الأحد، أكتوبر 20، 2013

من فقه المقاومة في سورة الأنفال (2/3)




ذكرنا في المقال السابق أن سورة الأنفال تعالج ثلاثة موضوعات كبرى كبرى تشكل قواعد بناء المجتمع والدولة الإسلامية، هي:

1.    المسلمون أصحاب حق وأهل رسالة قضيتهم الكبرى هي إرضاء الله وإقامة الدين وهم لذلك أهل زهد في الدنيا وترفع عنها.
     
2.    المجتمع المسلم مجتمع متماسك مترابط شديد الحساسية لكل ما يمكن أن يفصم هذه الرابطة أو يوهنها.
     
3.    أن الدولة الإسلامية دولة متأهبة مستعدة مَهيبة مرهوبة.
     
وتحدثنا عن القضية الأولى، وكيف أن أهل الحق والرسالة لا ينبغي أن تميل نفوسهم إلى الأموال (الاقتصاد) على حساب تمكين الحق (سياسيا وعسكريا)، وقد تبدى ذلك في ثلاث مواقف:

§         موقف تمنيهم لقاء العير لا لقاء الجيش القرشي رغم وعد الله لهم بالظفر (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)
          
§         موقف اختلافهم حول توزيع الغنائم.
          
§         موقف ميلهم إلى افتداء الأسرى بالأموال.
         
وبقي أن نتناول القضيتين الأخريين، فالله المستعان.

(2)

قضية: تماسك المجتمع المسلم

لم ينجح نظام قط في إقامة روابط وثقى مثلما نجح الإسلام، فلقد صنع الإسلام الرابطة الإسلامية وغرسها بين قوم كانوا يقدسون روابط القبلية العصبية حتى ليقول قائلهم:

وهل أنا إلا من غزية إن غَوَت .. غويتُ، وإن ترشد غزية أرشد

ويرجو آخر أن يكون قومه كمازن، الذين هم:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم .. في النائبات على ما قال برهانا

وقد كانت المدينة أول قدوم النبي (صلى الله عليه وسلم) إليها نموذجا في المجتمع الذي يفتقد الرابطة، فالأنصار أوس وخزرج بينهما تاريخ من الحروب، والمهاجرون هم من كافة القبائل والبطون من قريش ومن خارج قريش، وهذا بخلاف المشركين والمنافقين واليهود. وكانت الغاية أن يتحول جمع المؤمنين -الغرباء عن هذه الأرض وعن بعضهم- إلى أمة واحدة برابطة دينية وأن يتم هذا في ظل فقر عام وتربص وعداوات داخلية وخارجية، عداوات في الدين وعداوات أنشأها تضارب المصالح لا سيما هذا الذي تحطمت آماله في تاج المدينة بعد أن كاد يلبسه!

وقد تحققت المعجزة بالفعل، وصار مجتمع المؤمنين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد، حتى لقد كان المسلم إذا لقي أباه أو أخاه في جيش المشركين قتله أو أسره، وصار أول من يتصدى لرأس المنافقين هو ابنه[1]!

لكن الإسلام الذي أنشأ رابطة الدين لم يهدم ما سواها، بل لقد أكد على رابطة الأرحام منذ اللحظات الأولى في عمر الرسالة بتوجيه المؤمنين إلى البر بالوالدين، وإن ظلوا على الشرك: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}، وحين جاء عمرو بن عبسة إلى النبي –وكان هذا في بداية الدعوة- سأله: "ما أنت؟ قال r: "أنا نبي". فقلت: وما نبي؟ قال: "أرسلني الله". فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: "أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يُوَحَّد الله لا يُشْرَك به شيء"[2]. وحين أوجز جعفر بن أبي طالب معالم الرسالة أمام النجاشي قال: "وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار"[3]، واستمر هذا حتى اكتمل الدين وتمت الرسالة، فكان الإحسان إلى ذوي الأرحام من أولويات التكاليف، وكان مقام الرحم من أعظم الواجبات؛ وقد أخبر النبي أن الله الرحم قالت لله: "هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟"[4].

بل إن صلة الأرحام من أسرار بقاء الدول ورخائها كما قال تعالى {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}، وكما قال r: "صلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار"[5]. وروي عنه r "إن الله ليعمِّر بالقوم الزمان ويُكْثِر لهم الأموال، وما نظر إليهم منذ خلقهم بُغْضًا لهم". قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: "بصلتهم لأرحامهم"[6].

وهذا آخر ما يسمح به المقام في تفصيل هذا الأمر، والشاهد منه، أن المجتمع المسلم مترابط متماسك وهو حساس لكل شيء يؤثر على هذه الرابطة أو يهددها، لهذا ما أسرع ما نزلت سورة الأنفال تنزع عن هذا المجتمع أمر الأنفال الذي كاد يثير بينهم نزاعا وكان أول أمر فيها {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}.

ثم شاع في جميع السورة مخاطبة المؤمنين وتذكيرهم بما أنعم الله عليهم من الألفة والحب، وأنهم بهذا صاروا كيانا لا يقف أمامه شيء {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}

وأخبرهم الله بأن سرِّ النصر والقوة قائم في تلك الرابطة القوية التي تجمعهم، فإذا ما تبدلت حلَّت في الأرض الفتنة وعمَّها الفساد الكبير، حتى لقد نزع الله مبدأ الولاء بين المؤمنين وبين لم يهاجروا إلى المدينة –مع قدرتهم- لمصالح أو لروابط دنيوية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}

وحذرت السورة من التنازع بين المؤمنين ففيه نهاية قوتهم {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}، ومن لطيف المعاني أن الله أنعم على المؤمنين بـ "وحدة الرؤية" ليتحقق بذلك "وحدة الموقف" وهم في قلب المعركة فقال تعالى {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}.

 وإن من آثار هذا الترابط والتماسك في المجتمع المسلم أن تُقَاوَم المظالم، فيؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر، ويؤخذ على يد الظالم، وإلا فإن العقاب يعم الجميع: من ظلم ومن سكت كذلك {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.

لقد كان الإخاء بين المهاجرين والأنصار حلاًّ جديدا في عالم البشر لحل مشكلة المهاجرين، ولقد أتى الأنصار بما يثير الذهول من أنواع البذل حتى قاسموا المهاجرين أموالهم ومنازلهم، بل كان الرجل يعرض تطليق زوجة من زوجتيه ليتزوجها المهاجري، حتى قال المهاجرون للنبي r: "ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، وأحسن بذلاً في كثير، لقد كفونا المئونة، حتى لقد حسبنا أن يذهبوا بالأجر كله"[7]. ومثل ما أتى به الأنصار من البذل جاء به المهاجرون من التعفف والنبل، ولقد كان الإخوة في الدين يتوارثون مثل الإخوة في الدم منذ قدم المهاجرون إلى المدينة، حتى نزلت آية سورة الأنفال تقول {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} فعادت أحكام المواريث لتكون بين الأرحام وذوي النسب فحسب. فعُظِّم شأن الرحم والنسب بعدما استقر تعظيم رابطة الدين.

بمثل هذا الترابط بين جماعة المؤمنين تتولد القوة والقدرة، سواء في حال الاستضعاف أو في حال التمكين، فأما حال التمكين فأمر واضح ومعروف وأما حال الاستضعاف فإنه يتكون ما اصْطُلِح على تسميته "الحاضنة الشعبية" التي هي ترجمة عملية لقاعدة الولاء والبراء فلا ينال العدو من أهل المقاومة إلا بقدر ما تسمح به الثغرات في كيانهم، بل إنه مما صار مستقرا في علوم المقاومة أنه لا قِبَل لأحد بالانتصار في حرب العصابات إلا من خلال اختراق المجموعات المقاوِمة أو صناعة مجموعات أخرى بديلة تقوم بدور إثارة النزاع والخلافات وفتح الثغرات لينفذ منها العدو فيقضي على حركة المقاومة جميعا.

***

بقيت معنا القضية الثالثة والأخيرة من محاور سورة الأنفال التي تمثل أركان ومقومات المجتمع المسلم وهي: الدولة الإسلامية المتأهبة المُهابة، نتناولها في المقال القادم إن شاء الله تعالى.



[1] للاستزادة، اقرأ: صناعة مجتمع الجسد الواحد
([2]) مسلم (832).
([3]) الألباني: صحيح السيرة ص174، د. أكرم العمري: السيرة النبوية الصحيحة 1/173، 174.
([4]) البخاري (4552)، ومسلم (2554).
([5]) أحمد (25298)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح.
([6]) الحاكم (7282)، وقال: غريب صحيح ووافقه الذهبي، والطبراني في الكبير (12586) وقال الهيثمي: إسناده حسن. (مجمع الزوائد 13457)، وهو إن ضعفه بعض المحدثين كالألباني (صحيح وضعيف الترغيب والترهيب 1491) إلا أن معناه صحيح كما في الآية والحديث السابق له.
([7]) د. أكرم العمري: السيرة النبوية الصحيحة 1/241 وما بعدها، د. إبراهيم العلي: صحيح السيرة ص138، 139.

