القارئ الذي لم يعايش تلك الفترات ولا يفهم بعضا من تفاصيلها، كما أن المؤلف كان مضطرا للتكرار في الرد لأن الشبهة نفسها تكررت في الطرح في أكثر من كتاب.

ثانيا: مستوى التحليل، وذلك في شأن الأحداث التي لم يكن شاهدا عليها، فكان يربط ببراعة بين المعلومات المتناثرة والمواقف المختلفة ليخرج بتحليل متميز ورؤية متماسكة عن سير الأحداث.. ولا يخشى المؤلف في حالة ما لم يتوصل إلى نتيجة مؤكدة أن يترك المعلومات أمام القارئ معلنا أن هذا هو غاية جهده، وللقارئ أن يحكم.

ثالثا: مستوى المراجعة: إذ عرض المؤلف هذا الكتاب على رفاقه الذين كانوا طرفا في الأحداث مثل الأستاذ أحمد عادل كمال والأستاذ مصطفى مشهور وغيرهما، ونشر في كتابه رد أحمد عادل كمال ثم تعقيبه على هذا الرد، وجرت بينه وبين مصطفى مشهور سلسلة من الخطابات كاد أن ينشرها لولا أن طلب منه مشهور عدم نشرها، فقد كانت وجهة نظر مشهور كغيره ممن كتبوا في تاريخ الجماعة أنه "لا داعي للخوض في تاريخ الفتنة"!

على كل حال لا يهمنا كثيرا اختفاء ما كتبه مصطفى مشهور، ذلك أن دقة وأمانة محمود الصباغ قد شهد بهما مشهور نفسه في تقديمه للكتاب الأول "حقيقة التنظيم الخاص".

***

عاش الأستاذ الصباغ بعد خروجه من الإخوان في أزمة الخمسينيات وهو أقرب إلى المجهول، اللهم إلا بعض لقاءات في الصحافة والأفلام الوثائقية التي تناقش تاريخ الإخوان المسلمين ونظامهم الخاص، وهذه المجهولية التي عانى منها الأستاذ الصباغ لا تعيبه بقدر ما تعيب من غفلوا عنه وأغفلوه، فلم يتذكروه إلا حين فاضت روحه إلى بارئها في (13/9/2011)..

نشر في المركز العربي للدراسات والبحوث

هناك 4 تعليقات: