الأربعاء، أغسطس 26، 2015

على هامش قصة زعيم (5) صراع المناهج والقيادة

يشبه مشهدُ الصراع داخل قيادة الإخوان المسلمين اليوم مشهدَ الصراع داخل قيادة حزب الفضيلة (وريث حزب الرفاه) التركي، بين القيادة القديمة: نجم الدين أربكان، وطلائع الجيل الأصغر الذين يمثلهم أردوغان!

لقد تلقى الحزب صدمة واضحة بانقلاب فبراير 1997 الذي أزاح أربكان وحظر حزب الرفاه وبعض شخصياته من ممارسة العمل السياسي، وزجَّ بأردوغان في السجن بتهمة أبيات شعر في إحدى خطبه، ولما خرج من سجنه كانت المعركة بين جيله وبين أستاذه تصل إلى ذروتها. كذلك أحدث انقلاب يوليو 2013 في مصر صاعقة نزلت بجماعة الإخوان المسلمين وأبانت –بعد سنتين- أن جيل القيادة القديم قد انتهت صلاحيته ولم يعد مستطيعا شيئا جديدا.
نسوق في هذه السطور مختصر حكاية أردوغان مع أربكان، ضمن سياقنا حول كتاب "قصة زعيم".

بدأت الحكاية قديما، منذ 1993، ويسجل حسين بسلي –وهو أحد مؤلفي الكتاب- نقدا مبكرا لبقاء القيادات التي تدير العمل زمنا طويلا في مواقعها، وكان ذلك في اجتماع شعبة اسطنبول (التابعة لحزب الرفاه والتي يرأسها أردوغان 27/5/1993)، وهو الاجتماع الذي قُصِد به المراجعة وإعادة تقييم المسار استعدادا لانتخابات 1994، قال حسين بسلي حينذاك:

"لا أعتقد أن إدارة اسطنبول بوضعها الحالي يمكنها أن تنجح في تحقيق ذلك. كما أننا الآن مخطئون من حيث المبدأ في مسألة (التنفيذ). فالأشخاص الذين يقومون بالعملية التنفيذية منذ فترة طويلة هم أنفسهم من دون أي تغيير. إن العمل بهذه الطريقة لفترة طويلة يجعل هؤلاء الأشخاص بمرور الوقت يصدرون ردود أفعال متشابهة ومتكررة إزاء الأحداث والمواقف، كما أنه يجعلهم يتأثرون بالوقائع بالدرجة ذاتها التي تأثروا بها من قبل، أي أن الأفكار تكرر بعضها بعضا من دون تجدد أو تطور. ولذلك أرى أنه من المفيد أن يتم إجراء تعديلات"[1].

ولم يكن مثل هذا الكلام ليُقال، أو حتى لمثل هذا الاجتماع أن ينعقد، إلا في ظل رئاسة أردوغان لشعبة اسطنبول، إذ كانت رئاسته فاتحة طريقة جديدة "ديمقراطية" في الإدارة، يسمح فيها للجميع بإبداء الرأي والمشاركة في القرار، وذلك ما جعله موضع شك وارتياب ونفور من قِبَل الإدارة العليا للحزب برئاسة أربكان، فمنذ "الفترة التي بدأت بتوليه رئاسة جناح الشباب حتى رئاسته لبلدية اسطنبول، لم يكن أردوغان مرشحا من الدرجة الأولى من قبل المركز العام للحزب، ولم يحظ باتفاق وقبول عام من المركز العام، بل على النقيض من ذلك نافَسَ المرشحين الذين أعلنهم المركز العام في الانتخابات الداخلية التي يجريها الحزب وفاز دائما. ورغم أن المركز العام للحزب كان يبدو مرحبا بجهود أردوغان داخل الحزب بل ومصنعا له، ولا سيما بآرائه خلال الفترات الانتخابية بصفته رئيسا لشعبة اسطنبول، إلا أنه في الحقيقة كان يقترب من أردوغان دائما اقترابا حذرا، ولم يستطع إخفاء مخاوفه من أن تؤدي نجاحات أردوغان إلى ميلاد زعيم بديل. وإن أحد الإجراءات التي دفعت المركز العام إلى القلق والتخوف من أردوغان –بل ولعله أهم هذه الإجراءات- هو تحقيق أردوغان للديمقراطية داخل الحزب في شعبة اسطنبول. إذ كان المركز العام يخشى من اتخاذ شُعَب الحزب الأخرى من هذا الإجراء نموذجا لها، ثم ينتشر ويعم أرجاء الحزب، وبالتالي ينتقل إلى إدارة المركز العام، وهو ما جعله يدرك أن ذلك يعتبر تهديدا موجها وبشكل مباشر لسلطة أربكان المطلقة. إذ إن الزعامة المركزية في الحزب كانت ذات صفة أبوية أكثر من كونها زعامة سياسية. وكما أنها لا تنظر بارتياح إلى أي نمط من أنماط العلاقات التي تخالف مفهوم الطاعة المطلقة، فإنها كانت لا تتورع عن اتهام المعارضين لها بأثقل الاتهامات وأغلظها"[2].