السبت، أكتوبر 19، 2013

خلاصة مهمة في التحليل السياسي

1. الإنفاق العسكري للدولة ليس له مردود اقتصادي بل يبدو دائما كنزيف خسائر مستمر لاقتصاد الدولة.

2. هذه الحقيقة السابقة لا تعد حقيقة إلا في مجال الأرقام، ولا يؤمن بها إلا ساذج أو سطحي.

3. الحقيقة في أرض الواقع أن التفوق العسكري هو العامل الرئيسي -ونستطيع أن نقول: الوحيد أحيانا- الذي يحفظ للدولة مكانها ومكانتها بما فيها الاقتصاد والسياسة.

4. أي نهضة في أي مجال علمي أو اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي إذا لم تنعكس نهضة على الجانب العسكري فهذه الأمة مهددة بالزوال والفناء أو على الأقل بهزيمة قاسية وطويلة.

5. النهضة العلمية يجب أن تنعكس على التفوق العسكري، فإن لم يحدث أمكن للمتخلفين علميا وحضاريا الأشداء قتاليا وعسكريا اجتياح الأمة المتحضرة.. وهكذا سقطت كثير من الحضارات.

6. النهضة الاقتصادية يجب أن تنعكس على التفوق العسكري، فإن لم يحدث بدأت هذه الدولة في طور الجمود ثم الذبول ثم الانكماش.. وهكذا سقطت الكثير من الدول وفشلت الكثير من الثورات وحركات التمرد، إذ لم تستطع توفير الموارد الاقتصادية اللازمة لجيشها فاضطرت إلى تخفيضه عدديا أو تسليحيا أو الاقتطاع من موارد الدولة الأصلية حتى صارت الدولة إقطاعيات يتصارعها العسكر فيما بينهم حتى يأتي من يجتثهم جميعا.

7. بينما التفوق العسكري قادر دائما على معالجة النقص في الجوانب الأخرى: العلمية والاقتصادية وحتى الاجتماعية.. وفي التاريخ أمثلة كثيرة عن الحضارات التي امتد عمرها قرنا أو نصف قرن آخر بعد انتهائها على كافة المستويات بفضل قوتها العسكرية فقط.. فالسقوط العسكري هو النهاية الحقيقية للحضارة.. ألا ترى أن أي تغير في موازين القوى عبر التاريخ إنما كان -أو ظهر- نتيجة حرب؟!

8. التفوق العسكري قادر على دعم الضعف السياسي، وقادر على دعم الضعف الاقتصادي، وقادر على دعم الضعف العلمي، فالدولة الحريصة على تفوقها العسكري مضطرة بالضرورة إلى دعم النهضة العلمية لتحافظ على التفوق العسكري.. وبالتفوق العسكري قادرة دائما على السيطرة على موارد اقتصادية وعلى تحقيق أهداف ومصالح سياسية لم تكن لتجرؤ على التفكير فيها لولا القوة العسكرية.

9. أمريكا كنموذج، رغم أنها أكبر مدين في العالم، إلا أن أحدا لا يستطيع إجبارها على الدفع، تستطيع طبع عملة الدولار بدون غطاء لأنها بالقوة العسكرية تستطيع الضغط السياسي ليظل الدولار هو العملة العالمية، إذا استشرفت أزمة أمكنها أن تسيطر على موارد اقتصادية في بلدان كثيرة، أو حتى تقيم حربا يدفع غيرها تكاليفها ثم ترث هي عقود الإعمار وإعادة الإنشاء وما إلى ذلك.

10. على الجهة الأخرى انظر إلى اليابان أو ألمانيا، مهما تفوقتا علميا واقتصاديا تظلان ذيلا تابعا للسياسة الأمريكية بعد أن فُرِض عليهما تحطيم الجيوش.. بينما تبدو الصين وروسيا أثقل وزنا وأكبر خطرا لاحتفاظهما بجيوش رغم أنهما لا يتمتعان بنهضة علمية واقتصادية كاليابان وألمانيا.


الخلاصة: التفوق العسكري هو الأهم في كل عوامل التفوق.. وهذا بالنسبة للحضارات كما هو بالنسبة للدول، بل حتى بالنسبة للحركات والأفراد أيضا.

الاثنين، أكتوبر 07، 2013

فقه التاريخ



ثمة قاعدة أصولية شهيرة للإمام يحيى بن أبي كثير تقول: "السنة قاضية على القرآن، وليس القرآن بقاض على السنة"، والمعنى –كما بيَّنه الشاطبي في الموافقات والسيوطي في مناهل العرفان- أن السنة إنما تقضي بين أفهام الناس في القرآن، فلو أن عددا من الناس قرأ الآية المُجملة، ففهم منها كل واحد فهما، فإن السنة تأتي بالتبيين والتفصيل، ومن ثم تقضي بين الأفهام فَتُقِرُّ فهمًا وتحكم عليه بالصحة وتقضي على الأفهام الأخرى بالبطلان.

وهذا شأن كل شيء مجمل، يحتاج إلى مذكرة تفسيرية، تُبَيِّن ما تشابه منه وتفصل ما أجمله.

وفي مجال العمل الإسلامي، ترجع الحركات والتيارات الإسلامية إلى القرآن والسنة تستقي منهما منهجها في الرؤية والحركة والإصلاح، وكلهم يصدر عن هذين المصدرين غير أن الأفهام أيضا تختلف، فمنها ذات اليمين وذات الشمال، وكما قال الشاعر:

وكلٌّ يدّعي وصلا بليلى ... وليلى لا تُقِرُّ لهم بذاكا

ويمكن حل كثير من هذا الخلاف بالنظر إلى مصدر ثالث، نص عليه أيضا كتاب الله وسنة رسوله.. ذلك هو التاريخ!

فالتاريخ هو التجربة الإنسانية العملية، ومنه نعلم هل نجحت الأفكار أم فشلت؟ فكل فكرة لم تستطع أن تجعل نفسها تطبيقا عمليا فهي فكرة فاشلة، وكل فكرة صنعت لنفسها نموذجا عمليا في وقت من الأوقات فقد أدركت جانبا من النجاح، وأثبتت أنها استطاعت إدراك ظروف الزمان والمكان والتعامل مع الإنسان فتحققت في كيان عملي يمثل فكرتها! هذا الكيان يمكن أن يكون دولة صغيرة على ضفاف نهر، أو امبراطورية عظمى تمددت على مساحة واسعة وأخذت من عمر الزمان قرونا وأحقابا!

ومن هذا المنطلق، فالنظر في التاريخ هو الوسيلة التي تختبر عليها التيارات الإسلامية مدى نجاح رؤيتها وتصوراتها عمليا، وهل سيؤدي منهجها هذا إلى النجاح أم لا، وهل تستطيع عبر هذا المسار تحقيق أهدافها أم لا..

النظر في التاريخ يحكم على الأفكار التي تراود العقول، وبقدر العمق في النظر إلى الماضي وتحليله واستكناه أسراره بقدر ما تتوفر الفرصة لمزيد من اليقين في المنهج أو لتصحيح المسار، تصحيحه على المستوى الكبير (الفكري والاستراتيجي) أو على مستوى التفاصيل والأولويات والمراحل والترتيبات.

وهذا المعنى هو نفسه مأخوذ من كتاب الله تعالى، فقد ساق الله في الدلالة على صحة القرآن وصحة نبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) دلائل من تاريخ الأقوام السابقة ليصحح مسارهم في مستواه الفكري والاستراتيجي فينقلهم من الكفر إلى الإيمان (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين).. كما ساق دلائل من التاريخ أيضا لتصحيح المسار في مستوى التفاصيل والأولويات والترتيب حين قصَّ الله على نبيه قصص الأنبياء السابقين وكيف تكلموا وكيف أجابهم قومهم ثم كيف حاولوا وأوذوا وصبروا ثم كيف أنجاهم الله، فكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يتذكر التاريخ حتى في المواقف الصغيرة (رحم الله أخي موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) ويُذَكِّر صحابته كذلك بالرجل "فيمن كان قبلكم...".

ولا بأس أن نعترف بأن الحركة الإسلامية، وإنتاجها المعاصر يعاني قصورا في دراسة التاريخ وقراءته قراءة متعمقة تبتغي أن تستشرف منه سبيل المستقبل، فهذا الاعتراف أول طريق التعلم..