الأربعاء، ديسمبر 31، 2014

الرحلات الإسلامية المُبكرة إلى الغرب



كانت الرحلات –مثلما كانت الحروب[1] والسفارات[2]- ركنا أساسيا في صلة المشرق بالمغرب واتصال المسلمين بالغرب.

لقد وصل المسلمون بجهادهم في جبهة الروم إلى غالب الأراضي التي كانوا قد استولوا عليها في المشرق، وواصلوا جهادهم ففتحوا غير قليل من أراضي الروم شرقا وغربا، فالأراضي التي لم تصلها جيوش المسلمين أبدا هي الجزء الأقل من أرض الروم، إذا ما استبعدنا العالم الجديد الذي لم يكن معروفا آنذاك.

هذه الأجزاء التي لم يصلها مجاهدون وصلها رحالة مسلمون ممن حُبِّب إليهم السفر والترحال، أو حملهم على ذلك التجارة أو السفارة أو ما سوى ذلك من الأغراض.

ونستطيع أن نقول بمجموع ما وصل إلينا من أخبار الرحلات والمؤلفات فيها إن المسلمين قد شملوا برحلاتهم بلاد أوروبا، فعرفوها بالعيان والمشاهدة لا بمجرد النقل والسماع، ويمكن أن نقسم الرحلات إلى نوعين: الرحلات الفردية التي قام بها رحالة شغوف وسجلها في كتاب، والرحلات الجماعية التي يقوم بها التجار أو المهجرين واللاجئين وأشباههم.

1. الرحلات الفردية

تتميز الرحلات الفردية بأن أغراضها علمية وأن صاحبها كان حريصا على تسجيلها، ولذلك اهتم بالتقاط ما شاهده فيها، فهو عين فاحصة منتبهة، وقد اختلفت مناهج الرحالة في تسجيل مشاهداتهم، فمنهم من اهتم بالجغرافيا، ومنهم من اهتم بالناس وأحوالهم وعوائدهم، ومنهم من اهتم بالسياسة والملوك، وربما مرَّ بالبلد الواحد أكثر من رحالة في أكثر من زمن وكان لكل منهم عين ومنهج، فكانت الصورة المنقولة تتمتع بقدر معقول من الشمول، وهذا كله بخلاف ما ضاع من تراثنا في هذا الجانب.

وأقدم من نعرفه ممن سجل رحلته إلى بلاد الروم هو ابن فضلان[3] الذي ذهب رسولا من الخليفة المقتدر إلى ملك الصقالبة بطلب من هذا الأخير، فقد طلب من يعرفهم الإسلام ووعد بأن يبني مسجدا كبيرا ومنبرا لدعوة قومه[4].

وشملت رحلات المسعودي -وقد نشأ في بغداد، وتوفي في مصر منتصف القرن الرابع الهجري- بعض أنحاء الغرب، نستشف ذلك من كلامه المنثور فيما بقي لنا من مؤلفاته -مثل مروج الذهب- لا سيما حديثه عن بحر الروم -الذي صرح أنه ركبه- وما يقع عليه من البلاد الرومية، وكانت له محاورات مع المجاهدين البحريين والتجار الذين يقطعون البحر وسجل عنهم معلومات عن البحر ومعالمه[5].

وشملت رحلة ابن حوقل -وكانت في منتصف القرن الرابع الهجر- نابولي وصقلية، وكانت صقلية تحت حكم المسلمين حينئذ، ووصف كثيرا من مشاهد وجزر بحر الروم وأحوال بعض أهلها، وسجل ما سمعه من ذوي الأعمار والترحال في بلاد الروم[6].

