الخميس، مايو 15، 2014

الجهاد العلمي (2/2)



لم يكن حديثنا عن الجهاد العلمي في المقال الماضي[1] نوعا من اجترار الأمجاد أو التفاخر بما فعله أجدادنا كحيلة عاجز، بل كان مقدمة ضرورية للحديث عن أن ساحة الجهاد في هذا العصر أحوج ما تكون إلى هذا النوع من الجهاد.. الجهاد العلمي.

لم تخل الحروب يوما من الحاجة إلى العلم، حتى في زمن السيوف والرماح والخيول، فكانت الجودة في صناعة السلاح مما يُهتم به ويُثنى عليه، فيسمى السيف مهندا لما للهنود من مهارة في صنعه، ويصنع بنصل ونصلين، ويختار للقوس نوع الوتر وحد السهم، ويُفتش في الجياد والخيول عما يُطمئن إلى قدرتها على الركض والانصياع لفارسها. واستعمل البيزنطيون مادة لهب عرفت باسم "النار البيزنطية" التي كانت لا تنطفئ بالماء بل يزيد لهبها ولقد عانى منها المسلمون كثيرا حتى اكتشفوا سرها بعد ثلاثة قرون فطوروها وانتصروا بها[2] وهي التي تطورت فيما بعد إلى البارود، كما واضطر المسلمون إلى البحث عن مواد غير قابلة للاشتعال ليغطوا بها حركة المركبات القديمة في اقتحام الأسوار لئلا تؤثر فيها السهام المشتعلة.

إلا أن كل هذا يتضاءل حتى لا يُكاد يُرى إلى جوار ضرورة العلوم للجهاد في العصر الحديث، ذلك العصر الذي صارت أسلحته جميعا "مخترعات علمية"، وصار استعمالها معقدا إلى الحد الذي لا بد من تدريب عليه لإجادته، وصار الصاروخ يوجه من مقر بعيد عبر أقمار صناعية معلقة في الفضاء، وتطير الطائرة بغير طيار بتحكم من مركز قابع على بعد مئات الآلاف من الأميال.. حتى أبسط الأمور صارت صناعة علمية كالبنادق ومناظير الرؤية الليلية ونوعية لباس الجنود!

لا مفر من حيازة العلم، فهو واجب في نفسه ولا يتم واجب الجهاد إلا به فهو أيضا واجب لازم لغيره، وتكاد تكون كل لحظة مهدرة في مسار تحصيل العلم تساوي –في أقل الأحوال- مئات الأرواح من المسلمين، فاللحظة الحضارية لا تقاس بالسنين وإنما بالقفزات العلمية، وأسبق الناس إلى العلم أقدرهم على تحسين موقعه في ميزان القوى لسنين.

إلا أننا في لحظة أخرى فارقة، ذلك أن الأمة التي تشتعل شرقا وغربا بجهاد –يتفاوت في شدته وتطوره- مرير، وتعاني لحظات التهديد الكبير في دينها ودنياها، تلك الأمة هي الأقدر على تثوير طاقتها واستثمار كل المجهودات في الدفاع عن دينها وذاتها وبقائها.

ومن سنة الله تعالى أن سنة التدافع هي التي تفجر الطاقات المكنونة فتمنع من البغي {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]، ففي ظل الحروب تتطور العلوم، بل الحروب هي الأسباب الأكبر لتطويرها لما ينبعث في كل قوم من حاجتهم للنصر، حتى لا تكاد تجد قوما في انبعاثهم الحضاري إلا هم مندفعون نحو تطوير علومهم لتصب في صالح القوة العسكرية، ثم تحتاج القوة العسكرية إلى تطوير العلوم، وهكذا تدور الدائرة المغلقة حتى تخفت الإرادة ويتحقق الرخاء فيبدأ الفتور الذي يعود على العلوم العسكرية بالضعف ثم على الأمة جميعا، فتسقط على أيدي قوم أقل منها في علوم الحضارة وآدابها، وأقوى منها في الأمور العسكرية.