يرصد الكتاب جانبا من مؤسسية عمل الشعبة تحت رئاسة أردوغان حين يتعرض بشيء من التفصيل للحملة الانتخابية التي قادت أردوغان للفوز برئاسة بلدية اسطنبول، وفيها يبدو عمل شعبة اسطنبول لحزب الرفاه عملا مؤسسيا، فمسؤول التواصل مع الإعلام يأمر أردوغان وينهاه حول تصرفاته في وسائل الإعلام، وأردوغان ينفذ[3]. ومسؤول تنسيق اللقاءات مع الشرائح الانتخابية يأمر أردوغان وينهاه، وقد عنَّ لأردوغان أن يلغي برنامجه ذات يوم لأداء واجب إنساني فامتنع المسؤول عن الاستجابة لرغبته وهدده بالاستقالة إن لم يلتزم، واستجاب أردوغان وتراجع عن قراره[4].

وقد ظل الخلاف مكتوما بين شعبة اسطنبول ورئاسة الحزب حتى ظهر بوضوح في انتخابات البلديات عام 1994، فإدارة الحزب لا تريد ترشيح أردوغان على قوائمها لمنصب رئيس بلدية اسطنبول الكبرى لكنها من جهة أخرى لا تجد بديلا له، أو بالأحرى لا تجد بديلا تضمن نجاحه أو تضمن عدم انشقاق كثير من شعبة اسطنبول عنها. وفي ذات الوقت فإن أردوغان وفريقه قاموا وبادروا بكل الإجراءات التي تجعل اختيار أردوغان في حكم الضرورة وتجعل التفكير بغيره مغامرة كبرى.

ودارت حرب أعصاب وأجراءات بين الفريقين انتهت بفوز فريق أردوغان الذي ترشح ممثلا لحزب الرفاه، وفاز برئاسة بلدية اسطنبول الكبرى، وكان هذا نجاحا سياسيا كبيرا لحزب الرفاه ونجاحا كبيرا لأردوغان ونجاحا منقوصا لأربكان.
نجح أردوغان نجاحا كبيرا في مهمته كرئيس لبلدية اسطنبول الكبرى، ولمع نجمه، وصار حديث الإعلام المبغض والمادح على السواء، ومن ناحيته لم يفرط أردوغان في أن يكون حديثا دائما وحاضرا في وسائل الإعلام للحديث عن إنجازاته وللرد على خصومه وفضح أعدائه.

وكان نجاحه سببا أساسيا في الفوز الذي حققه حزب الرفاه في انتخابات البرلمان، والذي أدى إلى تشكيله الحكومة التي انقلب عليها العسكر عام 1997م، وكان من آثاره إغلاق حزب الرفاه وحظر بعض قيادييه من ممارسة العمل السياسي، وكان من بينهم: أربكان، ثم لحق به أردوغان الذي سُجِن بتهمة إلقاء أبيات شعر "دينية مثيرة للفرقة"!

وبطبيعة الحال سعى أربكان في تأسيس حزب جديد يقوده هو من الظل، وعن هذه الفترة يقول أردوغان: "قبيل إغلاق حزب الرفاه تم إجراء استطلاع للرأي بين الأعضاء حول إنشاء حزب جديد ومن يقوده، وكانت النتيجة أن هناك 85% ممن يؤيدون أن أكون أنا قائد هذا الحزب الجديد المقترح إنشاؤه. والجميع يعلمون ذلك مثل علمي به. وقد تم عقد اجتماعات في أنقره وأقر المنضمون لهذه الاجتماعات أن أكون أنا الرئيس العام لهذا الكيان الجديد الذي يفكرون في إنشائه... وعلى الرغم من ذلك، فقد رغب الأستاذ أربكان في أن يتولى رئاسة الحزب السيد رجائي (قوطان)، فكان وقتها يبحث عن شخص تابع ينفذ ما يأمره به أكثر من شخص ينمّي الكيان الجديد ويطوره. ولولا هذا ما تطورت الأمور بتلك الصورة"[5].