وبدأ الإدريسي رحلاته مبكرا، فقد ولد بالمغرب ودرس بالأندلس، وشملت رحلته فرنسا وإنجلترا[7] وآسيا الصغرى وبلاد اليونان، ثم حط رحاله واستقر في صقلية تحت حكم النورمان، وكان بلاطهم عربي السمت والرسوم إذ كان العهد قريبا بالحكم الإسلامي للجزيرة، وهناك وضع كتابه الشهير الذائع الصيت "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" ورسم أول خريطة للأرض، وقد استفاد الإدريسي أيما استفادة من موقعه إلى جوار الملك، إذ كان يجمع علم من ارتحلوا إلى الملك من النصارى في أوروبا، وعلم من أرسلهم الملك إلى أطراف الأرض ليجمعوا علمها، فكانت حصيلة الإدريسي من هذه الرحلات شيئا عظيما لم يتيسر لغيره.

وشملت رحلة أبي حامد الغرناطي -والتي سماها "تحفة الأصحاب ونخبة الأعجاب"، وكانت في مطلع القرن السادس الهجري- جزءا من البحر الأسود، وتوغل في بلاد البلغار على ضفاف نهر الفولجا وبلاد الصقالبة وإقليم باشغرد (بين البلغار والقسطنطينية)[8].

وشملت رحلة ابن جبير الأندلسي -وكانت في أواخر القرن السادس الهجري- عكا وصوراً، وكانتا تحت حكم الصليبيين، وصقلية وكانت تحت حكم النورمان[9].

وارتحل الهروي -وأصله من هراة، ووُلِد بالموصل- في أواخر القرن السادس الهجري إلى ما استطاع من بلاد المشرق والمغرب، فبلغت رحلته في أرض الروم جزيرتي صقلية وقبرص، والقسطنطينية وسالونيك وآسيا الصغرى، وسجل رحلته في كتابه "الإشارات إلى معرفة الزيارات"؛ حيث جمع فيه ما علق بذهنه من المشاهدات بعد أن ضاعت كتبه التي سجل فيها رحلته مفصلة، فبعضها غرق وبعضها نهبه جنود صليبيون أوقعوا به جنوب فلسطين في أيام الحملة الصليبية السادسة[10].

وأما شيخ الرحالة ابن بطوطة فقد كانت معظم رحلته في ديار المسلمين وبلاد الشرق، إلا أنه أصاب من الغرب شيئا حسنا، فقد دخل إلى آسيا الصغرى وصعد إلى بلاد القرم وذهب إلى آزاق (أزوف الآن) وبلاد البلغار وزار القسطنطينية، وأمدنا في كل ذلك بمعلومات قيمة.

ومما يمكن إدراجه في الرحلات الفردية التي مثلت مصدرا من مصادر معرفة المسلمين بالغرب: رحلات طلبة العلم الأوروبيين إلى بلاد المسلمين للتعلم، سواء في الأندلس أو المغرب أو المشرق، فقد كان هؤلاء ممن نقلوا الكثير من أحوال بلادهم وعوائدها إلى المسلمين.

2. الرحلات الجماعية

وأبرز ما في الرحلات الجماعية: الرحلات التجارية وحركات النزوح واللجوء. ولقد كانت هذه الرحلات الجماعية أنشط وأكبر مساحات الاحتكاك بالغرب والمعرفة به لكثرة أهلها، إلا أن أخبارها لم تسجل بل كانت قيمتها وقتية.

فبرغم أن حركة التجارة هي الحركة الأوسع في التعرف على الغرب، وبرغم أن التجار هم من أنشط فئات الناس وأذكاهم، إلا أن التجار ليست لهم سجلات يدونون فيها معارفهم، بل حظهم من الحياة ما يقيم تجارتهم، فعلمهم مقصور عليهم وعلى أزمانهم ولا يفيد الناس منه كثيرا، اللهم إلا من كان منهم مهتما بالعلم أو له باع فيه.

وقد كان التجار المسلمون من النشاط بحيث فاق كثيرا نشاط غيرهم، فحتى عام 1914م أحصيت 200 قطعة من العملة البيزنطية في السويد مقابل 38000 قطعة من العملة العربية عثر عليها هناك[11]، ولقد أنعشت حركة التجارة حركة الترجمة حتى لقد كان العثمانيون يأخذون ضريبة على المترجمين تسمى "ترجمانية"[12].