ومهما كان القوم متخلفون في العلوم والحضارة إلا أن غاية النصر تدفعهم إلى الأخذ بها، فحتى المغول الذين يُضرب بهم المثل في التوحش كانوا إذا دخلوا مدينة أخذوا منها أرباب الصنائع وأرسلوهم إلى عاصمتهم ثم أبادوا الباقين، وكافة المهتمين بتاريخ العلوم يعرف ماذا أحدثت الحرب العالمية الثانية من قفزات علمية هائلة في الاتصالات والصناعات، بل هذا الاختراع الذي غير وجه الدنيا (الانترنت) هو بالأصل اختراع عسكري أمريكي لصناعة شبكة حواسيب لا مركزية.

على عكس ما يتوقع الكثيرون فإن الأمم تنهض وهي تحارب لا وهي مسترخية، والأمثلة على هذا أكبر من أن تحصى، فالمصريون أثناء الحملة الفرنسية –ومع الفارق الرهيب- استطاعوا إنشاء معمل للبارود، واستطاعوا إعادة تصنيع واستعمال ما بقي من المدافع التالفة، واستعلموا الأدوات البدائية من حجر وأخشاب ومثاقيل الموازين وما ضُرِب عليهم من قنابل الفرنسيين ليعيدوا صناعتها كقنابل تُطْلَق من المدافع، وكان أبطال المشهد هم أصحاب الحرف من السباكين والنجارين والحدادين والعربجية، حتى ليقول ضابط فرنسي "لقينا مقاومة لا قبل لنا بشراستها وتنظيمها من قبل"، ويشهد أحد مهندسي الحملة بأن ما فعله سكان القاهرة "لم يستطع أحد أن يقوم به من قبل، فقد صنعوا البارود وصنعوا القنابل من حديد المساجد وأدوات الصُنّاع، وفعلوا ما يصعب تصديقه -ومن رأى ليس كمن سمع- ذلك أنهم صنعوا المدافع"، بل يشهد كليبر-قائد الحملة الفرنسية آنذاك- بأنه لم يكن يتصور الوضع على هذه الدرجة من الخطورة[3].

وها هي إسرائيل لم تزل تتطور وهي تحارب، وها نحن لم نزل نتخلف ونحن نتسول السلام، ولم تفلح عقود السلام في إنشاء تطورات عسكرية في حين تقفز البلاد التي تحارب لتجرب الجديد من سلاحها فينا وعلى أرضنا، ثم تلقي إلينا بما صدأ منها لتستلب أموالنا ثم لا نفعل به شيئا.

وإليك النموذج الصارخ: حماس في غزة، وسلطة رام الله في الضفة.. هؤلاء قوم اختاروا المقاومة فصنعوا صواريخ محلية ويعملون على تجارب طيران واخترقوا مواقع إسرائيلية، وأولئك تسولوا بالسلام فلم يفعلوا شيئا.

وذات الكلام يقال على الجهاد في الشام، وعلى الجهاد في كل مكان، فهناك يصنع الشباب من المركبات البالية ما يعد مخترعات عسكرية مطورة بأدوات بدائية وتحقق أهدافا مؤثرة.

ثم نحن إذا استنفدنا الجهد وبقي الفارق كبيرا، فإننا على رجاء من رحمة الله وفضله على أوليائه[4].

على أنه يجب التنبيه على أمر في غاية الأهمية والخطورة، وذلك أننا لسنا مجبرين على المضي في ذات المسار، ففارق السنين لن نقضي في ردمه سنين، بل نحتاج إلى الإبداع الذي يقطع المسارات في لحظات، هذا الإبداع هو الذي يقفز بالحركة قفزات غير متخيلة كما حدث عبر التاريخ.

