الأربعاء، أبريل 30، 2014

ثقافة الإسراف.. الجذور والمسار والثمار




قال الجرجاني في التعريفات: "الإسراف: هو إنفاق المال الكثير في العرض الخسيس، وقيل: هو تجاوز الحدّ في النّفقة، وقيل: هو أن يأكل الرّجل ما لا يحلّ له أو يأكل ممّا يحلّ له فوق الاعتدال ومقدار الحاجة".

 (1) الجذور

ليست عوائد الإسراف، أو الثقافة الاستهلاكية، إلا ابنًا من أبناء الحضارة الغربية المادية، وهذا الموضوع هو بحد ذاته دليل على أن إصلاح العقيدة (التي هي رؤية شاملة للإنسان والكون والحياة) هو مبدأ كل إصلاح، وأن فساد العقيدة هو مبدأ كل فساد.

حين سارت الحضارة الغربية في مسار العلمانية وتقديس المادية وإزاحة كل "ما وراء الطبيعة" كان طبيعيا أن ينفجر النهر الفياض من الشهوات واللذائذ، وأن يعب المرء من الحياة ما استطاع بكل ما استطاع، فخلاصة الحياة في ظلال المادية تلخصها عبارة ألبير كامي -فيلسوف العدمية الشهير- القائلة: "كل شيء جائز طالما أن الله غير موجود وأن الإنسان يموت"[1].

وهنا.. صارت اللذة هي الإله الجديد الذي تعبده البشرية في محراب المادية!

وذلك أساس فارق وخلاف جوهري بين النظرة الإسلامية والنظرة المادية للطبيعة، فارق بين "الاستخلاف في الأرض" الذي هو بمعنى المسئولية والرعاية للأمانة والوديعة، والتي سيعقبها حساب وجزاء في اليوم الآخر، وبين معنى "الامتلاك الكامل" الذي تطرحه النظرة المادية العلمانية التي لا ترى في الكون إلا أنه "مادة استعمالية لا قداسة لها، توظَّف وتصنَّع وتستهلَك وتولَّد منها الطاقة من أجل تحقيق لذة الإنسان ومنفعته، الأمر الذي يتطلب المزيد من استهلاك مصادر الطبيعة بمعدلات لا نظير لها في تاريخ الإنسان"[2]، وهو ما جعل الطبيعة في نهاية الأمر مجرد "مخزن للثروات ومستودع للنفايات"[3] كما قال الفيلسوف الفرنسي الشهير رجاء جارودي.

(2) المسار

لقد انطلق قطار الحضارة المادية يبتغي الوصول لسعادة الإنسان وإشباع حاجاته، وما زال كلما وقف في محطة محققا نصرا علميا ومزيدا من التحكم في الأدوات ليشبع حاجة ولذة، كلما انفتحت له محطات جديدة ولذائذ أخرى، ثم كانت المفاجأة:

"لم ينتج عن هذا زيادة التحكم في الذات الإنسانية أو في الواقع الموضوع بل على العكس، فمع ظهور الإنسان الطبيعي (المادي) وتحديد المنفعة واللذة باعتبارهما الهدف الأساسي للوجود الإنساني، ترجم هذا نفسه إلى الاستهلاكية، وتصور أن مزيدا من السلع فيه مزيد من المنفعة واللذة، وقد تسارعت وتائر هذه الاستهلاكية تسارعا مذهلا، وبعد أن كانت الحاجة هي أم الاختراع أصبح الاختراع هو الذي يولد الحاجة، فوجد الإنسان نفسه محاطا بسلع وأجهزة ليس متأكدا تماما أنه يريدها (والسلعة مثل المادة، شيء يتحرك بلا هدف أو غاية)، وبدأ الإنسان يشعر أنه لم يعد من أمره شيئا، وأنه يدخل في بحث لا ينتهي عن هدف لم يحدده في عالم ليس من صنعه تتراكم فيه سلع لا يريدها"[4].

لقد تحول الاستهلاك نفسه إلى "فلسفة مطلوبة؛ إذ إن تكاثر الإنتاج يقتضي ويريد تكاثرا في الاستهلاك، فيسعى أصحاب الإنتاج أنفسهم إلى خلق نوعيات جديدة للاحتياج عبر الدعاية والإعلان والتطوير المستمر للمنتجات، والبحث عن أسواق جديدة، وتقصير عمر المنتج ليستهلك سريعا؛ ولهذا فإن السيارات الحديثة لا تتمتع بأعمار السيارات القديمة، وكذلك البنايات الحديثة لا تعيش أبدا كما عاشت البنايات الأقدم منها"[5].

وبهذا صارت الشعوب فريسة لذوي الأموال المترفين وذوي السلطان المتجبرين، فأولئك يتحكمون بالناس عبر تحكمهم بصناعة اهتماماتهم وتلاعبهم بشهواتهم وغرائزهم، حتى إنهم ليبتكرون لهم شهوات وحاجات جديدة تحتاج لإشباع جديد!

وهنا صارت لدينا طبقتان متمايزتان: قلة رأسمالية متحكمة ومهيمنة، وشعوب مستضعفة مستغفلة أقرب إلى القطعان منها إلى الإنسان، تساق إلى الموت وهي لا تشعر وقد تُذبح وهي لا تبصر.

(3) الثمار

على عكس ما توقع الجميع، لقد جاءت المادية بنتائج كارثية في حياة البشر، إن الفكر المادي المهيمن جعل حتى التفسيرات التي تبدو "علمية" ذات تطبيقات في غاية الخطورة، يقول د. عبد الوهاب المسيري: "في هذا السياق يبرز دارون كواحد ممن ساهم في التنظير للصراع والدموية بمقولته عن البقاء للأقوى أو للأصلح، حتى إن فرويد تساءل عن حكمة الدعوة إلى فضائل مستحيلة مثل كبح جماح الرغبات الجنسية والعدوانية، بل إنه يتحدث -في لقطة متوحشة حقيقية- عن "فضل" اليهود على المدنية، فقد انتشروا في أرجاء العالم ومن ثم اتجه إليهم عدوان الشعوب التي عاشوا بينها، فأتاحوا لتلك الشعوب فرصة التنفيس عن طاقة العدوان"[6].

لقد صار الإنسان الذي اعتاد الإسراف خطرا على الإنسانية وعلى الكون من حوله، حتى بالمنظور المادي نفسه، ولعله يكفي –في هذا الصدد- أن نعرف أن نصف المواد العضوية التي تلقى في الماء وتلوثه في مصر هي أغذية ومشروبات، بحسب تقرير البنك الدولي لعام 2007م[7]. لقد غرقت الإنسانية فيما يسميه جان بيليت –وهو من أبرز علماء البيئة- بـ"مجتمع النفايات"، ويرمز لها بنهر له منبع وهو الاقتصاد الذي يضخ عددا رهيبا من السلع والمنتجات لتلبية حاجات الاستهلاك المتزايدة، وله أيضا مصب وهو تراكم النفايات بعد انتهاء الاستهلاك، وهذا ما ينتج ثلاث مشكلات: مشكلة الطاقة، ومشكلة الموارد الأولية، ومشكلة تلوث البيئة"[8].

إن الثقافة الاستهلاكية هي ما تجعل المرء يمتلك عددا من الهواتف والأجهزة الإلكترونية لكنه لا يستعملها إلا في اللعب أو ما لا يفيد، يمتلك عددا من السيارات لكنه لا يهوى إلا أن يسابق ويتقافز ويتمطى بها وربما ليحصل على قلوب العذارى كما أوحى إليه الإعلام، يأكل في المطاعم الأمريكية طعاما لا غذاء فيه بل هو مشحون بالأمراض ليس إلا لأن ارتياد هذه المطاعم يشعره بالنشوة التي تكونت عنده عبر الإعلانات الشهوانية. إنها حالة من التيه المختلط بالنشوة التي تصنع القوم الغافلين.

***

قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "كلوا وتصدّقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة"[9].

نشر في مجلة الوعي الإسلامي، رجب 1435هـ = مايو 2014م.



[1] علي عزت بيجوفيتش: الإسلام بين الشرق والغرب ص139.
[2] د. عبد الوهاب المسيري: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة 2/ 120.
[3] رجاء جارودي: وعود الإسلام ص20.
[4] عبد الوهاب المسيري: العلمانية تحت المجهر ص133.
[5] جان ماري بيلت: عودة الوفاق بين الإنسان والطبيعة ص48، 50، 56.
[6] عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية 8/ 329.
[7] تقرير البنك الدولي للعام 2007م (ب).
[8] جان ماري بيلت: عودة الوفاق بين الإنسان والطبيعة ص59.
[9] رواه النسائي وابن ماجه، وحسنه الألباني.

الثلاثاء، أبريل 22، 2014

الجهاد العلمي (1/2)



"إننا -معشر الأوربيين- نأبى في عناد أن نقر بفضل الإسلام الحضاري علينا، ونميل أحيانا إلى التهوين من قدر وأهمية التأثير الإسلامي في تراثنا، بل ونتجاهل هذا التأثير أحيانا تجاهلا تاما، والواجب علينا من أجل إرساء دعائم علاقات أفضل مع العرب والمسلمين، أن نعترف اعترافا كاملا بهذا الفضل، أما إنكاره أو إخفاء معالمه فلا يدل إلا على كبرياء زائف"[1].

أثر الإسلام

إن الأمة الإسلامية تدين بوجودها الحضاري كله لهذا الدين، فهو الذي أخرجهم من الظلمات إلى النور، وحولهم من حفاة عراة عالة دهماء يرعون الغنم إلى سادة قادة يقودون الأمم، فالعلوم والمعارف التي ابتدعتها الأمة أو طورتها إنما هي في جملة الفضل العظيم الذي أنعم الله عليها بهذا الدين.

ثم إن ما جاء في الكتاب الكريم وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم من الحض على طلب العلم وعلى التفكر في خلق السموات والأرض والنفس، وبيان أن مهمة البشر إعمار هذه الأرض.. كل ذلك كان وراء الانبعاث الحضاري الذي شهدته الأمة، وكان من آثاره المهمة هو تسليح الأمة بالمنهج العلمي، منهج النظر في العلوم، أو ما يسمى "فلسفة العلوم" بحيث استطاعت الأمة أخذ العلوم دون أخذ الفلسفات الحاضنة لها من الشرق أو الغرب، وظل المتأثرون بالفلسفات الأخرى قلة قليلة وسط تيار الأمة الكبير.

لكن ثمة إضافة ينبغي التنبه لها، ذلك أن كثيرا من عبادات الدين وشعائره ونصوص القرآن والسنة كانت ذات دفع مباشر للبحث والتعمق في بعض العلوم، ومن ذلك مثلا أن التوجه إلى القبلة في الصلاة كان هو الدافع الأكبر وراء بحث المسلمين وتقدمهم في مجالات الفلك والجغرافيا والخرائط لتحديد وجهة الصلاة، كما أن نصوص تفضيل بعض الأطعمة ونصوص التداوي بالعسل والتمر وبعض الأعشاب وآيات القرآن التي تقسم بالتين والزيتون وتصف العسل بأنه شفاء للناس، كان دافعا وراء بحث المسلمين في الطب والأدوية والنبات والكيمياء.

ويبدو أثر الإسلام أكثر وضوحا في عدد من العلوم التي ابتكرها المسلمون ولم يُسبقوا إليها، فلقد كان ذلك ضمن مجهودهم لخدمة الشريعة بخدمة نصوصها ضبطا وتوثيقا أو فهما وتحقيقا.

الإسهام الأكبر

كانت اليد العظمى التي قدمتها الحضارة الإسلامية للعالم هي اعتماد الطريقة التجريبية العملية كأساس للعلم، وقد كان الأمر قبل ذلك قائما على الفلسفة والمنطق والدراسة النظرية، ولم تعد هذه المعلومة موضع شك أو جدل، إذ ما من كتاب أرخ للحضارة الإسلامية إلا وذكر هذا الفضل لها، واعترف بأن أفكار روجر بيكون وفرانسيس بيكون في التأسيس للطريقة التجريبية لم تكن إلا تتلمذا على مؤلفات المسلمين[2].

ولَكَم كان التجريبيون ساخطون على تراثهم النظري الفلسفي اليوناني وغيره لما سببه من تخلف غربي امتد قرونا، حتى لنجد فرانسيس بيكون يعتبر الدراسة النظرية كسل وخمول ومجون وتصنع، وكان يكره الرياضيات وهاجم جاليليو وكان معاديا لأرسطو، وقبله تمنى روجر بيكون لو أحرق كتب أرسطو جميعا[3].

كان هذا هو الإسهام الأكبر، وأما العلوم ذاتها فإليك نُتَفٌ عنها اجتهدنا في حشدها سريعا في المساحة المتاحة.

وحديثنا في هذا المقال عن العلوم البحتة أو العلوم التطبيقية، فأما ما أسسه المسلمون في العلوم النظرية فآثرنا عدم ذكره الآن، لكن المسلمين أسسوا فيه لعلوم عجيبة مثل علم مصطلح الحديث والجرح والتعديل فبه انفردت الأمة عن غيرها بضبط وتوثيق وتحقيق الأقوال إلى أصحابها، وكعلم الاجتماع وطبائع العمران وغير ذلك، وكذلك أضاف المسلمون إسهامات واسعة في الفكر والفلسفة واللغة والأدب والشعر والتربية والأخلاق والقانون والتشريع والفنون.

أولا: علوم ابتكرها المسلمون

ونأخذ منها الكيمياء والميكانيكا والجيولوجيا.

فقبل أمة المسلمين لم تكن الكيمياء علما بل ضربا من التخريف، يحلم الإنسان أن يصل إلى المادة التي تخلد الإنسان في الدنيا "إكسير الحياة" أو المادة التي تجعل التراب ذهبا "إكسير الذهب"، وبهم صارت علما وتجربة، فحللوا المواد كيميائيا وصنفوها إلى أحماض وقلويات واستنبطوا محاليل وعرفوا أحماضا وركبوا عقاقير وتوصلوا إلى مواد كثيرة مركبة، كما عرفوا تنقية المعادن، وكل ذلك كان فتحا جديدا في ساحة العلم، وهو ما مهد لفتح آخر في علم الصيدلة وتركيب الأدوية وتحضير العقاقير وفحص خصائص المواد وآثار اختلاطها.

وفي الميكانيكا –الذي سماه المسلمون "علم الحيل"- كانت إبداعات المسلمين تترى في الاستفادة من قوانين القصور الذاتي والتغذية العكسية، فأبدعوا في صناعة الساعات والتقاويم والروافع وتطبيقات الحركة بعد زمن أو الحركات المتتابعة حتى كان من مخترعاتهم مصباح يسرج نفسه فيخرج فتيلته ويشعل زيته ويواصل عمله دواليك ومنها أيضا إنسان آلي يساعد على الوضوء وحامل مصحف ينفتح ويغلق بضغطة واحدة وغير هذا كثير.

وفي الجيولوجيا فسر المسلمون ظواهر الزلازل والبراكين والينابيع والسيول والأعاصير والعواصف والمد والجزر، وصنفوا أنواع الصخور والجبال وكيفية تكونها، وأنواع النيازك والأحجار الكريمة، وتحدثوا عن زيت الأرض (النفط) ووسائل التنقيب عنه، وهم أول من تحدثوا عن علم البلورات، وبحثوا في التاريخ الجيولوجي للبلدان (الأحافير وطبقات التربة).

ثانيا: علوم طورها المسلمون

ونأخذ منها الفلك والفيزياء والهندسة والجغرافيا والطب.

ففي الفلك كان المسلمون أول من قالوا بدوران الأرض حول نفسها أمام الشمس، واشتهروا بإبداعاتهم في تطوير الاسطرلاب (آلة رصد السماء ومواضع الأجرام فيها) وصناعة أنواع متخصصة ومبتكرة واستعمال ذات الاسطرلاب في فوائد جديد، كما أبدعوا في وضع الأزياج (جداول حسابية لحركة الأجرام السماوية) وتصحيح ما أخطأ فيه سابقوهم، واستطاعوا رصد حركات آلاف الأجرام من النجوم وغيرها واكتشاف عدم الانتظام في حركة القمر، ولذلك عرفت كثير من النجوم بأسمائها العربية مثل سهيل والدب الأكبر والدب الأصغر والجوزاء وغيرها.

وفي الفيزياء طور المسلمون وصححوا قوانين الحركة واكتشفوا الأوزان النوعية والكثافة لكثير من المواد، وهم أول من اكتشفوا أن الهواء مادة وله وزن وكثافة، وكانوا روَّاد علم الصوت إذ قالوا بأنه ينشأ عن اهتزاز جسيمات ويتنقل في هيئة كرية وإذا اصطدم بجبل أو نحوه فذلك سبب الصدى، والمسلمون هم من اكتشفوا قوانين الحركة، والجاذبية وعجلتها (معدل زيادة السرعة)، وعلى أيدي المسلمين قفز علم البصريات قفزات واسعة في جوانب تفسير عملية الإبصار وحركة الضوء في الأوساط المختلفة وتشريح العين ووضعوا الأساس النظري للكاميرا (التي هي تحريف عن اللفظ العربي "القُمْرة").

وعلى يد المسلمين انتقلت الهندسة من علم نظري رياضي إلى علم تطبيقي عملي، وكان أهم ما أنجزوه في النظريات تصحيحاتهم على علماء اليونان كإقليدس وأرشميدس وحل المعادلات المعقدة بل فتحوا الطريق أمام التفاضل والتكامل، وهم أول من استخدموا الصفر الذي يراه البعض أعظم اكتشاف علمي إذ أمكن به حل المسائل المطولة وبه انفتح باب علمي كبير وهو معرفة الأرقام السالبة، والمسلمون هم من ابتكروا علم الجبر وحلوا معادلات الدرجة الثالثة وأسسوا لعلم الهندسة التحليلية، وابتكروا حساب المثلثات المستوية والكروية، ويحتار الباحث في تصنيف العمارة الإسلامية هل يتحدث عن إبداعها لدى الحديث عن الهندسة أم لدى الحديث عن الفنون، فالفنُّ والهندسة كلاهما تضافرا ليصنعا نهضة معمارية علمية فنية خلابة.

وفي الجغرافيا أثبت المسلمون أن الأرض كروية، وكانت خرائطهم هي الأتم والأدق والأشمل، وهم أول من رسموا أعماق إفريقيا، وأول من قالوا بأن المحيط الهادي يتصل بالهندي ووصفوا طريق رأس الرجاء الصالح، بل إن بعض الخرائط تمثل حتى الآن لغزا علميا في دقة وصفها -كخريطة بيري ريس العثماني لسواحل أمريكا الجنوبية- والمسلمون هم أول من قاسوا قطر الكرة الأرضية واكتشفوا وجود الأمريكتين (العالم الجديد) وهم أول من وضعوا خطوط الطول والعرض على الكرة الأرضية.

وفي الطب كان المسلمون أول من اخترعوا أدوات الجراحة ووضعوا قوانين لها وطرقا مبتكرة في إجرائها ووضعوا علم المناظير الجراحية، وكانوا أول من عرفوا التخصص الطبي، وكانوا أول من اكتشف كثيرا من الأمراض وأسسوا لعلم "الطفيليات" وناقلات العدوى، وأول من شرحوا أثر البيئة والأجواء  على الأمراض والعلاج، واكتشفوا الدورة الدموية.

***

والمقام لا يتسع لأكثر من هذا، بل هذا الأمر مما يضيق عنه كل مقام، وما زال القارئ مدعوا لمطالعة الكتب والأبحاث عن إسهامات المسلمين في علوم النبات والزراعة والري واستنباط المياه ورفعها والتلقيح والهندسة الوراثية وغيرها وغيرها.. ففي كل هذا صفحات تبعث الفخر.

ولكن.. ما فائدة اجترار هذا الآن؟ وكيف تنتفع الأمة بما قد مضى عليه قرون؟!

هذا ما سنجيب عنه إن شاء الله في المقال القادم، فنسأل الله العون والتوفيق.



[1] مونتجمري وات: فضل الإسلام على الحضارة الغربية، ص8.
[2] جوستاف لوبون: حضارة العرب ص435، ول ديورانت: قصة الحضارة 13/ 196، زيجريد هونكه: شمس الله تسطع على الغرب  ص148.
[3] ول ديورانت: قصة الفلسفة ص143، برتراند رسل: تاريخ الفلسفة الغربية 3/83، ه. ج. ويلز: موجز تاريخ العالم ص243، رونالد سترومبرج: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث ص68 وما بعدها.

الجمعة، أبريل 11، 2014

مغالطات التغريبيين في مسألة "الحرية"




يقدم الغرب نفسه على أنه أرض الحرية (في داخله) وراعيها وحامل لوائها والمدافع عنها (في كل العالم)، وكذلك يراه التغريبيون من بني قومنا، فلئن صحَّ أن الغرب يرى نفسه كذلك عن حق أو عن باطل فهل يصح أن يراه قوم مسلمون كذلك؟!

لقد اضطر التغريبيون في بلادنا إلى اعتماد مغالطات منهجية عديدة في سبيل نشر هذه الفكرة، هذه السطور عرض لأهمها:

(1) التعميم والتخصيص

إذا أُطلقت كلمة "الحرية" شملت أربع معانٍ: حرية النفس، حرية الفكر والاعتقاد، حرية الأخلاق، الحرية السياسية.

الأولى لم تعد موضع نقاش في عصرنا هذا إذ لم يعد ثمة عبيد بمعنى امتلاك بشر لبشر آخرين، الثانية ليس فيها موضع نزاع بيننا وبينهم إلا في موضوع حرية الكفر والارتداد ونشر قيم تناقض الإسلام، الثالثة موضع النزاع فيها كبير والتناقض فيها ظاهر إذ ليست تقبل مجتمعاتنا الإسلامية الانفلات الأخلاقي والإباحية التي وصل إليها الغرب ولا حتى واحدا على الألف منها، والرابعة هي التي يمثل فيها الغرب نموذجا مغريا إذ أن كل نفس شريفة تتوق إلى التخلص من الاستبداد والطغيان وتحب أن يكون لها الحق في اختيار من يحكمها ومراقبته وعزله إن لزم الأمر.

ومن هنا تأتي المغالطة الكبرى: تمييع المساحات بين هذه المعاني الأربع، وتقديم الحرية –بمعناها السياسي المضاد للاستبداد- كرأس حربة لتسويق كل المعاني الأخرى: حرية الكفر والارتداد ونشر ما يناقض الإسلام من أفكار وسلوك وانفلات أخلاقي، وكانوا من انعدام الحياء بحيث كرروا أنه لن نصل إلى التقدم الغربي في العلم وفي السياسة إلا إن اعتنقنا وأنفذنا في عالمنا حرية الكفر والارتداد والإباحية وسائر ما يناقض ديننا الذي تحول –في كلامهم- إلى "تراث ينبغي التخلص منه ونبذه"، وهذا المعنى مما يتفقون عليه في الجملة وإن صاغه كل واحد منهم بحسب جرأته والبيئة من حوله.

وأعظم دليل على هذا أن كافة النخب المتغربة في بلادنا الإسلامية إنما نشأت تحت رعاية الاستبداد في بلادنا، ولم تقف يوما مع حرية الشعوب بل كانت في ركاب المستبد على طول الخط، وقد مكَّنها المستبدون من منافذ الثقافة والتوجيه والنشر حتى صاروا مع الاستبداد كيانا واحدا أو على الأقل حلفا واحدا.

ومع ذلك فما زالوا يتغزلون في الغرب ويتحدثون عن الحرية!!

(2) اللحظة والتاريخ

فإذا قصرنا الحديث عن المعاني المحمودة التي يتفق عليها الناس من كلمة "الحرية"، فنحن بإزاء مغالطة أخرى، إذ التغريبيون في بلادنا يعتمدون مقارنة عجيبة بين اللحظة الغربية الحاضرة وبين التاريخ الإسلامي الطويل، فلا هي مقارنة اللحظة الحاضرة في الغربي وبلاد المسلمين ولا هي مقارنة التاريخ الإسلامي بالتاريخ الغربي.

وكيف يفعلون؟! ولو فعلوا لكانت فضيحة! إذ من الثابت المعروف أن تاريخ الغرب في باب الحريات من أسوأ التواريخ، في ذات اللحظة التي ضرب فيها المسلمون نموذجا فذا تعلم منه الغربيون، تقول كارين أرمسترونج: "كان المسلمون يسمحون للمسيحيين، مثلما يسمحون لليهود، بالحرية الدينية الكاملة في أرجاء الإمبراطورية الإسلامية، وكان معظم أهل إسبانيا يعتزون بانتمائهم إلى تلك الثقافة الرفيعة، فقد كانت تسبق سائر أوربا سبقا يقاس بالسنين الضوئية"[1].

ولم يكن من ملجأ يومئذ للمضطهدين في الغرب إلا في بلاد المسلمين، لا سيما الدولة العثمانية التي احتضنت الفارين من الاضطهاد والحروب الدينية الأوروبية، بل كان التيار الجارف بين الشعوب الأوروبية هو تفضيل الحكم العثماني المسلم على الأوروبي، يقول توماس أرنولد بأن "أصحاب "كالفن  Calvin  في المجر وترانسلفانيا، وأصحاب مذهب التوحيد من المسيحيين الذين كانوا في ترانسلفانيا، طالما آثروا الخضوع للأتراك على الوقوع في أيدي أسرة هابسبورج المتعصبة، ونظر البروتستانت في سيليزيا إلى تركيا بعيون الرغبة، وتمنوا بسرور أن يشتروا الحرية الدينية بالخضوع للحكم الإسلامي، وحدث أن هرب اليهود الإسبانيون المضطهدون في جموع هائلة، فلم يلجئوا إلا إلى تركيا في نهاية القرن الخامس عشر، كذلك نرى القوزاق الذين ينتمون إلى فرقة المؤمنين القدماء -الذين اضطهدتهم كنيسة الدولة الروسية- قد وجدوا من التسامح في ممالك السلطان ما أنكره عليهم إخوانهم في المسيحية"[2].

إذا قارنَّا التاريخ بالتاريخ فالنتيجة محسومة، إذ الحرية في الغرب عمرها قصير، ثم هي بعد ذلك مقصورة على مواطنيهم أو بعض مواطنيهم بينما الوجه الغربي البشع بادٍ في كل مكان احتله الغربيون أو ما زالوا يحتلونه ويهيمنون عليه.

بل إنه حتى لو قارنَّا اللحظة الحاضرة بين الغرب وبلاد الإسلام فلن يكون الغرب بريئا مما صارت إليه أحوال المسلمين، فالغرب كان وما يزال صاحب مرحلة الاحتلال البغيضة التي تخلفت فيها الأمة، ثم لم يخرج بجسده حتى كان قد مهّد ومكن في بلادنا لعملائه المستبدين الذين ما يزال يرعاهم ويحوطهم، ثم هو المتآمر على الثورات الشعبية العامل على إفسادها، فلئن كانت ثمة مقارنة ستميل إلى صالح الغرب فهي في أحد وجوهها مقارنة بين الوجهين الغربيين: الوجه البشع في بلادنا والوجه المتزين في بلادهم.

(3) النظرية والواقع

القارئ لليبراليين العرب يجد فيضا من أسماء الفلاسفة الغربيين حتى ليبدو كل منهم حريصا على استعراض مهارته في سرد أكبر عدد ممكن من الأسماء التي يوحي بأنه هضم أفكارهم وفلسفاتهم، وهذا المشهد يمثل تكرارا للشيوعين في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ويتفق المشهدان في الغزل المستمر لهذه الأفكار.

لكنهم لا يخرجون من مقارنة هذه النظريات لمقارنتها بـ "النظريات" الإسلامية الواردة في نصوص الكتاب والسنة والتراث الفقهي والأصولي الإسلامي، بل يهرعون إلى مقارنة ذلك بـ "الواقع" الإسلامي، سواء من التاريخ أو الحاضر، فيتحدثون عن الخليفة الذي كان همه السيف والخليفة الذي كان همه النساء والخليفة الذي كان يعذب أعداءه ويقطعهم... إلخ، ودعك الآن من أن كثيرا من الوقائع التي يتحدثون عنها غير ثابتة تاريخيا أو يأخذونها من كتب الأدب والأقاصيص والأهازيج، إنما المهم الذي نناقشة الآن هو هذه المنهجية في مقارنة "النظريات" بـ "الوقائع"، فلا هي مقارنة نظريات بنظريات ولا مقارنة وقائع بوقائع.

ولأن الغرض مرض فهم لا يتوقفون كثيرا أمام نظريات غربية ترسخ العبودية وتجعلها حتمية إنسانية، رغم أنها نظريات قال بها "الآباء المؤسسون الكبار" للثقافة الغربية مثل أفلاطون وتوماس مور (وهما أشهر اسمين في نظريات "المدينة الفاضلة") بينما يتوقفون طويلا ويستنكرون طويلا "سماح" الإسلام بوجود عبيد، وهو فارق دقيق وضخم لم يفهمه التغريبيون في بلادنا بينما فهمه بعض الغربيين مثل الخبير والقانوني الإيطالي دافيد دي سانتيلانا الذي يقرر أن القاعدة في الشريعة هي الحرية وأنه قد ترتب على هذا أمور كثيرة منها أن اللقيط المجهول أصله ترجح حريته على عبوديته، وأن المشكوك في حريته لا يجبر على إثبات حريته حتى تنهض القرائن والدلائل القضائية على عكس ما يزعم، وأن حالة الحرية ترجح عند وجود الشك، وأنه لا يجوز لمن كان حرا أن يبيع حريته أو يساوم عليها، والحر الذي يرغب في العبودية لا يُقَرّ على هذا، ثم قال: "وقد بشر الإسلام بهذه المساواة في وقت لم يعرف عنها العالم المسيحي شيئا"، وفي نهاية بحثه شهد شهادة منصف فقال: "المستوى الأخلاقي الرفيع الذي يسم الجانب الأكبر من شريعة العرب قد عمل على تطوير وترقية مفاهيمنا العصرية، وهنا يكمن فضل هذه الشريعة الباقي على مر الدهور"[3].

إنه لابد من مساحة بين النظرية والتطبيق، تلك حقيقة يفرضها مثالية التفكير وبشرية التطبيق، فالمقارنة تصح بين نظرية وأخرى أو بين تطبيق وآخر، وحتى لو شئنا أن نقارن بين "مستوى النجاح في تطبيق النظرية" فسنجد أنفسنا إزاء حقيقة صادمة لهم، ذلك أن الإسلام اشتمل على عصور ذهبية كانت فيه النظرية أقرب شيء إلى الواقع كعهد النبي (صلى الله عليه وسلم) والخلافة الراشدة وعديد من الخلفاء الصالحين، بينما لم ينجح تصور واحد من تصورات المدينة الفاضلة في الغرب كما تقرر الباحثة الإيطالية ماري لويزا برنيري بعد دراسة مطولة ومهمة في كتابها "المدينة الفاضلة عبر التاريخ".

***

ما تزال ثم مغالطات أخرى غير هذه الثلاث لكن المقام ضاق عن إيرادها، فلعلنا نستكملها في حديث قادم إن شاء الله.

نشر في مجلة الوعي الإسلامي، إبريل 2014، جمادى الآخرة 1435


[1] كارين أرمسترونج: سيرة النبي محمد، ص32.
[2] توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام ص181، 182.
[3] دافيد دي سانتيلانا: القانون والمجتمع، دراسة منشورة في كتاب (تراث الإسلام) بإشراف توماس أرنولد، ص417، 432، 439.