ومن حسن الحظ أن الزمن قد حفظ لنا قطعا مهمة من تراث بعض التجار، مثل إبراهيم بن يعقوب الطرطوشي، وهو تاجر أندلسي كان يعمل في جلب الرقيق الأبيض من أوروبا إلى الأندلس، وله كتاب مفقود لم يبق منه إلا ما نقله عنه مؤلفون آخرون كالبكري في المسالك والممالك والحميري في الروض المعطار، وما بقي من رحلته يفيدنا في أنه ذهب إلى ألمانيا وبلاد الصقالبة ووصل حتى شرق أوروبا وعبر البحر الأدرياتي وزار براج والتقى بالملك أوتو الكبير –إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة- والتقى عنده بسفراء من ملك البلغار، وفي ألمانيا التقى بتجار عرب قادمين من بلاد المجر يحملون الدقيق والقصدير والفراء، وزار كذلك بلاد الخزر، ويشير د. حسين مؤنس إلى معلومة بالغة الأهمية في سياقنا هذا، وهي أن الطرطوشي لم يذكر أن أهل بلاد الخزر في ذلك الوقت كانوا يهودا برغم أن كتاب اليهود يطيلون الحديث عن دخول الخزر في اليهودية وانتشارها فيهم حينئذ، وقد انتفع المستشرقون بهذه القطعة ذات الأهمية الكبيرة في تاريخ الروس القدامى وأحوالهم، وهي من أهم ما وُجِد في المصادر الإسلامية عن وسط أوروبا وشرقها. ويتوقع برنارد لويس أن رحلته كانت من الأندلس إلى فرنسا ثم هولندا ثم شمال ألمانيا وبوهيميا وبولندا، وأن عودته ربما كانت عن طريق شمال إيطاليا[13].

وفيما نزعم فإن حركة المهجرين هي ثاني أوسع الحركات في التعرف على الغرب بعد حركة التجارة، وكثيرا ما أسفرت الحروب المستمرة على أطراف العالم الإسلامي وفي أعماقه أحيانا عن حركات نزوح واسعة بفعل مذابح الروم أو استيلائهم على البلد، ثم لقد ألقت الأندلس إلى المغرب بطوفان من أبنائها خلال أربعة قرون منذ بدأ تساقط حواضر الأندلس، وحتى الموجة الكبرى مع سقوط غرناطة ومحاكم التفتيش ثم قرار الطرد والتهجير. كذلك فقد ألقت كافة الأراضي التي كانت تحت سلطان العثمانيين إلى ما جاورها من بلاد المسلمين طوفانا أكبر عبر ثلاثة قرون منذ بدأ الضعف يدب في أوصال الدولة العثمانية وتتساقط حواضرها أمام الروس أو الأوروبيين، وقد عانى المسلمون مثلما عانى إخوانهم قبلهم في الأندلس من المذابح وعمليات الإبادة ومحاكم تفتيش جديدة.
ولم يكن المهجرون في هذه الأحوال من المسلمين فحسب، بل كثيرا ما استقبلت الدولة العثمانية الهاربين من الاضطهاد الديني الأوروبي، وقد فرَّ كثير من يهود الأندلس إلى الدولة العثمانية، كما فرَّ كثير من المسيحيين البروتستانت والموحدين إلى الدولة العثمانية، كذلك فرَّ القوزاق من اضطهاد الكنيسة الأرثوذكسية الروسية إلى الدولة العثمانية أيضا[14].

إلا أن المهاجرين -كالتجار- لا يسجلون لنا معارفهم سوى من كان منهم من أهل العلم، بل سوى من يهتم بمثل هذا من أهل العلم، غير أن كل هذه الحركة مثلت -في وقتها- إضافات ضخمة للعالم الإسلامي عن الغرب وأحواله ولغاته وثقافته.

