الخميس، نوفمبر 26، 2015

موجز قصة النكبة الإسلامية

هي قصة النكبة، أو بالأحرى قصتان..

قصة احتلال البلاد واستنزاف ثرواتها ومواردها، وقصة احتلال الأفكار والعقول..

في القصة الأولى نرى البنادق والقنابل والجيوش، وفي القصة الأخرى نرى الكتب والنشرات، والإذاعات، وإنشاء المؤسسات التعليمية والثقافية، وهيكلة الإدارات الحاكمة.

تستدعي القصة الأولى أن نرصد حركة النهوض الغربي وانقضاضه على العالم الإسلامي،  وتستدعي القصة الثانية أن نرصد أهم الفوارق المؤثرة بين الشرق والغرب؛ لنفهم كيف أراد الغرب أن يعيد صياغة العالم الإسلامي على مثاله، فزرع قِيَمه وأفكاره وأنظمته، كما استفاد مما وجده فيها ليُعيد زراعته عنده.

في هذه السطور نوجز القصة الأولى، وفي المقال القادم إن شاء الله نوجز القصة الثانية..

في ذات لحظة من عمر هذا الزمان اجتمعت أربعة عوامل لتصوغ تاريخ القرون القادمة، كان ذلك منذ أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، على هذا النحو:

1. الضعف الإسلامي:

شمل الضعفُ عالم المسلمين فسقطت غرناطة آخر معاقل الأندلس (1492م)، وانساح الإسبان والبرتغال ليُحْكِموا سيطرتهم لا على الأندلس فحسب؛ بل هاجموا سواحل المغرب والجزائر، واحتلوا عددًا من أراضيها، وكانت الممالك الإسلامية في غرب إفريقيا وشرقها قد أصابها الضعف والتفكك ذاته، وكذلك كان الحال في اليمن وعُمان وسواحل الهند وما وراءها من السواحل الجنوبية لآسيا.

2. النهضة الأوروبية

وفي ذلك الوقت وُلِدت النهضة الأوروبية التي بدأت من إيطاليا، وعلى الرغم من أن جذور تلك النهضة قد تمتد إلى نحو قرنين قبل ذلك الوقت، فإن إيطاليا حينئذٍ أخرجت بدائع جديدة في الأدب والعلم والفن والعمارة وغيرها، وظهر رواد النهضة الأوروبية؛ مثل: ليوناردو دافنشي، ومايكل أنجلو، وميكافيللي، وأصبحت بعض المدن تمثل مراكز حضارية؛ مثل: فلورنسا، وسيينا، والبندقية، ثم فاضت تلك النهضة على أوروبا بشكل عام.

3. الرحلات.. وتطور علم الخرائط

كان من آثار الضعف الإسلامي واستيلاء البرتغال والإسبان على الأندلس أن انطلقوا يكتشفون البحار دون عوائق، البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، فاستطاع الرحالة أن يصلوا إلى العالم الجديد "الأمريكتين"، كما استطاعوا الدوران حول إفريقيا، واكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، الذي وصلوا عبره إلى الهند والسواحل الجنوبية والشرقية لآسيا.

وكان من آثار النهضة الأوروبية ومن آثار هذه الرحلات أن تطوَّر علم الخرائط، وابتدأ رسم خرائط أكثر دقة لهذه الأرض، قاراتها وبحارها، فكل تطور علمي وكل رحلة كشفية تضيف جديدًا في علم الخرائط.

4. بُعْد مركز الخلافة الإسلامية

لم يعد في العالم الإسلامي مملكة قوية، إلا أولئك العثمانيون في عاصمتهم البعيدة القسطنطينية، تلك المدينة المنيعة الراقدة شمالاً عند مضيق البوسفور، والتي تقوم بدورها الجهادي في شرق أوروبا وفي روسيا، وتقاوم الصفويين في العراق وإيران، فما كان بإمكانها في ظل هذا الوضع الجغرافي أن تعتني بأمر الأندلس الذي يسقط وينهار، وتتبعه سواحل الشمال الغربي لإفريقيا، ثم سواحل الغرب والشرق الإفريقية، والسواحل الجنوبية الآسيوية.

ولقد حاولت الدولة جهدها الدفاع عن مسلمي الأندلس وعن سواحل اليمن، وخاض الأسطول العثماني معارك ضارية مع الأساطيل البرتغالية والإسبانية، واستطاع تحقيق إنجازات مهمة؛ منع بها الأعداء من دخول البحر الأحمر -حيث أرادوا مهاجمة مكة وإنهاء أمر الإسلام- كما حفظوا بها ما استطاعوا من سواحل الشمال الإفريقي، وأنقذوا ما أمكنهم من مسلمي الأندلس ويهودها، الذين كانت تفترسهم محاكم التفتيش الكاثوليكية.

كان اجتماع هذه العوامل معًا في الفترة الزمنية ذاتها قادرًا على رسم صورة جديدة للعالم وموازين القوة فيه، خلاصة هذه الصورة أن الأيام قد دالت على المسلمين، وأن الأعداء قد التهموا -تقريبًا- أطراف العالم الإسلامي على السواحل الإفريقية والآسيوية، بل وتنافسوا عليها؛ فلقد لحق بالإسبان والبرتغال الهولنديون والإنجليز والفرنسيون وغيرهم، ولم تكن المقاومة المحلية في تلك البلدان –على الرغم من بسالتها وصلابتها- بقادرة على تغيير ميزان القوة هذا.

