السبت، يوليو 26، 2014

لبس عباس ثياب المناضلين!



هذه هي المرة الأولى التي تقاتل فيها إسرائيل كيانا حقيقيا مستقلا.. غزة!

ولهذا كان خالد مشعل صادقا حين فسر أزمة نتنياهو بأنه دخل غزة أعمى، وكانت عادته أن يدخلها بصيرا بعيون العملاء، فأولئك العملاء هم سبب النكبات، وهم الذين مهدوا لإسرائيل في كافة حروبها السابقة، منذ 1948 وحتى هذه الحرب، فلما استقلت غزة بشكل حقيقي بحسم المقاومة وفككت شبكات التجسس وضعت إسرائيل في موقف هو الأول من نوعه! ومن يطالع تاريخ الحروب مع إسرائيل يجد عجبا، فلك أن تعلم أن الطائرات المصرية كانت مصفوفة إلى جوار بعضها تنتظر الضرب حتى صرح قائد السرب بأن ما فعله "يفوق أكثر أحلامه جنونا"، ولك أن تعلم أن جنديا سوريا تعطلت دبابته بعد أن أتاه الأمر بالانسحاب فأراد أن يغطي انسحابه فأدار فوهة الدبابة وأطلق قذيفة واحدة تجاه الجيش الإسرائيلي، فأخَّر بهذا سقوط القنيطرة تسع ساعات، حتى لقد أُعْلِن عن سقوطها من الإذاعة السورية قبل أن تسقط!

لنعد إلى غزة حيث العزة..

السعي السياسي المحموم يدل على إن إسرائيل لا تنوي تطويل المعركة تبعا للمفاجآت، بل تريد إنهاءها بأي شكل، ثم تتفرغ للمرحلة الجديدة من الحرب "نزع سلاح المقاومة" أملا منها أنها إذا نجحت في هذه المهمة عادت للحرب من جديد!

ولكن كيف؟!

لم يطل الوقت لنخمن، فقد جاءنا الخبر اليقين، إذ ارتدى محمود عباس ثياب المناضلين، وهتف عريقات –فارس المفاوضات- هتاف المجاهدين، وخرج علينا ياسر عبد ربه يحدثنا بلسان الثائرين، وإن دسَّ في حديثه كلاما عن الميت المقبور المدعو "منظمة التحرير الفلسطينية" كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني!

فهل هي توبة جماعية جديدة نزلت على ساحة رام الله؟! فما بال التنسيق الأمني "المقدس" قائم على قدم وساق، حتى لقد قمعوا المظاهرات المساندة لغزة؟!

الواقع –كما يبدو- أن إسرائيل فتشت في سجل عملائها فوجدته فارغا إلا من جماعة رام الله، فلم تجد غيرهم لتسند إليه مهمة ارتداء ثوب المقاومة لضربها من الداخل، ولا يُستبعد أن تُقدم إسرائيل على تنازلات تبيض بها وجوههم من قبيل تجميد مؤقت للاستيطان أو دفعة أخرى للمفاوضات أو إفراج عن مساجين جنائيين فيُسَوَّق هذا على أنه "تحرير أسرى".. أو أي شيء آخر، فجراب الحاوي زاخر!

وفي حين تخلو جماعة رام الله من أي مؤهل لممارسة دور النضال والكفاح، فإن الرهان قائم على تغيير هذه الصورة من خلال ضغط إعلامي مسنود بتنازلات إسرائيلية وهمية، وكدت أقول لا مانع من إحياء المذبوح على أيديهم "كتائب شهداء الأقصى" لولا أني رأيت بالفعل أنها قد أعيدت "إعلاميا" من خلال بيان ألقاه ثلاثة ملثمين!
المعضلة الآن: هي كيف نخرج من هذه الحرب؟ وكيف نجبر حماس على القبول بالمبادرة المصرية، التي قد نسميها بعد قليل الهدنة الإنسانية؟!

هذا هو الدور الذي استجلب لنا كيري وبان كي مون ووفود دبلوماسية ظهرت في حياتنا فجأة تنتقل من الدوحة إلى اسطنبول إلى القاهرة، تحاول إنقاذ إسرائيل، والوصول لوقف إطلاق نار بلا مكاسب سياسية!

حماس صامدة حتى الآن تؤكد أنها لن توقف الحرب إلا برفع الحصار، وإنجازاتها على الأرض تؤيدها، وإن كان الثمن المبذول غاليا من دماء المدنيين الذين لا يجد الإسرائيليون غيرهم ليقتلوهم فيحققوا بهم نصرا وهميا نفسيا يغطون به خيبتهم الثقيلة وأزمتهم الخانقة.

نسأل الله أن تكون القيادة السياسية للمقاومة على مستوى القيادة العسكرية، ذكاء وصمودا وقوة، فوراءها بعد حرب غزة حرب أخرى مع جماعة رام الله في ملف "الشرعية/ المتحدث باسم الشعب الفلسطيني/ سلطة واحدة وسلاح واحد/ ... إلخ".

فهذا هو الجهاد الأكبر!

وصدق المتنبي:
وسوى الروم خلف ظهرك رومٌ .. فعلى أي جانبيك تميل

على أن مجرد الصمود في معارك الأرض ومعارك السياسة مكسب ضخم، والوقت الآن في صالحنا لا في صالحهم، إذ أن انتصار غزة هذا سيفجر –ولأول مرة في التاريخ الإسرائيلي- الصراعات البينية في مجتمعهم الذي لم يعد يجد حربا ليخوضها، فدول الجوار إما عملاء وإما أبطال لا تُكسر شوكتهم، وهم كما قال ربنا تبارك وتعالى (بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى)، فإذا سُدَّ عليهم باب تصريف الخلافات الداخلية في الحروب الخارجية فقد انفتح عليهم باب المنازعات والمشاكسات ليظهر البأس الشديد.

وفق الله المجاهدين ورزق بلاد العرب أمثالهم.

الأحد، يوليو 20، 2014

بعض ما لن يُقال عن غزة





لماذا أباح الله السكوت عن قول الحق في حال الخوف؟ بينما لم يُبِح قول الباطل إلا في حال الاضطرار خوفا من الهلاك؟

ذلك أن السكوت عن قول الحق نقص، بينما قول الباطل تزوير وتزييف وتشويش وتغيير لحقائق الأمور، والضرر من السكوت عن قول الحق لا يقارن بالضرر الناشيء عن اعتناق الباطل، فالضرر الأول "جهل"، والضرر الثاني "جهل مركب"، والجهل المركب: أن يجهل المرء الشيء وهو يظن أنه يعلم!

ولهذا ربما جاز للبعض ألا يتكلم بسوء عن الأنظمة العربية، لا سيما التي تحكمه، خوفا من بطشها المحتمل.. لكن الذي لا يجوز هو مدحهم والثناء عليهم ودعم شرعيتهم وإلباسها ثوب الحق بينما هم الباطل نفسه؛ فإن ذلك قلب للحق ليكون باطلا، فيفت في عضد أهل الحق ويزيد في عدد وعضد أهل الباطل وينصر الباطل على الحق أو على أقل تقدير يؤجل المواجهة المستحقة وقد يضيع عليها لحظة ثمينة كان يمكن أن تكون لحظة النصر.

أولى أولويات معركة الوعي أن يدرك الإنسان صديقه وعدوه، وأخطر ما في هذه المعركة حين يحيا المرء معتقدا أن الصديق عدو، وأن العدو صديق.. وذلك ما وقعنا ونقع فيه: أننا نرى هذه الأنظمة العربية منا ونحن منهم، بينما هم رجال العدو في بلادنا يقتلوننا قبل أن يطلب، ويحاصروننا قبل أن يرغب، ويسرقوننا قبل أن ينهب.. يحافظون على مصالحه، وهو يدعمهم ويحافظ على عروشهم.

وأسوأ مشاهد هذه المعركة حين تحسب الشعوب أنها أنظمة شرعية، فيتخاذلون عن الثورة، ويتخوفون من الاحتجاجات، ويأملون في أن يتغيروا من تلقاء أنفسهم، ويرضون منهم بالقليل من الفتات الذي يلقونه إليهم تخوفا من هبتهم... وهكذا!

إن إضعاف هذه الأنظمة هو تقوية للأمة، إن أحسن الأنظمة حالا من يسكت على حرب المسلمين في غزة، وإبادتهم في سوريا، وإفنائهم من إفريقيا الوسطى، وسحقهم في مصر، وتركيعهم في ليبيا، وذبحهم في بورما ... إلى آخر مذابحنا التي لا تعد.