ومما يمكن إدراجه في الرحلات الجماعية كذلك: رحلات الغربيين للحج إلى بيت المقدس، وقد كانت هذه مزية للتعرف عليهم وليس للغربيين مثلها، إذ ليس في بلادهم ما يحج إليه المسلمون، وقد تمتعت ديار المسلمين بالأمن وحماية الأماكن المقدسة والإحسان إلى عموم الذميين والمستأمنين، مما جعل رحلة حجهم إلى بيت المقدس رحلة آمنة وحدثا يتمتع بالاستقرار في غالب الأحوال، وهو حدث مستمر لا ينقطع بسلم أو بحرب، فمن هنا كانت رحلة الحج مصدرا متجددا من مصادر معرفة المسلمين بأهل الغرب.

نشر في نون بوست


[1] اقرأ:
-         موجز تاريخ الصدام بين الإسلام والغرب (الجزء الأول، الجزء الثاني، الجزء الثالث، الجزء الرابع)
[2] اقرأ: السفارات الإسلامية الغربية (الجزء الأول، الجزء الثاني)
[3] عاش بين النصف الثاني من القرن الثالث الهجري والنصف الأول من القرن الرابع الهجري.
[4] كان البلغار في ذلك العصر يسكنون قريبا من قازان إلى الشمال من بحر الخزر، ثم تحركوا شرقا حتى كانوا في القرن الثامن الهجري قد صاروا إلى شمال البحر الأسود، كما يصف ابن بطوطة، ولم يكونوا قد استقروا بعد في وطنهم المعروف باسمهم اليوم، وهم في الأصل ترك مسلمون في غالبيتهم، ثم تحولوا إلى النصرانية في مسيرهم نحو بلادهم الحالية. د. حسين مؤنس: ابن بطوطة ورحلاته ص12، 13.
[5] المسعودي: مروج الذهب 1/108، 118 وما بعدها (ط دار الفكر).
[6] ابن حوقل: صورة الأرض 1/118 وما بعدها، 190 وما بعدها.
[7] ذهاب الإدريسي إلى إنجلترا وفرنسا إنما هو استنتاج لبعض الباحثين دفعهم إليه أن الوصف المذكور لهذه المناطق من الدقة بحيث لا يمكن إلا أن يكون نتيجة مشاهدة ومعاينة، ويرى آخرون أن هذا لا يصلح دليلا. انظر: د. حسين مؤنس: تاريخ الجغرافيا والجغرافيين ص170.
[8] Le Tuhfat al-Albab de Abu Hamid al-Andalusi Al-Gharnati, etided d'apres les mss. 2167, 2138, 2170 de la Bibliotheque National et le Ms. D'alger, par Gabriel Ferrand. Jornal Asiatique, Juillet Septembre 1925. p. 112 – 120.
[9] ابن جبير: رحلة ابن جبير ص276 وما بعدها، ص294 وما بعدها.
[10] الهروي: الإشارات إلى معرفة الزيارات ص53 وما بعدها.
[11] د. عثمان بن جمعة ضميرية: السفارة والسفراء في الإسلام ص17، 18. وهو ينقل عن: د. محمد حميد الله: دولة الإسلام والعالم.
[12] برنارد لويس: اكتشاف المسلمين لأوروبا ص92.
[13] د. حسن مؤنس: تاريخ الجغرافية والجغرافيين في الأندلس ص76 وما بعدها، برنارد لويس: اكتشاف المسلمين لأوروبا ص111.
[14] توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام ص181، 182.

الأحد، ديسمبر 28، 2014

السفارات الإسلامية الغربية (2 - 2)



ما زلنا نواصل إلقاء الضوء على تاريخ العلاقات الإسلامية الغربية، فاستعرضنا موجز تاريخ الصدام بين الإسلام والغرب في أربعة أجزاء (الأول، الثاني، الثالث، الرابع) ثم ما نبت على ضفاف الحروب من علاقات، ثم العلاقات الدبلوماسية المتمثلة بالسفارات وتبادل الهداية.