لقد أبطلت الطائرات (الفكرة المبتكرة) عمل الأسوار والخنادق والحصون فجعلت كل جهود الأقدمين بلا قيمة تقريبا، تماما كما أبطلت الدبابات والمركبات عمل الخيول، وكما أبطلت البنادق عمل السهام والرماح، وأبطلت المدافع عمل المجانيق .. إلخ

ورغم ما يفرضه الغرب من حصار علمي على العالم الإسلامي، ورقابة حتى على المواد الإلكترونية التي قد تستعمل في تصنيع أسلحة عسكرية، إلا أن الإبداع قادر على اختراق كل هذا، فالعقول بيد الله وهو الفتاح الوهاب العليم.
لقد استطاع عبد القدير خان أن يصنع القنبلة النووية الباكستانية على غير مثال سابق –بما يعد اختراعا جديدا- إذ كان الدعم العلمي معدوما، ولولا إرادة وعزم وذكاء لما تمكنت من باكستان من تحقيق توازن ردع أو توازن نووي ليس مع الهند فقط بل مع أي دولة أخرى[5]، وهذا دليل على أننا قادرون على الوصول إلى حيث انتهى الآخرون بل وأبعد منهم إذا انطلقنا من حيث انتهوا لا من حيث بدأوا.

ثم ولو افترضنا أن الفجوة غير قابلة للردم –وهذا لا يمكن أن يكون صحيحا- فإن الإبداع قادر على اصطناع مساحات جديدة غير متوقعة، فلئن استحال إنتاج قنابل نووية –على سبيل المثال- فالأسلحة الكيماوية والبيولوجية هي نوع من توازن الردع، وهذه مساحة واسعة بعدد ما في الكون من مواد وبعدد ما خلق الله من عقول تركب وتخلط وتوازن وتبتكر.

ثم إن النظم الإلكترونية التي هي كالشرايين في أرجاء العالم الحديث تمثل بالنسبة للضعفاء فرصة ومساحة جديدة للإبداع، ليس فقط على سبيل الاختراق وتعطيل أجهزة العدو بل على سبيل ابتكار أنظمة وبرامج جديدة تساهم في تعديل ميزان القوى والتحكم في هذه المنظومة.. بل تكاد تكون هذه المساحة بكرا تنتظر كل إسهام فعال.

ولئن كان مراهق فلسطيني اكتشف ثغرات في الفيس بوك –المعدود من المواقع العالمية الكبرى- واخترق بدون أي برامج صفحات رسمية لمسؤولين إسرائيليين[6]، فكيف إذا تضافرت عقول وقلوب ومؤسسات؟!!

إن أوامر الله بالإعداد ووعده بالنصر، وسيرة النبي وتعاليمه، وتاريخ الأجداد وعلومهم وجهادهم.. ثم حال الأمة هذا، ليدفع بكل نفس لديها الحد الأدنى من العزة والكرامة أن تشتد في طلب الغاية حتى تدركها.



[2] يعود الفضل في اكتشاف سر هذه النار إلى غزوة تسالونيك –المدينة الثانية بعد القسطنطينية- التي قادها الأمير المسلم غلام زرافة عام (291 هـ)، ثم طورها المسلمون في معاركهم مع الصليبيين بعدئذ خصوصا في عصر الدولة الأيوبية. انظر: محمد عبد الله عنان: مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام ص93 وما بعدها، د. علي الصلابي: الدولة الأموية 2/38، 39.
[3] الجبرتي: عجائب الآثار 2/ 326 وما بعدها، جوزيف ماري مواريه: مذكرات ضابط في الحملة الفرنسية على مصر ص155 وما بعدها، الرافعي: تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم 2/ 173.
[4] قص الشيخ عبد الله عزام في كتابه "آيات الرحمن في جهاد الأفغان" ست قصص تعمل فيها الطيور في دعم المجاهدين، إما بتنبيههم قبل القصف، أو بحمايتهم منه، أو بالتشويش على طائرات الروس.. وقد سمعنا كثيرا مثل هذا في حروب رمضان 1393 (أكتوبر 1973م) وفي جهاد غزة والشام والعراق وغيرها، بل لا يكاد يخلو جهاد من مثل هذا مهما كان صغيرا ومحدودا.
[5] أما كون القنبلة قد أفسدها عمل الساسة فهذا حديث آخر يأتي في مقام: كيف نحمي إنجازاتنا من العملاء والأغبياء.
[6] تقرير أذاعته قناة الأقصى في شهر مارس 2014م.

الخميس، مايو 08، 2014

الاحتضان الإسلامي لغير المسلمين (الموسرين)




بدأ حديثنا قبل أشهر عن "جاذبية الإسلام الاجتماعية"، تلك التي تمثل الباب الدائم للدخول في الإسلام سواء أكانت دولة الإسلام قوية عزيزة أو ضعيفة مقهورة، تلك الجاذبية التي تفتح بلادا لم تصلها جيوش الفاتحين، والتي تجذب حتى المحتلين لتدخلهم في دين المسلمين. ذلك أنه أمر يمارسه المسلمون بطبيعتهم وسجيتهم، ولهذا فالخطاب متوجه فيها لكل مسلم إذ العطاء فيه لا يتوقف على قرار رسمي أو حكومي إلا فيما ندر.



وقد تناولنا في المقالات الماضية شرائح من غير المسلمين الذين يحتكون بالمجتمع الإسلامي، فتحدثنا عن السائحين وعن الخدم وعن العمال، وحديثنا في هذه السطور عن الموسرين من السفراء والدبلوماسيين وأرباب الصنائع والأعمال والمهارات العلمية الذين يعملون في بلادنا في جوانب الصناعة والتعليم والمستثمرين، واخترنا لفظ "الموسرين" لأنه يشمل من استغنى عن الناس ومن فاض عنده المال.



والموسرون شريحة أصعب من سابقيها، فأولئك لهم حاجات تفتح لنا أبواب قلوبهم؛ فالسائح متشوق لمعرفة ما لدينا من جديد وغريب عليه، والخادم والعامل محتاج إلى ما يسد حاجته، بينما ذلك الموسر مطلوبٌ لا طالب، ولعله في كثير من الأحيان يكون متعاليا مترفعا قدم من بلاد أغنى وأفضل تقدما فهو ينظر إلينا وإلى بلادنا وثقافتنا من علٍّ.



إلا أنهم وإن كانوا أصعب فهم كذلك أقوى أثرا وأكثر فاعلية من غيرهم إن كتب الله لهم الهداية، فإنهم أبواب أقوام ذوي علم وغنى ونفوذ، ودوائر تأثيرهم من السعة والانتشار لا تقارن بغيرهم، ثم إنهم –بعد كل هذا- فيهم بعضٌ من نفسية السائح الذي يتعرف على بلاد وأفكار وأناسي غريبة، وبعض من روح العامل فيما يرجوه من مكسب وأموال، فيصح في حقه بعض ما قلناه في المقالات الماضية من وسائل وأفكار.



والمدخل إلى جميع الناس هو الأخلاق، فهي أمر مضطرد في حالات من أسلموا من جميع الشرائح والمستويات، وأمر الأخلاق لا مجال له إلا المعاملة ولا ينفع فيه التنظير، ومدخل الأخلاق واسع فسيح من أول البسمة العابرة إلى الإغاثة في الملمات والمصائب، وأهم ما فيه المعاملات المالية التي هي المحك الحقيقي لأخلاق الصدق والأمانة والعدل والإحسان والزهد والاستقامة، مما تنطبع النفوس بفطرتها على توقيره والتأثر به. والأخلاق كالكنانة كثيرة السهام، لا تدري أي السهام ستصيب فتفتح القلوب، حتى الذي أسلم قد لا يتذكر أي موقف ذلك الذي بدأ في فتح قلبه للإسلام، لكنه يتذكر ذلك الشعور الذي يبدأ صغيرا ثم يسيطر عليه للتعرف على الإسلام، وهو شعور تراكمي ناتج لا ريب عن مواقف صغيرة متتابعة وإن كانت متباعدة.



***



في رحلتنا لتتبع قصص من أسلموا من شريحة الموسرين لنحاول استكناه ما يميز هذه الشريحة واستكناه أفضل المداخل لها وجدنا ما يلي:



1.    الفراغ الروحي

     

وذلك أن الإنسان مهما تحققت له مطالب الجسد لم تغنه عن مطالب الروح، وهذا القلق الروحي يقوم مقام الجوع للجسد فلا بد له من إشباع، ومن هنا نجد كثيرا من هؤلاء يُسلمون لأقل سبب مثل سماع الأذان أو سماع القرآن حتى وهو لا يفهمه، وبعضهم يرى شيئا من حياة المسلمين فتمثل له لغزا محيرا حتى يجد السر في الإسلام، فيقبل عليه، وبعضهم يحقق كافة النجاحات التي طلبها في الدنيا ثم يجد نفسه ما زالت تطلب شيئا مجهولا.



ولنأخذ مثالا على هؤلاء السفير الألماني مراد هوفمان والذي اعتنق الإسلام لما رآه من شعب الجزائر –الذي كان آنئذ تحت الاحتلال والقتل اليومي- من إيمان ويقين والتزام، ولما رآه من مواقف أخلاقية نادرة مثل السائق الجزائري الذي عرض أن يتبرع بدمه لزوجته المريضة، وترى في قصته شوقا روحيا قاهرا لا يشبعه إلا القرآن الكريم وفيضان الفن الإسلامي، يقول: "بدأت أقرأ "كتابهم" القرآن في ترجمته الفرنسية، ولم أتوقف عن قراءته منذ ذلك الحين حتى الآن... إنني محاط في المنزل الآن بفن تجريدي، ومن ثَمَّ بفن إسلامي فقط. وأدركها أيضًا عندما يستمر تاريخ الفن الغربي عاجزًا عن مجرد تعريف الفن الإسلامي. ويبدو أن سره يكمن في حضور الإسلام في حميمية شديدة في كل مظاهر هذا الفن، كما في الخط، والأرابيسك، ونقوش السجاد، وعمارة المساجد والمنازل والمدن. إنني أفكر كثيرًا في أسرار إضاءة المساجد، وفي بناء القصور الإسلامية، الذي يُوحي بحركة متجهة إلى الداخل، بحدائقها الموحية بالجنة بظلالها الوارفة، وينابيعها ومجاريها المائية، وفي الهيكل الاجتماعي - الوظيفي الباهر للمدن الإسلامية القديمة".



وفي عام 2000م أسلم السفير الإيطالي لدى السعودية توركواتو كارديللي، وذكر أن إسلامه إنما هو تتويج لرحلة بحث استمرت عشر سنوات في التعرف على الإسلام وأهله وطبائعهم، وأعلن الرجل إسلامه عام 2001 الذي يعد وقت الذروة في الهجوم على الإسلام ووصمه بالإرهاب وإعلان الحرب العالمية عليه. فما كان أغناه عن الإسلام في هذا الوقت وهذا الظرف لولا أن أشواق الروح لا مسكن لها إلا ذلك الاطمئنان إلى ما وقر فيها.







2.    الأسئلة الكبرى

    

وهي من لوازم الفراغ الروحي إلا أنها تظهر فيمن حقق أحلامه ومن لم يحققها أو من يبحث عن حلم ومعنى وغاية، وتلك الأسئلة الكبرى تكثر لدى أصحاب الرأي والفكر والنظر، وأهل العلم والثقافة والأدب، فأولئك القوم أقدر على تحديد المشكلة وطرح الأسئلة وتكوين الأفكار.



وينتشر عند أهل كل فنٍّ نوعٌ من الأسئلة الملتصقة بفنونهم، فعامة أسئلة الأحبار والكهنة والقساوسة هي فيما يتعلق بصدق النبي محمد والمقارنة بين الإسلام والمسيحية والشبهات الشهيرة في هذا الموضوع، بينما يتعلق الفلاسفة والمفكرون بأسئلة الحياة والموت والمصير، أسئلة الخير والشر والعدالة والظلم والسعادة والتعاسة، ويكون الأدباء والفنانون والشعراء أكثر فردية ومباشرة إذ يدور بحثهم عن الإنسان والرغبات والشهوات والسعادة والتعاسة ونحو هذا.



فإذا تيسر لهم من أجاد (أولا) استيعابهم إنسانيا ثم (ثانيا) محاورتهم علميا وبأدب فالمظنون أنه يفلح معهم إن شاء الله، لا سيما إن قدَّم لهم منظورا مختلفا للحياة، أو لامس جوابه حيرة قائمة ملتهبة لم تحصل على جواب شافٍ بعد.



وعامة ما يحدث حينئذ لا يكون الدخول في الإسلام مباشرة، بل أولئك قوم يستكملون طريق البحث والمعرفة بأنفسهم، فيتأملون ويختبرون ما قيل لهم، ثم تأتي لحظة دخولهم في الإسلام كثمرة نهائية، لكنها تكون في ذات الوقت انطلاقة أخرى، وثمرة تأتي بعدها بثمرات خالدات، وغالبا ما يتحول هؤلاء إلى دعاة متميزين للإسلام ويكون إنتاجهم الفكري فتحا في بابه.



ولنأخذ مثالا على هذا الداعية العالمي الشهير يوسف استس، والذي أسلم على يد رجل مسلم اجتذبه بالأخلاق الطيبة ثم بالإجابات البسيطة عن الإسلام والمسيحية فصار من الدعاة العالميين، ولقد وصف يوسف استس أخلاق الرجل الذي اهتدى على يديه بقوله: "مثل هذا الرجل ينقصه جناحان ويصبح كالملائكة يطير بهما"، وبعد مناقشات امتدت لشهور كانت هذه الليلة التي يصفها بقوله: "مشينا وتكلمنا طوال تلك الليلة، وحان وقت صلاة الفجر.. عندها أيقنت أن الحقيقة قد جاءت أخيراً، وأصبحت الفرصة مهيئة أمامي... أذن الفجر، ثم استلقيت على لوح خشبي ووضعت رأسي على الأرض، وسألت إلهي إن كان هناك أن يرشدني... وبعد فترة رفعت رأسي إلى أعلى فلم ألحظ شيئاً، ولم أر طيوراً أو ملائكة تنزل من السماء، ولم أسمع أصواتاً أو موسيقى، ولم أر أضواء... أدركت أن الأمر الآن أصبح مواتياً والتوقيت مناسباً، لكي أتوقف عن خداع نفسي، وأنه ينبغي أن أصبح مستقيماً مسلماً... عرفت الآن ما يجب علي فعله".



***



ومن هنا ندرك أنه ينبغي أن يكون لهذه الشرائح من يتوجه لها من الدعاة والعلماء، خصوصا وبعض منها مهمته هو التواصل والتعرف –كالسفراء والدبلوماسيين والإعلاميين والأدباء والشعراء والرسامين- وأن تكون هذه الفرقة من الدعاة متسلحة بحد مقبول من العلوم والمعارف التي تمثل قاعدة مشتركة لإنشاء اتصال مع هذه الشرائح.



ولربما بدا الأمر صعبا مع الأوروبيين والأمريكان لما بينهم وبين المسلمين من عداوة، لا سيما وسفاراتهم ووسائلهم الإعلامية إما ركن أصيل في الصراع السياسي أو على الأقل ليست بريئة منه، على أن الأمر يستحق المحاولة في كل حين ومع كل أحد، ولكن يبقى السؤال عن إسهامنا في التواصل مع سفراء وجاليات الدول الإفريقية والآسيوية ودول أمريكا الجنوبية، فأولئك أقرب منالا وأوطأ منزلا.



ومن الوسائل التي ينبغي طرقها هو فتح الأبواب لما يسمى بـ "الدبلوماسية الشعبية" التي تفتح الباب أمام الدعاة والمراكز الإسلامية والمتطوعين للتواصل مع ممثلي هذه الدول وجالياتها وإمكانية الاستفادة منهم في تمتين أواصر العلاقة بين بلادنا وبلادهم ونشر الدعوة فيها.



وإن اعتبار هؤلاء من المؤلفة قلوبهم سيجعل لهم نصيبا في مصارف الزكاة، ولقد كان نبينا (صلى الله عليه وسلم) يعطي المؤلفة قلوبهم العطاء الكبير، حتى ليأخذ الواحد منهم ما بين جبلين من الغنم فيذهب إلى قومه قائلا "أسلموا، فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر"، وكم دخل الإسلامَ أقوامٌ لما فيه من حظ الدنيا ثم صار الإسلام أحب إليهم من أنفسهم وأبنائهم والناس أجمعين. فمن كان يملك العطاء فلا يبخل به.



ومن الوسائل الجديدة ما ابتكرته بعض المراكز الإسلامية من جمع بعض هذه الجاليات ليعيشوا يوما في حياة المسلمين، فيدخلون المسجد ويمارسون الصلاة وربما الصيام وترتدي النساء الحجاب، ومنها كذلك فكرة الاحتضان العائلي بالإقامة لدى عائلة مسلمة ما تيسر لها من أيام أو أسابيع،



لكن ينبغي التنبه إلى أمر هام، وهو أن هذا العطاء بالمال وهذا الاحتضان الاجتماعي إنما يجب فيه أن يكون من موضع القوة والعزة والوعي والانتباه، وألا يشوبه من الأمور ما قد يُفسَّر على أنه بلاهة وسذاجة وإعجاب وتودد نابع من موقع المنهزم نفسيا أمام خصمه الحضاري. فكم حملت إلينا مذكرات المستشرقين والرحالة والجواسيس من هذه الأنباء حسرات، فما إن يظن أولئك القوم أنهم في موضع الرغبة والرهبة والتفوق الحضاري والعلو النفسي حتى تنقلب الأمور، وإن قصص لورنس العرب وأضرابه أشهر من أن تُحْكى.



إن هذا المعنى خفي في قصص من أسلموا لكنه مضطرد فيها، معنى الاعتزاز بالإسلام والزهد فيما عندهم، ومن المواقف العجيبة التي يمكن إيرادها هنا قصة القس المصري إسحاق هلال مسيحة والذي كان يركب إحدى المواصلات العامة في القاهرة، فصعد إليها طفل صغير يبيع كتيِّبات دينية، فأعطى جميع الركاب ولم يعطه منها، يقول: "قلت له: "يا بنيّ لماذا أعطيت الجميع بالحافلة إلا أنا". فقال: "لا يا أبونا أنت قسيس". وهنا شعرت وكأنّني لست أهلاً لحمل هذه الكتيّبات مع صغر حجمها (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُون) . ألححت عليه ليبيعني منهم فقال: "لا دي كتب إسلاميّة" ونزل، وبنزول هذا الصّبي من الحافلة شعرت وكأنّني جوعان وفي هذه الكتب شبعي وكأنّني عطشان وفيها شربي. نزلت خلفه فجرى خائفاً منّي فنسيت من أنا وجريت وراءه حتّى حصلت على كتابين. عندما وصلت إلى الكنيسة الكبرى بالعبّاسيّة (الكاتدرائيّة المرقسيّة) ودخلت إلى غرفة النّوم المخصّصة بالمدعوّين رسميّاً كنت مرهقاً من السفر، ولكن عندما أخرجت أحد الكتابين وهو (جزء عم) وفتحته وقع بصري على سورة الإخلاص فأيقظت عقلي وهزت كياني. بدأت أرددها حتى حفظتها وكنت أجد في قراءتها راحة نفسية واطمئناناً قلبياً وسعادة روحية".



لقد كان ذهن هذا القس يمور بالأسئلة والشكوك قبل هذا الموقف، لكن الشاهد منه أن الفتى الصغير كانت لديه هذه العزة الفطرية والتي جعلته ينزه بيع تلك الكتب لقسٍّ مهما بذل له فيها من المال، ومقام الدعوة لا ينفصل عن مقام الاعتزاز، كما أن مقام الكرم والعطاء لا يتنافى مع مقام الوعي واليقظة.





 نشر في مجلة البشرى: رجب 1435هـ = مايو 2014م