أما غالب هذه الأنظمة فهي تشارك في هذه المذابح بيدها مرة وبأموالها مرات وبإعلامها مرات ومرات ومرات.. وقد بلغنا من الهوان حدًّا تُناقش فيه عمالتهم ومدى التزامهم بالطاعة علانية في جلسات الكونجرس وفي لقاءات المسؤولين بوسائل الإعلام.. ويمكن لمن شاء العودة إلى كلام آن باترسون في جلسة الكونجرس بتاريخ 19 سبتمبر 2013م، أو إلى أرشيف لقاءات المسؤولين الإسرائيليين عن علاقتهم وتعاونهم غير المسبوق (!) مع النظام العسكري في مصر!

بل بلغنا من الهوان حدًّا يعترفون فيه هم أنفسهم بهذه العمالة وهذا الالتزام، فوزير الخارجية المصري هو من يصرح بأن العلاقة بين مصر وأمريكا هي علاقة زواج مقدس لا نزوة عابرة، و"الخبراء الاستراتيجيون" في وسائل الإعلام المصرية يتحدثون عن المصلحة المشتركة بين مصر وإسرائيل في القضاء على الإرهاب (الذي هو المقاومة الفلسطينية)، والأمير السعودي يكتب مقالا لصحيفة هاآرتس يتحدث فيه عن مبادرة السلام في ذات الوقت الذي يشتعل فيه أطفال غزة بلهب الصواريخ الإسرائيلية.

والقصد ليس إقامة مندبة ولا مناحة ولا تكرار ما يُقال منذ عقود، القصد بوضوح هو أن يستفيق العقل العربي من أوهام أن هذه الأنظمة فيها خير أو أنه يُرجى منها صلاح أو حتى أنه يجوز التباطؤ في الثورة عليها وخلعها والقيام بكل ما من شأنه إضعافها.. ذلك أن قوة هذه الأنظمة هي قوة للعدو وضعفها إضعاف للعدو، لا كما يروج الجاهلون أو العملاء من أن ضعفها قوة للعدو.. بل الحق أن العدو لم يتمكن في بلادنا إلا بهم هم، وكان هو أحرص الناس على دعمهم وبقائهم ولو كان الثمن ملايين الأرواح وخراب البلاد.. وسوريا أمام الجميع مثال يُدمر كل الأوهام والخرافات.

والقصد أن يستفيق العقل الإسلامي فيعلم أن حكامنا اليوم لا تنطبق عليهم أحكام الفقه في تراثنا، فتاريخنا الذي كتب فيه هذا الفقه كان فيه استبداد لكنه استبداد الأثرة بالملك والظلم في الأموال ونحو ذلك، ونادر في تاريخنا أن اجتمع الاستبداد بالخيانة والولاء للعدو وتقديم المسلمين ذبائح عند قربان مصالحه.. أما الآن فإنه لا يكاد يكون لدينا مستبد إلا وهو واقع في الخيانة والعمالة، فهذا ليس مجرد المتغلب الذي يقيم الأحكام ويحفظ الثغور والذي قبل بعض الفقهاء ولايته لما فيها من مصلحة اجتماع الأمة، إنما هؤلاء من تغلبوا فلم يقيموا شرعا ولم يحفظوا ثغورا ولم يصونوا مصالح أمة بل كانوا أبواب العدو وذراعه فيها.

بغير هذه الاستفاقة وما يترتب عليها ستظل دماؤنا تسيل، ويظل البعض مكتفيا بالأماني والأحلام لا يعرف إلى التغيير طريقا!

* كتب قبل 10 أيام ولم ينشر

المنطقة الخضراء المصرية



والمنطقة الخضراء هي الدائرة الضيقة في وسط بغداد والتي تشمل مؤسسات الحكم العراقية التي تأسست وقامت في ظل الاحتلال الأمريكي، وكانت الحكومة العراقية تمارس أعمالها من داخل هذه المنطقة التي يحرسها قوات عراقية وشركات أمنية أجنبية، تمنع نيران المجاهدين في العراق من الوصول إليها، بينما باقي البلد مستباحة للأمريكان، أو بالأحرى: ساحة صراع بين الأمريكان والمجاهدين في العراق منذ جاء الاحتلال.

نموذج المنطقة الخضراء هو نموذج الشر الخالص الذي تلتقي فيه الرأسمالية بالاحتلال بالعمالة في نقطة واحدة.. كيف؟

1. نموذج الرأسمالية يؤول إلى تكديس المال بأيدي حفنة قليلة من الناس، يزيد الأغنياء غنى والفقراء فقرا، وتختفي الطبقة الوسيطة حتى تصير المجتمعات على صنفان: قلة تملك المال، وكثرة تعمل كالعبيد في الشركات والمصانع والامبراطوريات الاقتصادية، ويصير المال كما قال ربنا (دُولة بين الأغنياء منكم) ومن ثم تتحكم هذه القلة في السياسة وفي الإعلام، فصاحب المال يملك إنشاء مؤسسات إعلامية، ويملك نوعا من الضغط الاقتصادي على الحكومات، فيكون مآل كل هذا أن تتزاوج السلطة والثروة، لتكون الطبقة الغنية هي الطبقة الحاكمة، وتستطيع هذه الطبقة تفريغ الديمقراطية من مضمونها لأنها تتحكم تماما بالشعب عبر الإعلام وصياغة القوانين والتحكم في السياسة (اقرأ مثلا كتاب: السيطرة الصامتة للألمانية نورينا هيرتس، أو كتاب: أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراؤها للأمريكي جريج بالاست).

2. هذه الرأسمالية لا تكتفي بالتحكم في شعبها بل تسعى لاستنزاف الشعوب الأخرى، والكل يرى ويعرف أن أمريكا تدس أنفها في كل دولة وتهيمن –مباشرة أو عبر المؤسسات الدولية- على الموارد ومصادر الطاقة وحركة الأموال وغيره.. ومن المفيد هنا قراءة كتاب مثل "الاغتيال الاقتصادي للأمم" للأمريكي جون بيركنز حيث يشرح فيه كيف تدبر الرأسمالية الأمريكية للسيطرة على موارد الأمم بشكل ناعم عبر الشركات العالمية أو أقل نعومة عبر المؤسسات الدولية أو خشن عبر تدبير الانقلابات العسكرية أو أشد خشونة عبر الاحتلال المباشر.

3. وحيث أن الاحتلال المباشر عظيم التكاليف، فإن الاحتلال بالوكالة عبر العملاء يكون أفضل حالا، وفي هذه الحالة تهتم أمريكا بصناعة النخبة التي تحكم بلدها لتخدم مصالحها، فهي تدعمها أمنيا وعسكريا وسياسيا لتحصد من ورائها ثروات البلاد والنفوذ فيها، وحيث أن العملاء بطبيعة الحال سيكونون ضد مصالح الشعوب فلا يهمهم إلا تدبير الوضع الأمني، فإن لم يستطيعوا ضمان ذلك عبر أجهزة الأمن والجيوش المحلية التي يُغدق عليها بالأموال والمزايا لتصير طبقة منفصلة عن المجتمع ومرتبطة بمصالح النظام السياسي ومن ورائه النظام العالمي، إن لم يستطيعوا ضمان ذلك لأي ظرف استعانوا بالشركات الأمنية الأجنبية مثل البلاك ووتر أو المتقاعدين من أجهزة أمن وجيوش أخرى.

وبهذا تصير المنطقة الخضراء معبرة عن ثلاث مستويات: أمريكا في الهيمنة، والنظام السياسي الذي يخدم مصالحها، ويحميه أجهزة أمن وجيوش محلية أو مرتزقة أجانب.. ثم تصير هذه المنطقة معزولة تماما عن باقي الشعب على كل المستويات: سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وأمنيا!

فالمصالح السياسية لهذا النظام يختلف بل ويناقض المصالح السياسية للشعب، والوضع الاقتصادي لهم لا يقارن بالفقر الذي يشمل أغلب الشعب، وهذا يترتب عليه الوضع الاجتماعي إذ يتعلمون هم وأبناؤهم في مدارس وجامعات لا يستطيعها عموم الشعب، ويترتب على هذا انفصال ثقافي وتعليمي بين هذه الطبقة وبين عموم الشعب.. ثم في النهاية تكون الجيوش وأجهزة الأمن مرتبطة بهذه الطبقة وظيفتها هي الحماية ولا حرج لديها على الإطلاق في سحق الشعب كله.

فما الذي يجعلك تتوقع أن ثمة منطقة خضراء مصرية على وشك التأسيس؟!

في الحقيقة هذا ليس توقعا، هذا هو ما بحثه مجلس الوزراء في جلسة الأربعاء 16/7/2014 حول إنشاء عاصمة إدارية تضم الوزارات والمؤسسات الحاكمة، وقبله ما جرى تنفيذه من الرفع المتتالي لرواتب الجيش والشرطة ليترسخ كونهم طبقة أخرى غير طبقة الناس مهمتها حماية النظام السياسي وسحق الشعب، وبهذا يستريح الساسة والحكام حتى من صوت الاعتصامات والهتافات التي تزعج راحتهم أمام الوزارات والمؤسسات الحاكمة، ويجتمعون معا في منطقة هادئة راقية منظمة بعيدة عن غبار القاهرة وحرها وعرق أهلها ومناظرهم الكئيبة!

ثورة دي ولا انقلاب؟!

وبالمناسبة: هل يعرف أحد أين يقيم السيسي؟ أو من أين يحكم؟!

 


نشر في الجزيرة مباشر مصر

الأربعاء، يوليو 02، 2014

أوثان الوطن!



تحدثنا في المقال السابق عن أن الأوثان الوطنية إنما صنعها الاحتلال الأجنبي ليجعلها بديلا عن الهوية الإسلامية الجامعة التي كان وجودها يهدد بقاءه ومصالحه، فحرص على صناعة هويات بديلة: فرعونية وآشورية وفينيقية .. إلخ، هويات "وطنية" تعمق من تقسيمه للأمة الواحدة، وتقدس الحدود التي صنعها بين بلاده، وصار على الإنسان "الوطني" أن يؤمن بشيئين متناقضين: أن عرقه أفضل الأعراق منذ أعماق التاريخ، وأن الحدود التي صنعها الاحتلال هي التعبير الصادق عن حدود العرق المختار، رغم أن أحدا لم يقف ليسأل نفسه: هل هذه الحدود التي رسموها على الورق كانت فعلا حدود أجدادنا "العظماء" أم لا؟! ولا توقف أحد ليسأل: هل تلتزم الأنظمة والحكومات بالحدود أم أنها تتعاون وتتحالف فيما بينها على الشعوب ولا تلقي بالا للحدود؟ حتى صار الحال في النهاية أن هذه الحدود هي على الحقيقة سجون للشعوب وحدها، وأن الإيمان بالعرق الفاضل يتناقض في أساسه مع الإيمان بالدين ومع الواجبات الإنسانية التي تحرم مثلا حصار شعب جائع بذريعة "الأمن القومي"!

واليوم نستكمل الحديث عن هذه الأوثان الوطنية، ولكن في الداخل لا في الخارج.

فمثلما كان الإيمان بالوطنية العرقية الضيقة يخالف مبدأ المساواة الإنسانية ويطرح شعورا عنصريا ويتسامح مع إجراءات عنصرية، فإن أوثان الوطن –في الداخل- تخالف مبدأ المساواة بين الناس وتصنع أصناما مقدسة من حقها أن تمارس كل الأفعال العنصرية في ظل خضوع أو حتى حفاوة الجميع.

1. الجيش مثلا، خط أحمر، لماذا؟ لأنه خير أجناد الأرض، لأنه يدافع عنك وأنت نائم في بيتك، لأنه يسهر على حماية حدود الوطن ... إلخ.

وتحت هذه العناوين يكتسب العسكر حق الحكم، والبقاء فيه، والتشبث به، وتزوير الانتخابات والاستفتاءات (فالمرحلة حرجة، وكما تعرفون فنحن منذ حكمنا العسكر دائما في مرحلة حرجة، والمراحل الحرجة تستلزم حكاما أقوياء)، ثم يدخلون في الاقتصاد، فينشئون الشركات والمصانع والمزارع والنوادي التي تعفى من الضرائب وتستفيد من الدعم ولا تدفع رواتب للأيدي العاملة (فالعساكر في خدمة الوطن، والوطن هو من يدفع، والوطن يدفع من جيوب أهالي العساكر.. فالعساكر وأهلهم والشعب كله في خدمة الوطن الذي هو في خدمة العسكر).. وهكذا حتى صار اقتصاد الجيش يقترب من نصف اقتصاد البلد، وأحيانا تتفجر ينابيع الوطنية في قلوب العسكر فيتبرعون للوطن (!!) بمليار جنيه!