وكطبيعة أي تجربة فاشلة، كان للانقلاب العسكري آثار بليغة على قيادة أربكان، واتسعت دائرة المعارضة له بين صفوف حزبه، ولأول مرة وجد رئيس الحزب (رجائي) أصواتا تعارض رغبة "الأستاذ" أربكان وترفض تمرير قائمة الأسماء التي يزكيها وتجبره على إجراء انتخابات حقيقية، فاز فيها فريق الجيل الجديد، وكانت هذه بداية صراع آخر بين الفريقين، وكان فريق "التجديديين" –كالعادة في مثل تلك المواقف- يملك الكوادر والحماسة ولا يملك المال ولا النفوذ!![6].

وحيث كان أردوغان نفسه محظورا من العمل السياسي، فإن فريق التجديد هذا اختار عبد الله جُل ليرشحه رئيسا للحزب أمام رجائي قوطان (مرشح أربكان)، ويعترف جُل بأن الأمر كان عسيرا؛ إذ سيتعرضون لتهم الخيانة وشق الصف وإشعال الفتن، ذلك أنهم كانوا يحتجون على "تقاليد وسلطة استمرت ثلاثين عاما، وكانت تزداد رسوخا عاما بعد عام، وعلى قيادة تعتمد على الشخصية المنفردة وعلى مُنَظَّمة مُشَكَّلة أيديولجيا... وعلى مفهوم سياسي يعتمد في الإطار الأول على الطاعة العمياء"[7].

توترت أرجاء الحزب بأثر من هؤلاء الذين يريدون تنافسا حقيقيا ولا يخضعون لرغبة الأستاذ أربكان، ولم يُخف بعضهم نواياه صراحة بأن هؤلاء إذا فازوا فسيؤسس "الأستاذ" حزبا جديدا وينسحبون هم معه إلى الحزب الجديد. وهكذا صار واضحا أن الفريقين لن يجتمعا، فلما جرت الانتخابات خسر التجديديون بفارق قليل وشككوا في هذه النتيجة التي بُنيَت على تشويههم وعرقلتهم، وساروا في المسار المتوقع: تأسيس حزب جديد لهم، وكانت خسارتهم خيرا لهم إذ أن السلطة اعتبرت حزب الفضيلة تحايلا على القانون وامتدادا لحزب قد أغلق ومركزا لمناهضة العلمانية[8]. ومن هنا وُلِد حزب العدالة والتنمية.

ولئن تشابه المشهد التركي قبل خمسة عشر عاما مع المشهد المصري الآن فإن الفوارق واضحة.. فهناك انقلاب ناعم وهذا انقلاب دموي، وهناك يستطيع الشباب السير في ممارسة ديمقراطية وإن كانت شكلية ضد قيادة قديمة في فسحة من الوقت، بينما لا يستطيع الشباب هنا الوصول إلى هذا الحد في ظرف عصيب ومع قيادة تحتكر لنفسها الجماعة بمنطق وضع اليد.

على أن أبرز الدروس المستفادة هي أنه لا بد من التجديد وتغيير القيادات القديمة التي فشلت فشلا ذريعا والأنكى أنها لا ترى أنها فشلت مما يعني انفصالا حقيقيا عن دنيا الناس والعيش في أوهام وخيالات عجيبة. كما أنه يجب السعي حتى النهاية في الاحتفاظ بشرعية الجماعة واسمها، وعدم تركها بيد هؤلاء حفاظا على الجماعة نفسها وعلى منهجها وشبابها وعلى أمانة الدماء التي سالت والتي تنتظر أن تسيل فوق المشانق.

نشر في تركيا بوست



[1] قصة زعيم ص128.
[2] قصة زعيم ص121، 122.
[3] قصة زعيم ص153، 154.
[4] قصة زعيم ص157، 158.
[5] قصة زعيم ص289.
[6] قصة زعيم ص294 وما بعدها.
[7] قصة زعيم ص297.
[8] قصة زعيم ص301 وما بعدها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق