السبت، يناير 21، 2012

في مواطن الموت

أتذكر أني كنت مرعوبا حين حضرت المظاهرة الأولى في حياتي، كانت لدعم الانتفاضة الفلسطينية عام 2000م، وكانت في "المجمع النظري" بجامعة المنوفية في شبين الكوم، طوال الطريق من منوف (حيث كليتي: الهندسة الإلكترونية، وإقامتي) وحتى الوصول إلى شبين الكوم كنت أذكر الله طمعا في أن يطمئن قلبي (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).. بعد هذه المرة كان الأمر أيسر وإن كان الخطر أشد، وساعتها علمتُ بيقين أن الخوف ليس إلا كائنا داخل نفوسنا، ابتلانا الله به ليختبر الإيمان بالرسالة والقيمة والدين، وكل هذه أسماء لشيء واحد (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم، دينًا قِيَمًا، ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين).

***

بعدها بسنوات عدت إلى منزلي في قنا فوجدت أمي غارقة في البكاء، وإني لأحسبني من أرقاء القلوب ومن البارين بأمهاتهم، فعظم ذلك عندي جدا، وحاولت تهدئتها حتى هدأت، ثم علمت أنه قد جاءها في غيابي رسول أمن الدولة يطلبونني لأكون لديهم في الغد!

أتذكر أن القلق انتابني على أمي وأبي حتى استطعت تهدئتهما، ثم اشتعل القلق في نفسي على نفسي، فتحت إذاعة القرآن الكريم لكي أطمئن نفسي، فوجدت الشيخ محمود علي البنا يقرأ (قال آمنتم له قبل أن آذن لكم، إنه لكبيركم الذي علمكم السحر، فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل، ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى * قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاضٍ إنما تقضي هذه الحياة الدنيا * إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى * إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى * ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العُلى * جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى)

وما بالك بمكروب في جوف الليل يسمع هذه الآيات؟ لقد انسابت الآيات إلى قلبي، ونمت ليلة من أهدأ وأنعم الليالي، ثم ذهبت إليهم في الصباح، فحبسوني حتى الثالثة، ولولا إصراري على صلاة الجمعة ما تركوني أصليها في المسجد..

وفي المسجد كان الخطيب يتحدث عن "خالد بن الوليد"، فروسيته وقوته وشجاعته، وكيف أنه تعرض للمهالك ثم مات على فراشه قائلا قولته الخالدة الباقية "فلا نامت أعين الجبناء".. فكانت رسالة إلهية أخرى أعادت إلي بعض ما فقدته من اطمئنان في ساعات الانتظار، وما أطولها في أمن الدولة!

عدت إلى أمن الدولة بعد الجمعة، فحبسوني مرة أخرى حتى استدعاني الضابط المسؤول، عصبوا عيني وقادوني إليه، وقتها فقط عرفت قيمة العين، إنها ليست أداة للرؤية فحسب بل هي وسيلة للأمان، حين تفقد عينيك تشعر أن حصن الأمان قد انهار من حولك، وأنك في الظلام المخيف المجهول، لا تدري من أين تأتي لك الضربات!

حاول الضابط تخشين صوته وخاطبني بأداء مسرحي سخيف، لكني أقسم بالله أني ما شعرت باطمئنان قدر ما شعرت به في مكتب أمن الدولة وأمام هذا الضابط، لقد نزل الثلج في صدري، وصرت كأني في حلم رائق.. لم أشعر بغير الصفعة الأولى، هي التي أثرت في نفسي لمدة، ولم يُزِلْها إلا أن أعدت على نفسي سيرة الصالحين الذين عُذِّبوا في الله ما ضعفوا ولا استكانوا!

***

في شارع محمد محمود، في اليوم الثالث أو الرابع لاشتعال الأحداث، تغيرت خطة الأمن في ضرب القنابل المسيلة للدموع، بدل أن كانوا يضربون الواحدة والاثنتين والثلاثة لغرض التفريق، أصبحوا يضربون العشرة مرة واحدة، كان الشباب المصري الباسل يتهافت على القنبلة ليمسكها ويعيد إلقاءها عليهم أو إلقاءها بعيدا أول الأمر، أما حين تُضرب عشر قنابل مرة واحدة فإنه يسود الشارع سحابة بيضاء ويعود لا مجال لفعل أي شيء، لا سيما مع الاختناق الرهيب والسعال الحارق الذي تسببه الأنواع الجديدة من القنابل..

في أثناء واحدة من هذه المشاهد وبينما أتراجع أمام سيل القنابل إذ تعثرت في الحجارة المتكومة على الأرض، فوقعت على وجهي، وكنت بدوري سببا في تعثر من خلفي فوقع علي، ثم كان بدوره سببا في وقوع آخرين.. لا أحد يرى شيئا، والهجوم عنيف، لم يعد لدي شك في أني سأموت تحت الأقدام، فالمحاولات الأولى للنهوض بسرعة قبل تكاثر المتعثرين باءت بالفشل..

ولمرة أخرى مذهلة.. لم أشعر بالخوف من الموت، وشعرت بنفسي تستسلم له وتنتظر استقباله كأي شيء عادي!!

ما لبث الله أن فرجها فقام المتعثرون وقمت من تحتهم بجروح بسيطة، ولكن هذا الشعور ظل يلازمني ويدهشني ولا أجد له تفسيرا!

***

في محمد محمود رأيت ما لم أره قط! الدماء التي تنبثق من الرأس، الشاب الذي يسقط مصابا، فتيات باسلات مدهشات، رجل يجاوز الثمانين صار متخصصا في الجري على القنابل ثم الجري بها وإعادة رميها، كنا نصاب بالخرطوش ونستمر في مواجهة قوات الأمن، شعرت بألم حارق في ذراعي فقلت لأحدهم: انظر، هل ثمة دم أو نزيف؟ فقال لي: لا تقلق، إنه خرطوش، وكشف لي عن ذراعه وظهره الممتليء بالخرطوش ليثبت لي أنه أمر بسيط ثم عاود الرمي، أمسكت به وصحت فيه "روح المستشفى الميداني" فنظر لي ساخرا ومشفقا وعاد إلى جهاده!

***

إنني الآن أقرب من أي وقت مضى لفهم التاريخ الإسلامي، مجال اهتمامي وعملي وغرامي، أفهم كيف فتح المسلمون في ثمانين سنة ما لم يفتحه الروم في ثمانية قرون، وكيف انطلق رعاة الإبل والغنم في غفلة من التاريخ السياسي والحضاري ليفتحوا العالم شرقا وغربا ويؤسسوا دولتهم الشاسعة الواسعة في أقل من نصف قرن! وينتصرون على الامبراطوريتين الكبيرتين في وقت واحد! في وقت واحد! في وقت واحد!!!

لقد انطلقوا وهم يؤمنون أن الآخرة خير لهم من الدنيا، وأن الواحد فيهم حين يقذف نفسه في قلب المعركة فلن يصيبه إلا ما كتب الله له، فإن قُدِّر له العودة والنصر فسيعود، وإن قدر له الموت فسيموت ولو على فراشه (يقولون لو كان لنا من الأمر شئ ما قُتِلنا هاهنا، قل: لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كُتِب عليهم القَتْل إلى مضاجعهم، وليبتلي الله ما في صدوركم، وليمحص ما في قلوبكم، والله عليم بذات الصدور)!

اللهم انصر ثورتنا، واجعل بلادنا أمنا وإيمانا، سلما وإسلاما، سخاء رخاء، وسائر بلاد المسلمين.

نشر في شبكة رصد الإخبارية

هناك 3 تعليقات:

  1. محمود عبدالعزيز6:43 ص

    بارك الله فيك وزادك يقينا وإيمانا
    تدوينة غاية فى الروعة

    ردحذف
  2. أبو طه - لبنان12:17 م

    أخ محمد إلهامي..كعادتك أبدعت وتألقت أسأل الله أن يبارك في علمك وقلمك ويتقبل منك.
    أحبك في الله

    ردحذف