وقد استعرضنا في المقال السابق شذرات عن السفارات منذ زمن النبي حتى أواسط العصر العباسي، ونواصل هذا الحديث فيما يلي من سطور:

وأما مرحلة الحروب الصليبية فلم يكن يكافئ كثرة المعارك فيها إلا كثرة السفارات التي تثمر معاهدات هدنة قصيرة أو طويلة بحسب الأحوال، فإن تعددت الأطراف -إذا دخل إمبراطور بيزنطة على خط الصراع، أو جاءت حملة جديدة، أو انشق أمير صليبي أو مسلم- كان ثمة سفارات أخرى سرية وعلنية لترتيب الأوضاع، وعقد ما يستجد من تحالفات ومعاهدات.

ولم يختلف حال السفارات كثيرا في عهد المماليك، إلا أنه كان أقل من عصر الحروب الصليبية، فقد تمكن المماليك من تطهير الساحل الشامي وانتهت الحملات الصليبية إلى الفشل، ومن ثمَّ كان تواصلهم الأهم مع أوروبا مقتصرا على بلاد آسيا الوسطى -التي صارت في ذلك الوقت مسلمة في غالبها، ومن ثمَّ فلا تُعتبر من الغرب حينئذ- ومن خلفهم من بلاد البلغار والصرب، والجمهوريات الجنوبية كجنوة والبندقية، وجرت لهم مراسلات مع الإسبان أيضا، ومن يطالع كتاب القلقشندي "صبح الأعشى" –وقد عمل لعشر سنوات كاتبا في بلاط السلطان الظاهر برقوق- يجد مادة مهمة في مكاتبات السلاطين المماليك مع هذه البلاد ومعلومات قيمة عنها وعن ملوكها وتبدل أحوالها وما يترتب على هذا من ألقاب وآداب الرسائل والمخاطبة[1]، وكتاب القلقشندي هو خلاصة ما كتب قبله في هذا الباب[2]، ومن طرائف ما وقع في مراسلات المماليك والإسبان أن المراسلات كانت مستمرة بينهما مع ما يعرفه كل طرف من عداوة الآخر له، فأرسل ملك الإسبان مرة هدية: سيفا ونعشا، فكان ظاهرها الهدية وباطنها التهديد، فرُدَّ عليه بهدية أخرى: حبل وحجر أسود، ظاهرها الهدية أيضا وباطنها تشبيهه بالكلب إما أن يُربط بالحبل أو يُضرب بالحجر[3]، ونرى من بين أعضاء السفارات في هذا العصر نجوما لامعة بحجم ابن واصل وابن خلدون.

لكن الزيادة في العلاقات انتقلت إلى الدولة العثمانية التي افتتحت جبهة أخرى مع البيزنطيين وفي شرق أوروبا، حتى أنها لما قضت على الدولة البيزنطية استكملت المسير نحو ممالك أوروبا، ثم ظهر لها في الشمال الروس، وقد تطورت العلاقات السياسية عبر القرون حتى صارت السفارات العلمية بعثات علمية حين أيقن العثمانيون بأنهم في حاجة إلى التعلم من أوروبا، فمنذ أواخر القرن السادس عشر "صار عُرفا عند سفراء تركيا إلى أوروبا أن يكتبوا تقارير مفصلة عند عودتهم إلى بلادهم يصفون ما شاهدوه، وما قاموا به من أعمال"[4]، وبعدها صار ثمة سفراء دائمون وبعثات أجنبية متبادلة بين الدول تقوم على رعاية الأجانب المقيمين في الدولة وتسعى للحفاظ على ما لهم من امتيازات -أُخِذت بالرضا أو بالحرب- كما تسعى لانتزاع امتيازات جديدة، ومن ثَمَّ فإن أخبار السفارات في العصر العثماني هي أغزر ما لدينا من مواد في هذا المجال.

وفي الجناح الغربي للعالم الإسلامي كانت للأندلس علاقات سياسية أيضا بما جاورها من ممالك أوروبا حتى أقصى الشرق الأوروبي: القسطنطينة، وقد حاول الإمبراطور البيزنطي تيوفيلوس (توفلس) مواجهة الغزوات العباسية في أرضه بفتح قنوات اتصال سياسية مع أمير الأندلس عبد الرحمن الأوسط، فأرسل إليه بسفارة (840م) تحمل الهدايا والمودة وطلب التحالف على العباسيين، وعاد السفير البيزنطي ومعه يحيى بن الحكم الغزال سفيرا من قرطبة، ومعه خطاب ودِّي فيه ردٌّ سياسي يؤكد الصداقة بينهما والعداوة للعباسيين ولكن لا ينبني عليه عمل ضدهم، غير أن الغزال استطاع النفاذ إلى قلب الإمبراطور وزوجته وولده ميخائيل فكانت بينه وبينهم منادمات وصحبة سجل بعضها في شعره[5]. ثم كانت للغزال سفارة أخرى (نحو 845م) إلى الدانمارك[6] تؤكد عهد الصلح الذي طلبه ملكهم هوريك من عبد الرحمن الأوسط، ووقع السفير ذات الموقع الحسن بما له من مواهب الجمال وحسن البيان والتصرف، وكانت له مساجلات وجدالات مع علماء القوم وفرسانهم، ولكن الذي اشتهر أكثر هو ما انعقد بينه وبين ملكتهم من صلة وإعجاب، وكيف أن هذا لم يكن مشينا في ثقافتهم وعاداتهم[7]. وقد تكررت سفارات الأندلس مع ملوك أوروبا، وحاولت الإمبراطورية مرة ثانية التحالف مع الأندلس -ربما ضد العبيديين هذه المرة- ووفدت سفارات فرنسية وألمانية، وكان ملك ألمانيا زعيم النصرانية في أوروبا مثلما كان الناصر زعيم الإسلام، وجرى بينهما حديث في السياسة وفي الدين كذلك، وكان سفير الأندلس إلى ألمانيا أسقفا مسيحيا، وقد نقل السفير للناصر معلومات مهمة عن ألمانيا ونظام الحكم فيها[8].

وبعد سقوط الأندلس نشأت صلات سياسية بين ملوك المغرب وملوك أوروبا، وقد سجل أفوقاي الأندلسي في رحلته مهمته التي كلفه بها السلطان السعدي الناصر زيدان، وكانت سفارة منه إلى ملك فرنسا لإصلاح أوضاع المسلمين المهجرين من الأندلس، وروى كذلك عن سفارة متبادلة بين سلطان المغرب وملك هولندا للتحالف على إسبانيا، وكانت هولندا قد دخلت في البروتستانتية وخلعت الحكم الإسباني[9].

ومن عجيب ما يذكره أن العلاقات العثمانية الإسبانية كانت منهارة لسببين: غدر الإسبان بالمسلمين الأندلسيين، وغدر الإسبان بملك المكسيك مُتَشُمَه[10]، مما يعني سعة اطلاع العثمانيين بما يحدث في أقصى الغرب عند المكسيك، ولهم هناك صلات ينبني على الاعتداء عليها عداوات في أوروبا.

ومن يطالع كتب التاريخ يرى كثيرا من السفارات لا يهتم المؤرخون فيها بسبب السفارة ونتائجها قدر ما يهتمون بما كان فيها من سجالات علمية وأدبية وإفحامات وردود على البديهة ومعلومات عن عادات الروم وطباعهم ورسومهم ونحو ذلك، بل لا نبعد أن نقول إن أغلب ما نعرفه من أخبار السفارات هو ما كانت فيه هذه الأمور[11]، وأغلب الظن أن هذا كان مقصودا؛ فالسلطة بطبيعة الحال لا تشيع ما يجري في أروقتها بينما لا بأس لديها بانتشار وتسرب ما هو خارج العلاقة السياسية، ونجد هذا صريحا واضحا لدى سفراء الدولة العثمانية الذين كانوا مكلفين بتسجيل "مشاهداتهم على الطرق التي مروا منها في رحلاتهم والأماكن التي زاروها وعظمة المراسم التي جرت في الاجتماعات التي شاركوا فيها" وكذلك "مظاهر التقدم والعمار فيما حولهم"، بينما لم يُعرف "ما كان يدور بينهم وبين الآخرين من اتصالات ومباحثات يمكن أن تلقي الضوء على تاريخ الدبلوماسية العثمانية، إذ كانوا يعتبرون ذلك سرا من أسرار الدولة"[12].

ومن أعجب ما نستفيده في أمر السفارات أن وجود السفارات الدائمة في أول أمرها لم يكن تعبيرا عن قوة الصداقة كما يتبادر إلى أذهاننا الآن، بل هو يعبر عن الذِّلة، فالطرف الأضعف هو الحريص على وجود سفارة دائمة له عند الطرف الأقوى بينما لا يحفل الأقوى بذلك، بهذا فسَّر أفوقاي الأندلسي وجود سفراء أوروبيين دائمين لدى العثمانيين بينما لم يهتم العثمانيون بإيجاد سفارات لهم في بلاد أوروبا[13].

ومما يدخل في باب السفارات -بنوع من التكلف- هو زواج الخلفاء والسلاطين من بنات خصومهم الغربيين، فهي علاقات سياسية في النهاية، وقد أمدت قصور الحكم بمعرفة دقيقة عن بلاد الزوجة، وإن كان يصعب علينا بطبيعة الحال العثور على هذه المعارف.

وفي المجمل فلقد كانت السفارات أكثر من الحروب، فهي ترافق الحروب لإنهائها وحصد نتائجها، كما أنها تنفرد بنفسها في مسائل سياسية ودعوية وعلمية وعلاقات تحالف وتعاون مؤقت أو طويل. فكانت بهذا مصدرا غزيرا من مصادر معرفة المسلمين بالغرب.

نشر في نون بوست


[1] القلقشندي: صبح الأعشى 8/11 وما بعدها.
[2] من أهم ما كتب قبل القلقشندي ونجد فيه مادة قيمة في أحوال الممالك، كتاب "التعريف بالمصطلح الشريف" لابن فضل الله العمري (ت 749هـ)، وقد أضاف عليه ابن ناظر الجيش (ت 786هـ) إضافات بعده في كتابه "تثقيف التعريف بالمصطلح الشريف"، وكثيرا ما يعتمد القلقشندي على كتاب التثقيف هذا.
[3] القلقشندي: صبح الأعشى 8/35، 36.
[4] برنارد لويس: اكتشاف المسلمين لأوروبا ص128.
[5] المقري: نفح الطيب 2/258، محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/282 وما بعدها.
[6] وكانت عاصمة النورمان الذين كان يسميهم المسلمون بالمجوس، وقد بلغ ملكهم حينها الدانمارك وما حولها من الجزر، وقسماً من إسكندناوة وألمانيا الشمالية.
[7] ابن دحية: المطرب في أشعار أهل المغرب ص138 وما بعدها.
[8] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/456 وما بعدها.
[9] أفوقاي الأندلسي: رحلة أفوقاي الأندلسي ص52، 53، 70، 77، 114.
[10] أفوقاي الأندلسي: رحلة أفوقاي الأندلسي ص101.
[11] انظر مثلا: أبو يعلى الفراء: رسل الملوك ومن يصلح للرسالة والسفارة.
[12] محمد إبشيرلي: نظم الدولة العثمانية، ضمن "الدولة العثمانية تاريخ وحضارة" بإشراف: أكمل الدين إحسان أوغلو 1/234، 235.
[13] أفوقاي الأندلسي: رحلة أفوقاي الأندلسي ص101.