الجمعة، سبتمبر 30، 2011

رحيل المجاهد المؤرخ محمود الصباغ

مائة عام إلا سبع سنوات..

هكذا عَمَّر الرجل الفذ على هذه الأرض، قضى شبابه مجاهدا، ثم جاءته الأيام بما لا يحتسب، فترك للتاريخ كتابين كشفا عن ذاكرة قوية وذهن حاضر، وأهم من هذا وذاك، كشفا عن صدق وتجرد للحق وإن خالف فيه الأصحاب والأحباب والناس جميعا..

***

في مثل هذا المكان قبل شهرين كتبتُ عن مؤرخ الفتوحات الإسلامية أحمد عادل كمال، والآن أكتب عن رفيقه الأستاذ محمود الصباغ، رفيقه في النظام الخاص للإخوان المسلمين، ورفيقه في المحنة التي انتهت بفصلهما من جماعة الإخوان المسلمين في بداية الخمسينات إبان الأزمة الشهيرة مع مكتب الإرشاد، وهو رفيقه أيضا في التأريخ للنظام الخاص.

ما لم أذكره عن أحمد عادل كمال في المقال السابق هو أنه مضى في تأريخه للنظام الخاص للإخوان المسلمين في كتاب (النقط فوق الحروف) على غير طريقة المؤرخ، بل سلك فيها طريق الداعية!

ذلك هو العيب الوحيد الذي أنتقده على الأستاذ الكبير الفذ أحمد عادل كمال، ذلك أن طريقته هذه وإن كان غرضها حسنا حميدا يتمثل في "إخماد الفتنة" فإنها أخفت عن جيلنا الحالي حقيقة التاريخ الذي حدث في تلك الفترة، وحقيقة الأدوار والأسماء والمسؤوليات، وبالتالي خفي علينا الدرس الذي يجب أن نتعظ به في مستقبلنا وحياتنا الحاضرة..

إن جزءا كبيرا من أزمة الإخوان المسلمين اليوم أنهم لا يعرفون على وجه التحديد كيف أمكن لعبد الناصر أن يلعب بقيادتهم قبل نصف قرن حتى أوردهم السجون والمهالك، ولا يعرفون كم كانت قيادتهم في ذلك الوقت تحفل بعيوب جسيمة في الإدارة والتنظيم والقرارات جعلها مليئة بالثغرات التي استطاع الأعداء النفاذ منها.. وهذه الأزمة تتجلى في أن قياداتهم حتى هذه اللحظة لم تكتب تاريخ تلك الفترة بالوضوح والجلاء والصراحة التي ينبغي أن يكتب بها التاريخ! لذا تراهم اليوم على تردد وارتباك في العلاقة مع المجلس العسكري في مصر، ونسأل الله ألا يأتي اليوم الذي يتكرر فيه ما كان قبل نصف قرن، وهو إلى هذه اللحظة مشهد يعيد نفسه بدقة مدهشة!!

***

لولا الأستاذ محمود الصباغ لظل تاريخ هذه الفترة مجهولا بالنسبة للباحثين في تاريخ الإخوان المسلمين، ولهذا فإن فضله هو فضل الرائد المتميز الذي كشف أمرا تواطأ الجميع على إخفائه، ولئن كان إخفاؤهم هذا بحسن نية إلا أنه برأيي خطأ غير مقبول على الإطلاق!

"حقيقة التنظيم الخاص ودوره في دعوة الإخوان المسلمين"

هذا هو الكتاب الأول للأستاذ محمود الصباغ، وهو أوثق ما كتب على الإطلاق في تاريخ النظام الخاص للإخوان المسلمين، لم يكتب مثله ولا يُتوقع أن يكتب مثله، فالرجل كان واحدا من قيادات الهيئة العليا للنظام الخاص.

وقد قَدَّم للكتاب المرشد الخامس للإخوان المسلمين مصطفى مشهور، وقد شهد بأن مؤلفه "اجتهد في تحري الحقيقة من واقع الممارسة العملية"، وعَضَّد رأي المؤلف في أن ما كُتب عن النظام الخاص من أناس لم يكونوا منه إنما شَابَهُ الخطأ والنسيان.

وهذا الكتاب لم يكن فقط مجرد رحلته هو منذ تعرفه على الإخوان وحتى انكشاف أمر النظام الخاص في حادثة الجيب الشهيرة (1948م). بل كان كتابا تتلخص فيه رسالة الجهاد التي حملها الإخوان المسلمون، بدأه بمقدمة طويلة نوعا ما عن "الجهاد فطرة وشرعا"، ما كاد فيها يتحدث عن نشأته في قرية من قرى محافظة الشرقية والفطرة السليمة التي تسود القرى حتى بدا كأن حديث الجهاد جذبه من الحديث عن نفسه فانطلق يذكر الآيات والأحاديث وضرورة الجهاد للأمم والشعوب لا سيما الشعوب المحتلة كمصر (وقت الاحتلال الإنجليزي).

كان منزل الأستاذ الصباغ الذي نشأ فيه هو المنزل المجاور لمنزل الزعيم المصري الكبير أحمد عرابي الذي عرفت به "الثورة العرابية"، ولا شك أن سيرة عرابي الملهمة كان لها أثر بعيد في نفس الفتى الذي شب على حب الجهاد.