ومن حق الجيش أن يقتل، وأن يسحل، وأن يعاين عذرية البنات، وأن تكون له سجون عسكرية يقطع فيها أبناء الوطن.. ومن حقه أن ينقلب على إرادة الشعب، ويعزل الرئيس المنتخب ويحبسه، ويغلق القنوات، ويضع رئيسا آخر، ويرفع رواتب أعضائه، وكل ما يشاء.. فالجيش هو ضمير الوطنية المصرية، وهو حارس الأمن القومي!

2. والقضاء خط أحمر، لماذا؟ لأن القضاء المصري عريق وشامخ ونزيه، قضاء –كما يقول المواطن البسيط- "عادل مائة في المائة، قضاء لا غبار عليه"!

ولهذا لا يجوز التشكيك في القاضي، ولو كانت مسيرته هي: الفشل في الثانوية، فيدخل كلية الحقوق التي يحصلها أصحاب أدنى الدرجات، ثم الفشل في الكلية، ثم واسطة وأموال تقذف بك إلى منصب وكيل النيابة، وحيث أنك تجيد سماع الكلام وتنفيذ الأوامر فالمسار الصاعد محفوظ لتكون بعد قليل نزيها شامخا تحاكم من جاء أمامك كيفما شئت، بقانون أو بغير قانون، ولسان الواحد منهم يقول: "أنا أحيي وأميت"!

ثم لا يجوز لأحد التعليق على أحكام القضاء، فمن أنت يا قزم لتعلق على كلام الشوامخ؟ ولا حتى كلام الزند إذ يطالب صراحة بالتدخل الأجنبي ويناشد أوباما ويهتف له "أين أنت؟ إن كنت لا تدري فتلك مصيبة، وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم".. فالشامخ ضمير الوطن، وأمثالك أيها القزم ليسوا مواطنين بنظر الشامخ.

3. والأزهر الشريف.. خط أحمر، لماذا؟ لأن الأزهر هو الإسلام والإسلام هو الأزهر، والأزهر هو الوسطية والوسطية هي الأزهر، والأزهر جامعة الألف عام، والأزهر كعبة طلبة العلم... إلخ.

مهلا ياقوم! ولكن الأزهر لم يعد كما كان! لم يعد حرا مستقلا متصرفا بأمواله وأوقافه، بل هو يتلقى رواتبه من مجلس الوزراء، وشيوخه موظفون في الدولة ترفع من تشاء وتطرد من تشاء، وشيخه الحالي كان عضوا بلجنة سياسات مبارك، ولم تعد للأزهر من عهد العسكر (الوثن الأول) حرمة! فهو يُقتحم ويؤخذ منه أبناؤه وبناته فيُلقون في السجون!

ثم حتى لو كان الأزهر شريفا ونزيها ومستقلا، فمن الذي حكم بأن الإسلام محصور في الأزهر وبأنه لا يحق لغير الأزهري التدريس والدعوة وارتقاء المنابر؟!

لا يجوز لك أن تتكلم أيها المتطرف، فمن أنت لتفهم الدين وتفهم الوسطية وتفهم الشرع الشريف؟! من أنت لتنتقد الأزهر الشريف العفيف؟!

هذه ثلاثة أوثان –كمثال- جرى تقديسها ليُمنع لمسها والاقتراب منها، وبسبب هذا التقديس فشلت ثورة يناير في الاقتراب منها، كانت تظنها مقدسة ووطنية وشامخة وشريفة فعلا!! فكانت النتيجة أن انقلبت هذه الأوثان على الثورة فقتلتها وسفكت دمها!

وذلك درس خالد: أن من قدَّس غير الله عُذِّب به! وأنه يهلك القوم إذا كانوا ممن إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، ولا والله لن تفلح الثورة حتى تعلن أنه لو فسدت مؤسسة فستحاسب ولا كرامة كائنة ما كانت، اقتداء بقول سيدنا وقدوتنا محمد وهو يقول: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها!

نشر في الجزيرة مصر