وبعد قرنين من الزمان أخذت الأزمة منحى جديدًا؛ إذ استطاع الفرنسيون احتلال مصر والشام، فلم يكن هذا مجرد احتلال لأطراف العالم الإسلامي بل لقلبه، ولم تكن بينه وبين الخلافة مسافات بعيدة؛ بل ليس بينهما إلا البحر المتوسط، فكانت صدمة بالغة هائلة الأثر للمسلمين، حتى قال الجبرتي: إنه "اختلال الزمن وانعكاس المطبوع وانقلاب الموضوع"([1]). فقد ثبت ما وصل إليه المسلمون من ضعف، وكذلك ما وصلت إليه خلافتهم "الدولة العثمانية العَلِيّة" من عجز، وابتدأ من هاهنا سؤال: كيف حدث هذا؟ وكيف سبيل الخروج؟

"سؤال النهضة" هذا لم يُترك لتُجيب عنه الشعوب، بل قام به الحكام المستبدون الذين هم سبب أصيل في نكبة المسلمين، لقد اتجه الأقوياء منهم إلى تعلُّم ما عند الغرب، أو الإتيان بخبراء الغرب؛ لنقل خبراتهم إلى بلاد المسلمين، ولم يكن في هذا من بأس لو أن الناقل كان واعيًا حريصًا على أخذ ما لديهم من علوم مادية، دون استلهام رؤاهم الفكرية والفلسفية؛ لكن الذي حدث كان على العكس من هذا، ولعل المشهد المصري يكون خير نموذج على هذا التطور باعتباره الأسبق زمنًا والأغزر مادة.

لقد تولى الحكم في مصر محمد علي باشا، فكان –على الرغم من إصلاحاته المادية الكثيرة الهائلة- أحد أهم النكبات في تاريخ المسلمين، فهو الذي اعتمد سبيل بناء دولة قوية يكون الحاكم فيها الرجل الأوحد، فأخذ في تدمير النظام الاجتماعي؛ ليملك وحده مقاليد البلاد، فضرب العائلات الكبرى، ومنع على الأهالي تملك السلاح، وضم الأوقاف إلى الدولة، وأسس جيشًا على النظام الأوروبي؛ يكون ولاء الجندي فيه للأمر العسكري مهما خالف الدين أو العرف أو الخُلُق، وعلى الرغم من أن محمد علي أتى إلى الحكم باختيار جماعة العلماء؛ فإنه لم يلبث أن تخلص منهم، ولم يعد يسمح بوجود أحد إلا علماء السلطان.

فما إن ذهب عصر محمد علي حتى كانت "الدولة" قد زُرِعت، والناس قد صاروا عبيدًا للدولة لا أصحابًا لها، ولما لم يكن خلفاؤه على قدر همته في العمران؛ فقد فسد العمران، وانهارت آثار محمد علي، ثم جاء الاحتلال الاقتصادي الأجنبي الذي تبعه النفوذ الأجنبي، ثم تبعهما الاحتلال الأجنبي البريطاني، فوجد أمامه شعبًا أعزل، ودولة منهارة، وبذورًا علمانية مغروسة، فظل في البلاد سبعين سنة يُفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، ويصنع منها نخبة على مثاله وبصبغته.

مَثَلُ الذي حَدَثَ في مصر حَدَثَ في غيرها من البلدان بالقدر ذاته تقريبًا؛ فقد وقعت ديار الإسلام إلا قليلاً منها تحت احتلال أجنبي، ثم سقطت الدولة العثمانية، التي كانت تمثِّل خلافة المسلمين، فصار المسلمون كالغنم المتفرقة لا راعي لها، وامتلكت أزمَّتها تلك النخبة التي صنعها الاحتلال على عينه، وسلم لها أمر البلاد، وما نستطيع أن نبرئ الحركات الإصلاحية في ذلك الوقت، والتي تكررت منها السذاجة في أقطار المسلمين؛ حتى سُرِقت الثورات وحركات المقاومة جميعًا؛ لتسقط كل ثمارها في يد أتباع الاحتلال.

حين خرج الاحتلال حَكَم أتباعه، فبدأ عصر الاستبداد العلماني العسكري، الذي كان على المسلمين أشد وأقسى وأكثر نكالاً من الاحتلال؛ إذ صارت العلمانية نظاما حقيقيًّا حاكمًا مقدسًا، وصارت حدود المحتل مقدسة، وترسَّخ نظام الدولة المركزية القومية الحديثة باعتباره شكل الحكم المقدس أيضًا، وقبل كل هذا وبعده صارت الخلافة من الأوهام والخرافات، وصار العمل للإسلام والدعوة للوحدة الإسلامية من الجرائم، وذاق المسلمون ويلات النظم العلمانية والعسكرية، واستمر تساقط العواصم الإسلامية على أيدي اليهود والصليبيين والهندوس والملاحدة.
وها هو الأمل يتجدد بثورات الربيع العربي أن تنهي هذا المسلسل من السقوط والتراجع، وأن تعيد تمكين الأمة من حكم نفسها بشريعتها وقِيَمها، وأن تكتب الفصل الأول في رحلة التحرر من الاحتلال الأجنبي العسكري والاقتصادي والثقافي.

نشر في ساسة بوست




([1]) الجبرتي: عجائب الآثار 2/179.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق