الأحد، نوفمبر 30، 2014

أخلاق المسلمين بأقلام المؤرخين الغربيين



لا يكاد المرء يدرك قيمة أن هذه الأمة هي "خير أمة أخرجت للناس" قدر ما يدركه حين يقرأ في كتب المستشرقين –لا سيما من أنصفوا- وفي كتب الرحالة الغربيين، فالقوم يدركون مما عندنا أشياء لا ننتبه نحن لها للاعتياد عليها، كما أن أبصارنا وأبصار المصلحين فيمن قبلنا تتجه إلى العيوب والمساوئ لإصلاحها، فيقل الشعور العام بأن أمتنا –خصوصا في أوقات ازدهارها- إنما كانت فردوس الأرض في عين الآخرين.

والمادة المكتوبة في هذا الموضوع غزيرة جدا، وقد كُتِب فيها بحوث كثيرة، ولهذا التقطنا من بينها تنويعات بين العصور، وتنويعات في وجوه الأخلاق، وتنويعات من الكتب أيضا[1].

العدل والمساواة

قال الأديب والفيلسوف البريطاني الشهير توماس كارلايل: "في الإسلام خُلَّةٌ أراها من أشرف الخلال وأجلها، وهي التسوية بين الناس، وهذا يدل على أصدق النظر وأصوب الرأي، فنفس المؤمن راجحة بجميع دول الأرض، والناس في الإسلام سواء، والإسلام لا يكتفي بجعل الصدقة سنة محبوبة بل يجعلها فرضا حتما على كل مسلم، وقاعدة من قواعد الإسلام، ثم يقدرها بالنسبة إلى ثروة الرجل، فتكون جزءا من أربعين من الثروة، تعطى إلى الفقراء والمساكين والمنكوبين، جميل والله كل هذا، وما هو إلا صوت الإنسانية، صوت الرحمة والإخاء والمساواة، يصيح من فؤاد ذلك الرجل محمد، ابن القفار والصحراء"[2].

فضائل المسلمين

ذلك ما يشهد به المفكر والقانوني الفرنسي دومينيك سورديل في استعراضه لأخلاق المسلمين، يقول: "لا يمكن إنكار أن الإسلام مارس فضائل حقيقية وخاصة منها الفضائل الاجتماعية، وهي استجابة لنداءات القرآن، نعثر فيها على أساليب تضيف إلى وصايا الله، وتبدو كأنها استمرار للبر؛ وذلك كما تحدد الآية الرائعة التالية: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون}. فالتعاون وحسن الضيافة والكرم والأمانة للالتزامات -التي تؤخذ تجاه أعضاء المجتمع والاعتدال في الرغبات والقناعة- تلك هي الفضائل التي لا تزال تميز المسلمين، وهي مثالية حقيقية[3]، تريد أن ترتقي بقوى الطبيعة البشرية، والتي تكفي لإعطائهم عزة نفس وكرامة كان يجهلها عرب الجاهلية"[4].

وقال مؤرخ الحضارة ول ديورانت: "ويبدو بوجه عام أن المسلم كان أرقى من المسيحي في خلقه التجاري، وفي وفائه بوعده، وإخلاصه للمعاهدات التي يعقدها مع غيره، ولقد أجمعت الآراء على أن صلاح الدين كان أنبل من اشترك في الحروب الصليبية. والمسلمون شرفاء فيما يختص بعادة الكذب، فهم يبيحون الكذب إذا كان فيه نجاة من الموت، أو حسم لخصومة، أو إدخال السرور على زوجة، أو خدعة في الحرب لأعداء الدين. والآداب الإسلامية تجمع بين التكلف والبشاشة، وحديث المسلم ملئ بالتحية والمبالغة في التأدب، والمسلمون كاليهود يحيي بعضهم بعضا، وينحني الواحد منهم لصاحبه ويصافحه، ويقول له: السلام عليكم. والرد الصحيح لهذه التحية: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته. وإكرام الضيف من صفاتهم العامة... المألوف أن المسلم كان مثال الرقة، والإنسانية، والتسامح، وكان -إذا وصفنا أواسط الناس- سريع الفهم، حاد الذكاء، سريع التهيج، يسهل إدخال السرور إلى قلبه، والمرح على نفسه؛ يجد الرضا في البساطة، ويصبر على بلواه في هدوء، ويتلقى جميع حوادث الأيام بصبر، وكرامة، وشمم، وكبرياء"[5].

رحمة المسلمين بالمنكوبين

ربما تكون حقبة الحروب الصليبية ثاني أكثر حقبة شهدت إسلام المحاربين بعد حقبة الفتوح الإسلامية، وقد سجَّل المستشرق الإنجليزي الشهير توماس أرنولد في كتابه العديد من أخبار التحول للإسلام من بين صفوف الصليبيين الذين قدموا إلى الشرق أصلا لحرب المسلمين، إذ لم يجد هؤلاء بعد آلام الحرب من يحنو ويعطف عليهم إلا في معسكر المسلمين، فأسلم كثيرون منهم، وسجل ذلك كافة الغربيين الذين ذهبوا إلى الشرق حينئذ، حتى لم يعد من حلٍّ أمام هذه الظاهرة إلا أن أرسل القديس أموري دي لاروش، وكان رئيس فرسان المعبد، إلى أوروبا (664هـ = 1266م) يلتمس من البابا ونوابه في فرنسا وصقلية أن يمنعوا "الفقراء والشيوخ والعاجزين عن حمل السلاح من عبور البحر إلى فلسطين، لأن أمثال هؤلاء الأشخاص كانوا يتعرضون إما للقتل أو الأسر أو لأن يفتنهم العرب عن دينهم"، وحتى من لم يدخل في الإسلام منهم آثر أن يبقى في بلاد المسلمين وتحت ظلهم ورعايتهم، فقد كانوا "راضين كل الرضا عن سادتهم الجدد"[6].

وتسجل المستشرقة الألمانية زيجريد هونكه وثيقة مهمة كتبها أسير صليبي للملك الكامل الأيوبي بعد المعاملة الكريمة منه للأسرى من بعد ما كان منهم من إجرام في دمياط، تقول هونكه: "لما انتصر السلطان الكامل على هذه الحملة سنة (1221م) أكرم أسراهم، ولم يقتص منهم: العين بالعين، والسن بالسن، وإنما أطعمهم في مسغبة أربعة أيام طوالا، مرسلا إلى جيوشهم المتضورة جوعا كل يوم ثلاثين ألف رغيف، ومواد غذائية أخرى، وشهد بهذا الإكرام أحد هؤلاء الأسرى - عالم الفلسفة اللاهوتية أوليفروس من كولونيا نهر الراين بألمانيا - فكتب يقول للملك الكامل:

منذ تقادم العهود لم يسمع المرء بمثل هذا الترفق والجود، خاصة إزاء أسرى العدو اللدود، ولما شاء الله أن نكون أسراك، لم نعرفك مستبدا طاغية، ولا سيدا داهية، وإنما عرفناك أبا رحيما، شملنا بالإحسان والطيبات، وعونا منقذا في كل النوائب والملمات، ومن ذا الذي يمكن أن يشك لحظة في أن مثل هذا الجود والتسامح والرحمة من عند الله. إن الرجال الذين قتلنا آباءهم وأبناءهم وبناتهم وإخوانهم وأخواتهم، وأذقناهم مر العذاب، لما غدونا أسراهم، وكدنا نموت جوعا، راحوا يؤثروننا على أنفسهم على ما بها من خصاصة، وأسدوا إلينا كل ما استطاعوا من إحسان، بينما كنا تحت رحمتهم لا حول لنا ولا سلطان"[7].

معاملة المسلمين لغير المسلمين

هذه النقطة تحديدا أفاضت فيها كل المراجع التي تحدثت عن المسلمين، إذ كان هذا الموضوع من أظهر وأوضح الفروقات بين مجتمع المسلمين وغيرهم من المجتمعات، وقد أخذنا ثلاث مقتبسات فحسب من بين آلاف الصفحات المكتوبة في هذا الموضوع:

1. يقول هنري دي كاستري -الكاتب والعسكري الفرنسي الذي خدم في الجزائر- والذي قال: "أنا قد قرأت التاريخ، وكان رأيي -بعد ذلك- أن معاملة المسلمين للمسحيين تدل على ترفع عن الغلظة في المعاشرة، وعلى حسن مسايرة، ولطف مجاملة، وهو إحساس لم يشاهد في غير المسلمين إذا ذاك، وخصوصا أن الشفقة والحنان كان عنوان الضعف عند الأوربيين، وهذه الحقيقة لا أرى وجها للطعن فيها على وجه العموم"[8].

2. ولقد كان لهذا أثر كبير كما يقول المستشرق الألماني آدم ميتز: "وجود النصارى بين المسلمين كان سببا لظهور مبادئ التسامح، التي ينادي بها المصلحون المحدثون، وكانت الحاجة إلى المعيشة المشتركة -وما ينبغي أن يكون فيها من وفاق- مما أوجد من أول الأمر نوعا من التسامح، الذي لم يكن معروفا في أوربا في العصور الوسطى، ومظهر هذا التسامح نشوء علم مقارنة الأديان، أي دراسة الملل والنحل على اختلافها، والإقبال على هذا العلم بشغف عظيم"[9].

3. ولهذا فضَّل كثير من غير المسلمين الحكم الإسلامي على حكم طغاتهم، ومن كان مضطهدا في بلده هرع هاربا إلى بلاد المسلمين، يقول المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون: "في إيطاليا عبرت كثير من الأقاليم لحكوماتها المستبدة عن أنها ترحب من كل قلبها بغزو تركي مثلما فعل بعض البلقانيين المسيحيين"، ولقد "لجأ أتباع مذهب (كالفن) (1509 - 1564م) في هنغاريا وترنسلفانيا، وبروتسنت سيليزيا، وقدماء المؤمنين من قفقاس روسيا إلى تركيا، أو تطلعوا إلى الباب العالي في هروبهم من الاضطهاد الكاثوليكي أو الأرثوذكسي، وذلك مثلما فعل اليهود الإسبانيون قبل ذلك بقرنين"[10].

المسلمون والرفق بالحيوان

يقول المستشرق الفرنسي المعروف جوستاف لوبون: "يُعامل الشرقيون الكلاب وجميع الحيوانات برفق عظيم، ولا ترى عربيًّا يؤذي حيوانًا، وإيذاء الحيوان من عادة سائقي العربات في أوربا، وليس من الضروري –إذن- أن يؤلف العرب جمعيات رفق بالحيوان، والحق إن الشرق جنة الحيوانات، وفي الشرق تُراعى الحيوانات الكلاب والهررة والطيور... وتحلق الطيور في المساجد، وتوكِّر في أطنافها مطمئنة، وتأوي الكراكيُّ إلى الحقول من غير أن تُؤذى، ولا تجد صبيًّا يمسُّ وكنًا، وقد قيل لي في القاهرة بصيغة التوكيد -وهذا يدل على ما ذكره بعض المؤلفين- إن في القاهرة مسجدًا تأتيه الهررة في ساعات معينة لتتناول طعامها وفق شروط أحد الواقفين منذ زمن طويل، وجزئيات كتلك تدلُّ على طبائع الأمة، وتدلُّ على درجة افتقار الأوربيين إلى تعلم الشيء الكثير من حلم الشرقيين وأُنسهم"[11].

أسف وحسرة!

ويتحسر جوستاف لوبون على أن المسلمين هُزِموا أمام شارل مارتل في معركة بلاط الشهداء، ويردّ على من يعتبر هذا إنقاذا للبشرية بقوله "لنفرض جدلا أن النصارى عجزوا عن دحر العرب، وأن العرب وجدوا جوّ شمال فرنسا غير بارد ولا ماطر كجو إسبانيا، ، فطابت لهم الإقامة الدائمة به، فماذا كان يصيب أوربا؟ كان يصيب أوربا النصرانية المتبربرة مثل ما أصاب إسبانيا من الحضارة الزاهرة تحت راية النبي العربي، وكان لا يحدث في أوربا التي تكون قد هذبت ما حدث فيها من الكبائر كالحروب الدينية، وملحمة سان بارتملي، ومظالم محاكم التفتيش وكل ما لم يعرفه المسلمون من الوقائع الخطيرة التي ضرجت أوربا بالدماء عدة قرون"[12].

ومثله يرى الكولونيل البريطاني رونالد بودلي –وهو الذي تغيرت حياته لما عاش بين البدو المغاربة فأحبهم وأثنى عليهم وألف كتابا في سيرة النبي- أنها مأساة لكنه يرى أن الأوروبيين قوما معقدين، ولهذا لم يكن لينتشر بينهم الإسلام، يقول: "ما كانت أوربا لتعتنق الإسلام لو أن شارل مارتل قد هزم في تور (مدينة قريبة من موقع معركة بلاط الشهداء)، فهذا الدين يوائم أناسا غير معقدين؛ أناسا أرواحهم قريبة من الطبيعة، والعرب حقا غير معقدين، وكان محمد غير معقد"، أما المسلمون فقد "كانوا كالغيث الذي يخصب المكان الذي ينزل فيه"[13].

نشر في نون بوست


[1] ونحن نوصي ونرجو أن يرجع القارئ الكريم إلى هذه الكتب (وجلها أصبح متوفرا على الانترنت بالمجان) وليقرأ في سيرة أجداده وكيف كانت حضارتهم رحمة للعالمين.
[2] توماس كارلايل: الأبطال ص80.
[3] كلمة "مثالية" في الذهن الغربي تكون بمعنى خيالية أو أسطورية أو غير حقيقية أو لا يمكن تحقيقها.. فهو هنا يؤكد على أن هذه الفضائل التي تبدو كأساطير قد تحققت في المسلمين فعلا.
[4] دومينيك سورديل: الإسلام ص107.
[5] ول ديورانت: قصة الحضارة 13/141 وما بعدها.
[6] توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام ص108 وما بعدها.
[7] زيجريد هونكه: الله ليس كذلك ص33.
[8] هنري دي كاستري: الإسلام خواطر وسوانح ص79.
[9] آدم ميتز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري 1/61.
[10] مكسيم رودنسون: الصورة الغربية والدراسات الغربية والإسلامية، ضمن "تراث الإسلام" بإشراف شاخت وبوزوروث ص49، 55.
[11] جوستاف لوبون: حضارة العرب ص360، 361.
[12] جوستاف لوبون: حضارة العرب ص317.
[13] رونالد فيكتور بودلي: الرسول ص147، 340.

الجمعة، نوفمبر 28، 2014

معركة الهوية مستمرة

أيا ما كانت نتائج يوم 28 نوفمبر التي حملت عنوان "انتفاضة الشباب المسلم" وشعارها "معركة الهوية"، فإن هذه الدعوة قد نجحت في تحقيق كثير من أهدافها من قبل أن يبدأ اليوم!

لقد أبانت هذه الدعوة عن الاصطفاف الحقيقي الكائن في الساحة المصرية، التي هي جزء من الساحة العربية والإسلامية، تلك الساحة التي تجري عليها المعركة العالمية منذ مائتي سنة.. هذه المعركة هي بوضوح "معركة الهوية".

لم يكن العرب وشعوب الشرق الأدنى شيئا قبل الإسلام، الإسلام وحدهم جعلهم أمة عظيمة حققت أعظم النتائج في أسرع وقت وبأعمق رسوخ، فلقد فتح المسلمون في ثمانين سنة ما فتحه الروم في ثمانية قرون، وصنعوا دولة عظيمة وحضارة زاهرة لألف عام على الأقل، ثم –وأهم من كل ما سبق- نشأت أمة جديدة تتحد في الدين ويتحد ثلثها في اللغة، وترتبط بقيم ومفاهيم وثقافة مشتركة رغم تباعد الزمان والمكان واللغات!

بهذا الدين، ولأول مرة ظهرت هذه الأمة على سطح التاريخ، ولهذا فإن المعركة الناجحة للاحتلال الأجنبي كانت معركة تغييب هذه الهوية وتزييفها وصناعة ولاءات أخرى: عرقية، قومية، قطرية .. إلخ! وحققت في بعض الأحيان نجاحات كبرى، وهي نجاحات بالقهر والسيف في عموم الأحوال، حتى ظهر من قال:

آمنت بالبعث ربا لا شريك له .. وبالعروبة دينا ما له ثان
وقال الآخر
هبوني عيدا يجعل العرب أمة .. وسيروا بجثماني على دين برهم
سلام على كفر يوحِّد بيننا .. وأهلا وسهلا بعده بجهنم

وقال ثالث: "الهرم أقدس عندي من المسجد الأقصى"، وقال رابع: "القبطي المصري أهم عندي من المسلم الأفغاني"... وهكذا!

هذا التاريخ الذي استطاع فيه الغرب صناعة هويات جديدة لشعوب هذا الشرق، وفرض عليهم حكاما اعتنقوا هذه القناعات.. هذا التاريخ هو نفسه تاريخ الهزائم والنكبات والضياع الكبير!

منذ أن سادت هذه الهويات في بلادنا لم نحقق أي نصر على عدونا، لم يستطع المصريون ذوي الهوية الفرعونية أن يبعثوا مجد الفراعنة أبدا، ولم يستطع القوميون العرب أن يجمعوا الأمة العربية أبدا، بل لم تتقزم مصر في تاريخها كله كما تقزمت تحت حكم "المتفرعنين" ولم يذق العرب من الوبال والنكال كما ذاقوا على يد هذه الحكومات "المتعربة"!

معركة الهوية أعادت المعركة القائمة في بلادنا إلى حقيقتها، إنها تحاول إزالة هذه الهويات المصطنعة المزيفة التي صُبِغنا بها قهرا، بيد الاحتلال ثم بيد عملائه وصنائعه وكل هذا تحت إشراف الغرب وتوجيهه.

إن حركات المقاومة في هذا الشرق آلت إلى الإسلاميين، فلست تجد الآن أي حركة مقاومة ضد الاحتلال إلا وهي إسلامية. كذلك هذه الثورات التي اشتعلت في بلادنا.. لقد آلت إلى الإسلاميين أيضا، فسواء كانت الثورة سلمية وانقلبت إلى مسلحة (سوريا، ليبيا) أو كانت سلمية وانقلب عليها مسلح (مصر)، أو سلمية وما زالت تعاني (تونس، واليمن)، فلن تجد في كل هذه الثورات من فاعلين إلا الإسلاميين في مواجهة النظم القديمة التي يدعمها الغرب ويرعاها.. مما يدلك دلالة بالغة على أنها معركة هوية.

وفي مصر –التي هي في قلب الموضوع الآن- تجد ثورة في مواجهة انقلاب، ولن يختلف الحال لو وضعت الإسلاميين في خانة الثورة والعلمانيين في خانة الانقلاب.. إنها نفس المعسكرات، وشواذ الإسلاميين هم من وقفوا في معسكر الانقلاب، وشواذ العلمانيين هم من وقفوا في معسكر الثورة، ولكل قوم نخالة!

إن أفكار الإنسانية الواحدة والعالم الواحد والثقافة الواحدة هي أفكار هرائية تخلى عنها الغرب منذ زمن، وهو لا يستعملها إلا في سياق دعائي إعلامي كجزء من إلحاق الناس به وقهرهم على مذهبه، لا كجزء من صناعة سلام عالمي!

ولا بأس أن نسوق على هذا شيئا من كلام الغربيين أنفسهم؛ إذ إن محاولة توحيد العالم في أمة واحدة عسكريا ليست بأفشل من توهم إمكانية توحيدها ثقافيا وحضاريا، فكما "وثَّق العديد من العلماء، وكما بيَّنت الأحداث الجيوسياسية عمليا، فإن البشر لا يفكرون عادة "تفكيرا كوكبيا"، وإن الثقافة المحلية، والقومية، والإقليمية، والتاريخ، والدين، والسياسات، ليست جاهزة كي تكنس إلى سلة النفايات التي سُميت "التاريخ"، وإن أولئك الذين تخيلوا غير ذلك يعانون الآن صدمات كريهة"[1].

لقد انهار حلم لطالما راود خيال الكثيرين على اختلاف نظراتهم: الحكماء العقلاء الفلاسفة ومعهم الشعراء العاطفيون الخياليون ومعهم السياسيون المعرفون بالانتهازية إلى جانب الأتقياء الزاهدين، حلم الكثيرون من هؤلاء بعالم واحد، وأغراهم التقدم في وسائل الاتصال والمواصلات بأن الأمر ممكن، وقريب، ويلوح في الأفق ولا يحتاج إلا لبذل بعض الجهد.

كان الظن بأن أساس المشكلة سوء تفاهم ناتج عن الجهل وضعف التواصل، وحيث إن هذا السبب على وشك النهاية فلا بد أننا سنصل عند نهايته إلى بداية الحلم السعيد!

ومن المدهش أنه في اللحظة التي انهار فيها الاتحاد السوفيتي ولم يعد في العالم إلا قطب واحد هو أمريكا، حدث ما لم يكن متوقعا، وخرج من قلب القطب المنتصر من يتحدث عن أن الحلم السعيد قد تحقق ولكن "لنا نحن .. وحدنا"!!

كان هذا فوكوياما، أعلن أننا وصلنا إلى نهاية التاريخ، تلك النقطة التي تمثل هوسا غربيا حقيقيا ينتجه فلاسفتهم كل فترة[2]، وأن الليبرالية هي ذروة مسيرة الإنسان، وأن العالم سينقسم إلى قسمين "عالم ما بعد التاريخ" الذي يسكنه "إنسان ما بعد التاريخ"، و"عالم التاريخ" الذي يسكنه "إنسان التاريخ"، ووضع فوكوياما حدودا صارمة تضمن أن يتمتع إنسان ما بعد التاريخ بثروات إنسان ما قبل التاريخ دون أن يستطيع هذا الأخير مضايقة الأول في أرضه أو تهديده بسلاح ما، وأعلن أنه يجب التعامل بالقوة مع عالم وإنسان التاريخ.

تبخر حلم العالم الواحد والسلام العالمي والثقافة الواحدة وكافة مظاهر السعادة، هكذا في لحظة! وأشد بؤسا من هذا الحلم الضائع أن فوكوياما تأمل في حال ما بعد التاريخ فوجده مأساويا كئيبا!! لماذا يا ابن فوكوياما؟! لأن كل شيء موجود ومتوفر ومن ثم فلا منافسة ولا إبداع ولا كفاح ولا شيئا مما يجعل للحياة طعما!

يا له من حلم جميل، اتضح أنه أقبح من كل قبيح!!

لكن فصول القصة لم تنتهِ بعد، فقد تصدى للرد عليه مُنظّر آخر شهير، هو صمويل هنتنجتون، بكتابه الأشهر "صدام الحضارات"، فدعاه لأن يكون واقعيا وعقلانيا وأن يبصر أن العالم ينقسم إلى حضارات، كل قوم يعكفون على هويتهم التي تميزهم وينفخون فيها الروح والحياة ويتمسكون بها وينسجون حولها أحلامهم وآمالهم، ومن ثم فيجب علينا أن نحدد من نحن لنحدد من الذين ينبغي أن نكرههم ونعاديهم ونحاربهم!

وأجرى هنتنجتون قسمة حضارية جديدة جمع بها الغرب في وحدة واحدة استثنى منها السلافيين في شرق أوروبا، وحزم أمره ونصب معسكراته وأخذ يبدي توصياته بشأن ما سيكون عليه الحال في الملحمة الكبرى الموعودة: صدام الحضارات!

هكذا بدت لحظة الحلم الذي انتظره الناس طويلا حينما تحقق!

لقد أطال هنتنجتون في إثبات أن البشر لا يفكرون بشكل عالمي، بل يفكرون بشكل أكثر خصوصية، يفكرون كأمم متميزة لا كأمة إنسانية واحدة، وكلامه هذا حق، إلا أن الشيء الثابت عنده وعند غيره أن هذا الاختلاف سيؤدي إلى الحرب حتما وقولا واحدا.

فأما تمايُز الناس إلى أمم فهو حق، وأما أن الاختلاف الرئيسي بينهم هو "ثقافي" فهذا حق أيضا، وكل ذلك عندنا حقيقة إلهية، نأخذها من قول ربنا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه} [آل عمران: 110]، ففي هذه الآية معنى تمايز البشر إلى أمم، ومعنى تفاضل بعض الأمم على بعض، ثم معنى أن أمة الإسلام هي أفضل هذه الأمم لما تقوم به من خير لباقي الأمم، ومعنى أن التقسيم الصادق للبشر إنما هو بالنظر إلى أديانهم.

إلا أن المسارعة إلى دفع هذا الاختلاف إلى الحرب هو المثير للتأمل!

ففي الإسلام لا يكون الاختلاف موجبا للقتال، بل القتال مكروه في فطرة الناس، ولا يؤمر به إلا لدفع باطل بإقامة حق، ولئن كان الصراع بين الحق والباطل مستمرا فإن هذا يقع على جهة الإرادة الكونية لا الإرادة الشرعية، ثم إن الإسلام إذ يقاتل لا تكون النتيجة أن يتخذ ذلك سبيلا لقهر المغلوبين وإدخالهم فيه.

بينما يطرح الفكر الغربي مسألة الحرب كضرورة حتى في لحظة النصر، فما إن سقط الخطر الأحمر حتى بحثوا عن خطر جديد: الخطر الأخضر!

وحيث إننا نحن هذا الخطر الأخطر، فما يبدو أن ثمة خيارًا أمامنا، بل حال أخي العرب الآن كحال نصر بن سيار إذ يحرض ويقول:

أبلغ ربيعة من مرو وإخوتهم ... فليغضبوا قبل ألا ينفع الغضب
ولينصبوا الحرب إن القوم قد نصبوا ... حربا تُحَرَّق في حافاتها الحطب
من كان يسألني عن أصل دينهمُ ... فإن دينهم أن يُقتل العرب

ولئن كنا سنغضب وننصب الحرب، فإننا قبل ذلك وبعده أهل دين ورسالة ودعوة، فليست تجزئنا الحرب وحدها أمام الله تعالى، بل لا يجزئنا إلا أن ندعوهم إلى الخير، فإن أبوا تعاونَّا معهم على الخير وكف الشر، فإن أبوا إلا الحرب فما حيلة المضطر إلا ركوبها!

***

إن قسمة الناس إلى أمم لم يصنعها السابقون الأولون فمن ثَمَّ يكون تقليدهم جمود ومَعَرَّة، بل هي قسمة إلهية في عقيدتنا، ثم إن هذه القسمة ليست مدخلا للتنازع والحروب بل هي مجعولة للتكامل والتعاضد، ثم إنه ليس لأحد -بقسمة الأرض أو العرق أو اللون أو اللغة- فضل على أحد فيعطيه ذلك الحق في قهر غيره والسطو على نفسه وعلى ما بيده. وكل هذا قد قيل في آية واحدة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].

كما أن الحلم الذي يراود خيال الفلاسفة والشعراء على السواء، حلم توحد الإنسانية على خير ما في الماضي والحاضر وخير ما في الشرق والغرب، إنما هو متحقق في الإسلام وحده؛ إذ الأمة الإسلامية تتجاوز كل حواجز الاختلاف التي يظنونها مُفضيةً إلى التنازع والتقاتل؛ فرابطة الدين تجمعها وتتفوق على روابط اللون والعرق والأرض واللغة والجغرافيا والتاريخ، فكل من أسلم لله إنما هو فرد في هذه الأمة سواء كان في الشرق أو في الغرب، وهذا هو الاجتماع على "الفكرة، القيمة، المطلق ... "، فالاجتماع على الدين هو في حقيقته اجتماع على خير ما في الإنسانية شرقها وغربها ماضيها وحاضرها.

على أن لهذا المعنى تفصيل ليس الآن مقام بيانه! فنتركه لموضع آخر إن شاء الله.

نشر في نون بوست


[1] ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص49، 50.
[2] بخلاف كل ما كتبه الغربيون في المدينة الفاضلة من أحلام منذ أفلاطون (أقلهم خيالا) وحتى توماس مور (أكثرهم خيالا)، فإنه حتى هيجل وكانت كانا في ذات حالة فوكوياما هذه في أجواء الثورة الفرنسية، كذلك وبدرجة أقل قليلا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ثم الثانية، يتحدثون عن دولة واحدة وسلام عالمي .. ولنا نحن فقط! أيضا!!