تدرج محمود الصباغ في العمر حتى دخل الإخوان على يد مصطفى مشهور، ولم يدخلها إلا حين علم أنها ليست كالجماعات والأحزاب الأخرى التي يسمح لها الإنجليز بالحركة لأنهم يضمنون أن كل كلامها عن مقاومة الاحتلال ليس إلا شعارات فحسب، ثم دخل النظام الخاص.

لم يكن النظام الخاص مجرد تشكيل عسكري، بل كان في الحقيقة جهاز مخابرات، ولذا كان اختيار أفراده يتم بدقة بالغة بعدما تتحقق الشروط التي تثبت تمتع هذا العضو بالمهارات المطلوبة بدنيا وعقليا وكذلك بالتربية الإيمانية التي تجعله مسلما ذا رسالة!

وعرض الصباغ لقضية السيارة الجيب التي كان انكشافها حدثا هائلا في ذلك الوقت، واهتم الصباغ بأمر القضية وعرض لنصوص الشهادات والوثائق والأحكام الصادرة، ذلك أن النظام الخاص ظل منذ بدأ وحتى لحظة كتابة هذه السطور مدخلا لمن أراد الطعن في الإخوان ورسالتهم، وهو في الحقيقة مفخرة حقيقية تشرف كل من انتمى لهذه الجماعة بل تشرف كل من انتمى لهذا الوطن وكان من أهله الأصلاء لا العملاء للغرب وحكوماته.

***

"التصويب الأمين لما كتبه القادة السابقون عن التنظيم الخاص للإخوان المسلمين"

وهذا هو الكتاب الثاني للأستاذ محمود الصباغ، وفيه كان يقوم بمهمتين في وقت واحد: يستكمل تأريخه للنظام الخاص للإخوان، ويرد كذلك على ما كتب في شأنه من القادة السابقين للإخوان الذين كتبوا مذكراتهم وتعرضوا فيها للنظام الخاص.

هذا الكتاب هو الذي تواطأ الجميع على إغفاله، كما تواطأ الجميع على إظهار الكتاب الأول "حقيقة التنظيم الخاص"، والسبب –كما ذكرنا- أنه كان تأريخا واضحا جليا دقيقا يذكر الأسماء ويحمل المسؤوليات ويثبت بالدليل أن المسار الذي يتخذه الإخوان للتأريخ للفتنة والعلاقة مع عبد الناصر وتحميل المسؤولية للنظام الخاص وقيادته إنما هو مسار باطل، يستهدف تبرئة أقوام وإدانة آخرين!

يفسر الإخوان كل ما نزل بهم بأخطاء عبد الرحمن السندي وقيادة النظام الخاص، وفي البال منذ أمد أن أكتب "دفاعا عن المجاهد الكبير عبد الرحمن السندي" (اسأل الله أن يرزقنا الهمة)، على حين أن تتبع مسار الأحداث يضع الخطأ والمسؤولية عند القيادة السياسية المتمثلة في المرشد الثاني حسن الهضيبي، وبعض ممن معه مثل حسين كمال الدين مسؤول المكتب الإداري للقاهرة، وصلاح شادي وحسن العشماوي (ضابط الاتصال بين الإخوان وعبد الناصر) وعلى حين مات الهضيبي وكمال الدين قبل أن يكتبا، إلا أن صلاح شادي كتب "حصاد العمر" الذي حاول فيه تبرئة نفسه وإلصاق التهمة بالنظام الخاص وعبد الرحمن السندي، وأما حسن العشماوي فقد كتب كتابيه (الأيام الحاسمة وحصادها) و(مذكرات هارب) شرح فيها الواقع واعترف من طرف خفي بأنه كان ممن خدعهم عبد الناصر!

جاء كتاب محمود الصباغ متميزا على أكثر من مستوى:

أولا: مستوى التأريخ، وقد كان الكتاب كسابقه نموذجا في الدقة والتماسك والوضوح، ولئن اتهمه البعض بالتكرار والإطالة إلا أن هذا كان في صالح الكتاب وصالح القارئ الذي لم يعايش تلك الفترات ولا يفهم بعضا من تفاصيلها، كما أن المؤلف كان مضطرا للتكرار في الرد لأن الشبهة نفسها تكررت في الطرح في أكثر من كتاب.

ثانيا: مستوى التحليل، وذلك في شأن الأحداث التي لم يكن شاهدا عليها، فكان يربط ببراعة بين المعلومات المتناثرة والمواقف المختلفة ليخرج بتحليل متميز ورؤية متماسكة عن سير الأحداث.. ولا يخشى المؤلف في حالة ما لم يتوصل إلى نتيجة مؤكدة أن يترك المعلومات أمام القارئ معلنا أن هذا هو غاية جهده، وللقارئ أن يحكم.

ثالثا: مستوى المراجعة: إذ عرض المؤلف هذا الكتاب على رفاقه الذين كانوا طرفا في الأحداث مثل الأستاذ أحمد عادل كمال والأستاذ مصطفى مشهور وغيرهما، ونشر في كتابه رد أحمد عادل كمال ثم تعقيبه على هذا الرد، وجرت بينه وبين مصطفى مشهور سلسلة من الخطابات كاد أن ينشرها لولا أن طلب منه مشهور عدم نشرها، فقد كانت وجهة نظر مشهور كغيره ممن كتبوا في تاريخ الجماعة أنه "لا داعي للخوض في تاريخ الفتنة"!

على كل حال لا يهمنا كثيرا اختفاء ما كتبه مصطفى مشهور، ذلك أن دقة وأمانة محمود الصباغ قد شهد بهما مشهور نفسه في تقديمه للكتاب الأول "حقيقة التنظيم الخاص".

***

عاش الأستاذ الصباغ بعد خروجه من الإخوان في أزمة الخمسينيات وهو أقرب إلى المجهول، اللهم إلا بعض لقاءات في الصحافة والأفلام الوثائقية التي تناقش تاريخ الإخوان المسلمين ونظامهم الخاص، وهذه المجهولية التي عانى منها الأستاذ الصباغ لا تعيبه بقدر ما تعيب من غفلوا عنه وأغفلوه، فلم يتذكروه إلا حين فاضت روحه إلى بارئها في (13/9/2011)..

نشر في المركز العربي للدراسات والبحوث

السبت، سبتمبر 17، 2011

مراقبة الطبيب في الحضارة الإسلامية

واحدة من أبرز الأزمات التي يعانيها الجيل المسلم الحاضر هو جهله بتاريخ حضارته، كثيرون يندهشون إذا عَلِموا أن المسلمين هم من عَلَّموا أوروبا النظافة، وإذا علموا أن شوارع الأندلس هي الوحيدة التي كانت تضاء ليلا في كل أوروبا، وأن المسلمين اكتشفوا العدوى قبل أوروبا بأكثر من ثمانية قرون، وغير هذا كثير..

إن هذا يكشف عن أمرين: أصالة الأمة التي تنحاز إلى هويتها وحضارتها حتى وهي لا تعرف عنها إلا النزر اليسير، وعن مسؤولية الباحثين في التاريخ والحضارة الإسلامية في كشف المزيد من صفحات هذه الحضارة الزاهرة، فبها يؤمن من كان لا يعلم، ويزداد الذين آمنوا إيمانا.

في السطور القادمة نرصد بعضا من إنجاز الحضارة الإسلامية في مجال الطب، وبالأخص في مجال مراقبة المهنة وتنظيم شؤونها والعاملين فيها.

***

منذ القرن الثالث الهجري ابتكر المسلمون نظام الشهادة الطبية التي تجيز للطبيب ممارسة المهنة، وكان أول من ابتكر "نظام الإجازة" هو سنان بن ثابت، فقد طلب الخليفة العباسي المعتضد (ت 279هـ) من سنان بن ثابت رئيس الأطباء امتحان جميع الأطباء ببغداد، وكانوا حوالي 860 طبيبًا، وأمر المُحْتَسِب[1] بعدم السماح لطبيب أن يُمارس مهنته إلا بعد اجتياز الامتحان[2]!

إلا أن أصول هذه "الإجازة الطبية" موجود من قبل هذا القرار؛ إذ يتحدث الطبيب الشامي علي بن إسحاق الرهاوي في كتابه "أدب الطبيب" –الذي ألفه في القرن الثالث الهجري- عن ضرورة أن يستوثق المريض من الطبيب "هل أخذ نفسه بالقبول من أفاضل صنعته؟ وهل هو ملتزمٌ واجباته ومُنْتَهٍ عما يَنهى عنه"[3].

وكان لكل تخصص طبي كتاب يُمْتَحَن فيه الطالب، فإذا استوعب الطالب تخصصه أُجيز وأخذ الشهادة بذلك، وهذه الصورة من إجازة ابن النفيس لتلميذه المسيحي أبو الفضل بن أبي الحسن في طب العيون كانت في استيعابه كتاب أبقراط في هذا التخصص:

"بحث معي الشيخ الحكيم العالم الفاضل شمس الدولة أبو الفضل بن الشيخ أبي الحسن المسيحي أدام الله سعادته جميع كتابي هذا، وهو شرح كتاب الإمام أبقراط، وهو كتابه المعروف بطبيعة الإنسان كما دلَّ على صفاء ذهنه واستقامة من خاطره والله تعالى ينفعه وينفع به. كتب الفقير إلى الله تعالى علي بن أبي الحزم القرشي المتطبب حامدا لله على نعمه ومُصًلِّيًا على خير أنبيائه محمد وآله مسلما. وذلك في التاسع والعشرين من جمادى الأولى سنة ثمان وستين وستمائة"[4].

***

كانت الرقابة على الأطباء من مهمات مؤسسة الحسبة، وذكر المؤلفون في أمر الحسبة ما ينبغي على المحتسب أن يتابعه في أمر الأطباء:

1. كان امتحان الأطباء الجدد يتم تحت إشراف المحتسب، فمن وجده مقصِّرًا في علمه أمره بزيادة الدراسة، وأوقفه عن مزاولة التطبيب لحين ثبوت أهليته بعد اختبار جديد.

2. أما من تثبت أهليتهم يُقْسِمون القَسَم الطبي أمام المحتسب.

3. يُكَلَّف الطبيب بأن يكتب دواءه للمريض كتابةً يحتفظ بها أهله، وإذا ساءت حالة المريض أو تُوُّفي كان لأهل المريض أن يرجعوا بالرُّقَع التي كُتِب عليها الدواء إلى شيخ صناعة الطب فإن كانت على مقتضى ما يقول به العلم كانت الوفاة قضاء وقدرا، وإن كانت على خلاف ذلك كان لأهل المريض مطالبة الطبيب بِدِيِّة المتوفى بسبب سوء صناعته وإهماله.

4. يشرف المحتسب على أعمال الأطباء والصيادلة وسلوكهم المهني.

5. يراقب المحتسب الأدوات الطبية التي يستعملها الطبيب.

6. والمحتسب هو الذي يتصدى لمن يمارس الطب دون علم أو خبرة[5].

وتكشف لنا كتب الحسبة عن حرص عالٍ، وحساسية مرهفة في متابعة أمر الأطباء، ونسوق كمثال على هذا ما كتبه عبد الرحمن بن نصر الشيزري مؤلف "نهاية الرتبة الظريفة في طلب الحسبة الشريفة" حين عرض لبعض الأمور التي ينبغي للجراحين أن يلتزموا بها، وعلى أساسها يقوم عمل المُحْتسِب في مراقبة أعمالهم.

وسنرى في هذه الفقرة التي ننقلها من كلامه عنايته بالجراح، مهارة أنامله، وقوة بصره، ثم استئذان أولياء المريض إن كان قاصرا، وضرورة أن يكون الأمر مستدعيا للجراحة، وضرورة أن تتم الجراحة في الوقت المناسب من حيث الأجواء القائمة واستعداد جسد المريض، وتجهيزات المكان من حيث الإضاءة القوية، وكذلك الحالة النفسية للجراح نفسه، وطبيعة المشرط المستعمل في الجراحة، ثم الاحتياطات والأدوات التي ينبغي على الطبيب استحضارها في حال الجراحة، والحالات التي يمنع فيها الجراحة، والحالات التي يحذر فيها إجراء الجراحة، وكيفية إمساك المشرط بحيث يكون متمكنا منه مسيطرا على حركته بدقة..

يقول:

"لا يتصدى للفصد[6] إلا من اشتهرت معرفته بتشريح الأعضاء والعروق والعضل والشرايين، وأحاط بمعرفة تركيبها وكيفيتها، لئلا يقع المبضع (المشرط) في عِرْقٍ غير مقصود أو في عضلة أو شريان، فيؤدي إلى زمانة[7] العضو وهلاك المقصود؛ فكثيرٌ هلك من ذلك.

ومن أراد تعلم الفصد فليدمن فصد ورق [نبات] الشلق -أعني العروق التي في الورقة- حتى تستقيم يده، وينبغي للفاصد أن يمنع نفسه من عمل صناعة مُهِينة، تُكْسِب أنامله صلابة وعُسْر حِسٍّ، لا يتأتى معها نبش العروق؛ وأن يراعي بصره بالأكحال المقوية له والأيارجات، إن كان ممن يحتاج إليها؛ وألا يفصد عبدا إلا بإذن مولاه، ولا صبيا إلا بإذن وليه، ولا حاملا ولا طامثا (أي امرأة في وقت الحيض)؛ وألا يفصد إلا في مكان مضيء وبآلة ماضية (أي: مشرط حاد)؛ وألا يفصد وهو منزعج الجنان (أي: مضطرب أو غاضب).

وبالجملة ينبغي للمحتسب أن يأخذ عليهم العهد والميثاق ألا يفصدوا في عشرة أمزجة (أي: حالات)، وليحذروا فيها حذرا، إلا بعد مشاورة الأطباء، وهي: في السن القاصر عن الرابع عشر، وفي سن الشيخوخة، وفي الأبدان الشديدة القضافة (أي: الأجساد النحيفة)، وفي الأبدان الشديدة السمن، وفي الأبدان المتخلخلة، وفي الأبدان البيض المُرَهلة، وفي الأبدان الصُفْر العديمة الدم (أي: المصابة بفقر الدم)، وفي الأبدان التي طالت بها الأمراض، وفي المزاج الشديد البرد، وعند الوجع الشديد؛ فهذه الأحوال يجب أن تكشف على الفاصد عند وجودها.

وقد نهت الأطباء عن الفصد في خمسة أحوال أيضا، ولكن مضرته دون مضرة العشرة المتقدم ذكرها؛ فالحالة الأولى الفصد عقيب الجماع، وبعد الاستحمام المحلل، وفي حال الامتلاء من الطعام، وفي حالة امتلاء المعدة والأمعاء من الثقل، وفي حالة شدة البرد والحر ؛ فهذه أحوال يتوقى الفصد فيها أيضا.

واعلم أن الفصد له وقتان: وقت اختيار ووقت اضطرار، فأما وقت الاختيار، فهو ضحوة نهار بعد تمام الهضم والنقص، وأما وقت الاضطرار فهو الوقت الموجب الذي لا يتسع تأخيره، ولا يلتفت فيه إلى سبب مانع.

وينبغي للمفتصد ألا يمتلئ من الطعام بعده، بل يتدرج في الغذاء ويلطفه؛ ولا يرتاض بعده، بل يميل إلى الاستلقاء؛ ويحذر النوم عقيب الفصد ؛ فإنه يحدث انكسارا في الأعضاء؛ ومن افتصد وتورمت عليه اليد افتصد في اليد الأخرى، بمقدار الاحتمال.

وينبغي أن يكون مع الفاصد مباضع كثيرة، من ذوات الشعيرة وغيرها (أي مختلفة الأحجام والمقاسات)؛ وأن يكون معه كبة من حرير أو خز، أو شيء من آلة القيء، من خشب أو ريش، وينبغي أن يكون معه وبر الأرنب، ودواء الصبر والكندر، وصفته أن يؤخذ من الكندر والصبر والمر ودم الأخوين، من كل واحد جزء، ومن القلقطار والزاج من كل واحد نصف جزء؛ ويجمع الجميع، ويعمل كالمرهم ؛ ويرفعه عنده لوقت الحاجة إليه، وينبغي أن يكون معه نافجة مسك وأقراص المسك، ويعتد بجميع ما ذكرناه، حتى إذا عرض للمفصود غشي بادر فألقم الموضع كبة الحرير، وألقمه بآلة القيء، وشممه النافجة، وجرعه من أقراص المسك شيئا، فتنعش قوته بذلك، وإن حدث فتوق (نزيف) دم، من عرق أو شريان، حشاه بوبر الأرنب ودواء الكندر المذكور.

ولا يضرب [الفاصد] بمبضع كال (أي: غير حادٍ)، فإنه كبير المضرة؛ لأنه يخطئ فلا يلحق العِرْق، فيورم ويوجع، وليمسح رأس مِبْضَعِه (المشرط) بالزيت، فإنه لا يوجع عند البضع، غير أنه لا يلتحم سريعا.

وإذا أخذ المبضع فليأخذه بالإبهام والوسطى، ويترك السبابة للجَسّ؛ ويكون الأخذ على نصف المبضع، ولا يكون فوق ذلك، فيكون التمكن منه مضطربا، ولا يدفع المبضع باليد غمزا، بل يدفع بالاختلاس، ليوصل طرف المبضع حشو العروق.

ومتى تغير لون الدم، أو حدث غشي (إغماء) وضعف في النبض، فليبادر [الفاصد] إلى شد العِرْق ومسكه"[8].

ومضى الشيزري في شرح أنواع العروق وطريقة العمل في كل منها، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الكتاب نفسه، وإنما كان القصد بيان الدرجة التي وصل إليها أمر متابعة الطبيب والرقابة على عمله في الحضارة الإسلامية التي جُهِلت بأثر من التغريب، وتيارات الغزو الفكري، والإعلام الذي لم ينتم إلى الأمة وهويتها حتى الآن، واستبداد جثم على الأمة قرونا حتى أنزلها من مكانتها إلى حيث صارت ثم عمل على إلحاقها بعدوها في مقام التابع وقد كانت في مقام القائد.

نشر في: المركز العربي للدراسات والأبحاث



[1] المحتسب: هو موظف الرقابة، والحسبة هي نظام إسلامي فريد في مراقبة الأنشطة المختلفة في المجتمع الإسلامي.

[2] ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، تحقيق عامر النجار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001م. 1/112.

[3] فاضل السباعي: أدب العليل عند الرهاوي وابن زهر، مجلة آفاق الثقافة والتراث، عدد 6، سبتمبر 1994، ص52، وهو ينقل عن مخطوطة الكتاب.

[4] د. محمد فؤاد الذاكري: وثيقة عن التعليم الطبي في الحضارة الإسلامية، مجلة آفاق الثقافة والتراث، عدد 13، يونيو 1996. ص61، 62. وهو ينقلها عن المكتبة الطبية الأمريكية (National Library of Medicine Bethesda, Meryland) وتحمل الوثيقة رقم NLM MS A69

[5] السابق.

[6] الفصد: هو شق العرق لإخراج الدم الفاسد من جسد المريض.

[7] الزمانة: هو المرض الذي يطول، ومنه أخذ تعبير المرض المزمن.

[8] الشيزري: نهاية الرتبة في طلب الحسبة، إشراف: محمد مصطفى زيادة، لجنة التأليف والنشر، القاهرة، 1356هـ = 1946م. ص89 – 92.

الاثنين، سبتمبر 12، 2011

نحو تصحيح حقيقي لمسار الثورة المصرية

كنت من الإسلاميين الذين قاطعوا هذه الجمعة، رغم أن موقفي المستمر كان هو النزول والتظاهر بل والاعتصام حتى إعلان جدول زمني لتسليم السلطة، وكنت أتمنى أن ينزل الإسلاميون بثقلهم فيها ليضبطوها وليحافظوا على حالة الزخم الثوري التي إن تراجعت فإن الثورة تكون قد تحولت إلى حكم عسكري جديد، لكن وحيث أن هذا لم يتحقق وتم نشوء الاستقطاب بين الإسلاميين والآخرين، فكان قرار المقاطعة بنظري هو الأصوب..

الفقرة السابقة ليست إلا للتوضيح، وأرجو ألا يدور حولها نقاش، فالأمر كان وانتهى، ونحن الآن نعيش توابعه.

فيما يخص هذه التوابع، أزعم أنه لا ينبغي البحث عن تحليل الحدث بقدر ما ينبغي البحث عن خريطة الفاعلين ومراتبهم ومصالحهم، الأمر جد بسيط ويفهمه كل الناس إلا جبان أو جبان يرى نفسه حكيما أو رجل يدعي الحكمة لتبرير جبنه، ولنكن صرحاء..

قصة الذرائع هذه قصة فاشلة من أولها إلى آخرها.. إن من يملك القوة والقدرة على التصرف يملك أن يحقق مصالحه، بذريعة وبغير ذريعة، وإن احتاج للذريعة فهو يدبرها لينفذ منها إلى مصالحه وأهوائه.

فمهما اجتهد الضعيف في السكوت والانسحاب لئلا تُحسب عليه النقاط وتُنسب إليه تهمة تفجير الوضع وتضييع الحل ونسف المسار، مهما اجتهد فهو لا ينجح.. انظروا إلى الفاشلين في عصابة رام الله كيف غرقوا في العمالة لإسرائيل تحت عنوان سحب الذرائع فلا هم بلغوا منها شيئا ولا هي توقفت عن حصاد النقاط مهما بلغت صورتها من الوحشية.. ولماذا نذهب صوب رام الله؟ دعنا نتحدث هنا عن الإخوان الذين بذلوا خطابا مائعا هلاميا بل هو في بعضه خطاب تجاوز الثوابت ودخل في الشذوذ الفقهي والفكري، وما رضي عنهم العلمانيون بل ما زادوهم إلا رهقا.. انظر على الجهة الأخرى كيف يتألق الخطاب الواضح للشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل.

المعنى المقصود، أن من يملك الفعل هو من يملك تسخير كل حدث لمصلحته، سواء كان هذا الحدث يصب في مصلحته بطبيعة الحال أم يبدو لأول مرة وكأنه عكس المصلحة..

حسنا، أخطأ الجميع حين ترك الميدان ثقة في العسكر ليلة خلع المخلوع غير المأسوف عليه، إلا أن الخطأ الأكبر كان في الاطمئنان إلى العسكر الذين لم يبذلوا شيئا مفيدا على مسار التحول الديمقراطي حتى لحظة كتابة هذه السطور (مساء الأحد 11/9/2011)، بل ولا بذلوا شيئا على مسار إنهاء النظام القديم إلا تحت ضغط المليونيات وبكل الرقة والرأفة والتباطئ الممكن (لو أحسنا الظن بهم).. لقد ارتكب العسكر خطأ وحيدا وتعلموه جيدا ولم يكرروه، ذلك أنهم عهدوا بالتعديلات الدستورية إلى لجنة وطنية حقيقية، فصنعت لهم هذه اللجنة مسارا محكما للتحول الديمقراطي لا يزال يمثل لهم العقبة الأصعب في طريق استيلائهم على السلطة.. من بعدها يفضل العسكر الاستعانة بالشخصيات الفاسدة من النظام السابق أو الشخصيات الضعيفة التي تستعمل في المهمات القذرة فيتسلط عليها الهجوم ثم تلقى عند أول ضغط حقيقي (وما يحيى الجمل منكم ببعيد).

دعونا من الماضي.. لنبقى في اللحظة الحاضرة ولحظة المستقبل..

لم أرتح أبدا للجمعة الماضية، البرادعي (من مكان ما) يحذر من حرب أهلية، عمر عفيفي (من أمريكا) يحذر من ثورة غير سلمية، نشطاء (من تويتر) يرددون ذات الكلام.. الاستعانة بالألتراس الذي يجيد شغب الملاعب لأول مرة.. المشهد مريب، وبعد ساعات تحولت الريبة إلى يقين!

الداخلية اتهمت أصابع خارجية، و6 إبريل اتهمت أبناء مبارك، وكلها اتهامات لا قيمة لها أطلقت بدون تحقيق ولا أدلة.. الإسلاميون كانوا الأسلم بمقاطعتهم لهذه الجمعة (بيان الإخوان والدعوة السلفية بشأن المقاطعة أكثر من ممتاز)..

حسنا، إذا كان الأمر أمر أصابع خارجية، فإن الخيانة الوطنية تكمن في تحقيق طلبات الخارج وتأجيل الانتخابات البرلمانية (المؤجلة أصلا)، وإن كان الأمر أمر قلة مندسة فالخيانة الوطنية تكمن في تعليق مسار التحول الديمقراطي بسبب القلة المندسة، وإن كان الأمر أمر خلاف بين القوى السياسية، فالحقيقة التي يعلمها الجميع أن القوى السياسية الحقيقية قد قاطعت هذه الجمعة بل وشاركت في التصدي لأعمال العنف (السلفيون حموا أقسام شرطة كانوا يُعذبون فيها.. لقطة وطنية لا يراها إعلام أعمى) وعليه، فالخيانة الوطنية تكمن في وقف الذهاب نحو الانتخابات حيث تستطيع الصناديق حسم الخلافات بالصورة الأكثر تحضرا.

غير أن الكلام لا يجدي ولا ينفع، وما لم يكن صاحب الحق ذا قوة فإنه سيموت قبل أن تفصل المحاكم في قضيته، ولئن حكمت له فإنه لن يأخذ حقا إلا بقوة.

المجلس العسكري إن كان وطنيا حقا فعليه أن يترك البلاد للشعب يقرر مصيرها، ولو فعلوها فإنهم سيدخلون التاريخ من أخلد أبوابه، فانتعاش مصر أمر سيحول مجرى تاريخ العالم كله خلال السنوات القادمة، أما إذا لم يكونوا يريدون فإنهم –بما يملكون من قوة- يستطيعون تسخير الأحداث لتخدم نيتهم في البقاء ونسف التحول الديمقراطي، ولو لم يجدوا ذريعة فإنهم –بما يملكون من سلطة- يستطيعون تدبيرها.. وليس هذا جديدا فقد فعلها عبد الناصر من قبل، عليه لعنة الله والتاريخ والمصريين والمتضررين أجمعين!

نحن في لحظة تاريخية فاصلة.. لحظة يمتلك فيها الشعب روحا ثورية تجعله طرفا في معادلة القوة أمام قوة الحاكم.. بعد فترة ستنتهي لحظة الزخم الثوري وسيعود الشعب مسالما كما كان (هذه حقائق كونية لا ينبغي أن يتغافلها أو يهرب منها أحد).. في هذه السنوات لو لم نكن أنجزنا التحول الديمقراطي فينبغي أن ننتظر الجيل بعد القادم أو الذي بعده في ثورة جديدة.. سنكون قد ذهبنا مصحوبين بلعناتهم ولعنات التاريخ أيضا!

واجب الوقت هو نزول كل القوى المخلصة إلى الشارع، التظاهر والاعتصام، حتى صدور جدول زمني لتسليم السلطة إلى سلطة مدنية منتخبة، وينبغي أن نستفيد من دروس الماضي فيتكون لهذا الاعتصام قيادة تستطيع أن تتفاوض باسمه مع المجلس العسكري.. ولا ينبغي القبول بجدول زمني مائع أو مهترئ أو ممطوط، وكل القوى السياسية –وفي القلب منها الإسلامية- تستطيع أن تضع كل قوتها في تأمين الانتخابات أو ما شاءوا من إجراءات ضرورية لهذا التحول الديمقراطي!

الإسلاميون قبل الجميع يجب أن يعلموا أنهم أبطال هذه اللحظة أو أنذالها، هم القوة الأكبر في هذه البلد، وهم القادرون على الحشد والتأثير والتجميع، وهم الذين لو فشلت هذه الثورة سيكونون أول ضحاياها (مثلما لو أنها فشلت في خلع المخلوع، لكانوا الآن في السجون أو في القبور).. إن اللقطة التاريخية الآن تشبه مثيلتها قبل نصف قرن إلى حد مدهش، إن أخطاء الهضيبي وعبد القادر عودة وآخرين (أثابهم الله على نواياهم) جعلت الحكم العسكري يتوحش في مصر ويُرْديها إلى العمالة للأمريكان والإسرائيليين.. فلو أن المشهد تكرر مرة أخرى، فنحن حقا قوم لا نستحق الحياة.. ويجب أن تتطهر منا هذه الأرض عسى الله أن يستبدل لها قوما آخرين!

نشر في شبكة رصد الإخبارية

السبت، سبتمبر 03، 2011

الإسلاميون والإعلام!

أنزل الله القرآن نورا وهدى، وفي أوقات الحيرة والالتباس التي تمر بها الأمة ينبغي على الحركة الإسلامية أن تكثف من استلهامها القرآن وقراءته وتدبره، فالقرار الصحيح في اللحظات الفارقة كنز لا يعرف قيمته إلا من أدخله قرار خاطئ في نفق التيه والظلام والحسرات عمرا مديدا!

***

بدأت فكرة هذا المقال من سورة طه، وبالتحديد من اللحظة الفارقة الكبرى التي قلبت حياة الصفوة من المصريين، حين رأى السحرة معجزة الله تذهب بسحرهم، فسجدوا وقد أعلنوا أنهم آمنوا برب هارون وموسى!

ستظل تلك اللحظة ملهمة لكل أجيال المؤمنين عبر التاريخ، فإيمان السحرة هو الإيمان الكبير الذي يتمناه كل مسلم، إيمان وُلِد كبيرا قويا متينا، لم يتردد في مواجهة فرعون العصر وطاغية الزمان، ولم يتردد في التضحية بالمكانة الكبرى والفريدة في المجتمع من الألقاب والتشريفات والرواتب، وانتهى إلى التعذيب الشديد، وما جاء آخر النهار إلا وكان قد تكلل بالشهادة.. فنعم الخاتمة خاتمة المؤمنين!

غير أن ثمة ما ينبغي أن يلفت النظر في ثنايا ذلك المشهد، ذلك أن السَّحَرَة ما إن رأوا معجزة الله فآمنوا حتى بدا أنهم مستوعبون تماما لرسالة موسى، يعرفون دقائقها وتفاصيلها، أولها وآخرها، عقباتها وثمراتها وجزاءها!.. اقرأ هذه الآيات وتأملها جيدا:

(فأُلقي السَّحَرَة سُجَّدًا * قالوا آمنا برب هارون وموسى * قال آمنتم له قبل أن آذن لكم؟! إنه لكبيركم الذي علمكم السحر، فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أيُّنا أشد عذابا وأبقى *

قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا، فاقض ما أنت قاضٍ، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا * إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر، والله خير وأبقى * إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى * ومن يأتِهِ مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا * جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وذلك جزاء من تزكى)

فلقد كان السحرة يستوعبون أمر الدعوة كاملا، الله وصفاته، وجهنم والجنة، والطريق إليهما.. ذلك حال أناس قد وصلتهم الدعوة كاملة، ووصلتهم الفكرة واضحة، وما كان بقي لهم إلا الإيمان القلبي لكي يدخلوا في زمرة المؤمنين.

من هنا نعلم ذلك المجهود الخارق الذي قام به موسى عليه السلام في توصيل الدعوة التي أرسل بها إلى الناس، رغم التضييق والتعتيم الفرعوني، حتى وصلت الدعوة إلى صفوة الطبقة المصرية التي كانت تقسم "بعزة فرعون"!!

وبديهي أن موسى لم يمر على سَحَرة القُطر المصري واحدا واحدا، وهم المنتشرون الذين جُمِعوا جَمْعًا بأمر الدولة من جميع المدائن حاشرين، كما أن مصر في تلك اللحظة كانت تمتد حتى منابع النيل جنوبا وحتى الأناضول شمالا، بخلاف مساحات من الشام كمدين وما إلى جوارها شرقا!

لا يأخذنا هذا إلا إلى استنتاج واضح، بأن موسى عليه السلام أنشأ جهازا إعلاميا لتبليغ الدعوة التي أُرسل بها، وأن هذا الجهاز قد نجح في مهمته خير نجاح، فأوصل الفكرة كاملة لمناطق كثيرة ولم يبق لكثيرين إلا أن يروا المُعْجِزة الدالة على صدق النبي ليصبحوا من المؤمنين!

هذا المجهود الإعلامي نراه في قصص الأنبياء جميعا، فقد ظل نوح يسعى في دعوة قومه ليلا ونهارا وسرا وجهارا حتى ما وجد القوم سبيلا لمقاومة الحق الذي يعذب ضمائرهم إلا أن (جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم).. أي تغطوا بثيابهم لكي لا يسمعوا كلامه، وانتهى بهم الموقف إلى أن (قالوا: يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين).

***

ليس الهدف في سياقنا الآن تتبع المجهود الإعلامي الذي قام به الأنبياء، فلعل هذا يكون في دراسة مستقلة، وإنما الهدف الإشارة إلى المجهود الذي بذله النبيون في تبليغ الدعوة إلى أقوامهم حتى لم يعد لهم من سبيل، فيؤمن من آمن على بينة، ويصدق فيمن لم يؤمن قول الله تعالى (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوًّا)..

ويكون المتحدثون باسم الدعوة على القدر الكافي من العلم والفصاحة معا، حتى لا يكاد يكون من سبيل لوقف تأثيرهم إلا كما قال مشركوا مكة من قبل (لا تسمعوا لهذا القرآن والْغَوْا فيه لعلكم تغلبون)، ذلك أن مجرد السماع كافٍ أن يدخل إلى القلوب بالحق فيدمغ ما فيها من الباطل! ولنا في قصة الطفيل بن عمرو الدوسي عبرة، إذ بلغت حملة التنفير والتحذير من محمد (صلى الله عليه وسلم) مداها حتى إنه في زيارته لمكة وضع في أذنيه قطنا لئلا يتسرب إلى سمعه ولو من غير قصد شئ مما يقوله محمد، ثم إنه احتقر نفسه وعقله عند هذا التصرف وعرف أنه مما لا يليق بمثله وهو العاقل الشاعر سيد قومه أن يخشى من كلام لا يعرفه، وما إن سمع كلام الحق حتى أسلم، ثم أسلمت من ورائه قبيلته.

على أنه يجب أن ننتبه أيضا إلى أن حملة التنفير والتحذير لم تفت في عضد الدعوة، بل استطاعت الدعوة الوصول إلى القلوب والأفئدة، داخل مكة أو في الطائف أو في الطواف على القبائل، وكان ثمة فدائيون إعلاميون –لو صح التعبير- مثل عبد الله بن مسعود، الذي على ضعفه ونحافته، قرر أن يجلس في صحن الكعبة حيث أهم منبر إعلامي في مكة ليتلو القرآن، ولم يُثْنِه عن هذه المهمة أنهم ضربوه في المرة السابقة!

***

لدينا نقص في الأموال والكفاءات.. نعم، ولكن ما ينقصنا أكثر هو الإرادة والعزم، ثم إن معنا الحق، ومعنا الله، ولا ينبغي أن يكون الإعلام الإسلامي نموذجا من درس المسجد باعتبار أن هذا هو النوع الوحيد الذي نجيده، فذلك جهاد لا شوكة فيه!

وإنما ينبغي أن نسلك الجهاد ذا الشوكة، حين نوصل إلى الناس ما نملكه من الحق في أفضل ثوب وبأحسن أسلوب، وأن نجتهد ونجاهد ونتعلم ونتدرب ونمارس فنزداد خبرة وعلما، وأن نستعين بأهل الكفاءة الفنية ولو من غير الإسلاميين، بل ومن غير المسلمين أيضا!

ينبغي أن نقيس نجاحنا الإعلامي بذلك الذي حققه موسى عليه السلام مع السحرة، (لقد كان في قصصهم عبرة)!

نشر في شبكة رصد الإخبارية