الاثنين، ديسمبر 28، 2015

في ذكرى وفاة جلال كشك

كنت قد اكتشفت جلال كشك في صيف (2002م) مصادفة، صديق لي اشترى كتبا ظنها للشيخ عبد الحميد كشك، فلما اكتشف أنها لشخص آخر أعطانيها وقال: ستنفعك أنت ولن تنفعني، كتب عن الفكر والسياسة. وليس يعرف فرحة الشاب الفقير –حينها- المحب للقراءة بمن يهديه كتابا إلا من ذاق حاله، وفي أيام التهمت الكتابين ثم شغفت بالرجل فبحثت عن كتاب ثالث فوجدت أمامي كتابه "ثورة يوليو الأمريكية" فالتهمته، لكنه سبب لي صدمة معرفية كبرى، فالشاب ذي التسعة عشر عاما وإن كان يبغض عبد الناصر بشدة لم يكن يتوقع إطلاقا أن ثورة يوليو تدبير أمريكي! ولا أن هيكل مزور تاريخ مفضوح وكذاب إلى هذا الحد!

كنت ساعتها في إجازة الصيف وعزمت أني حين أسافر للجامعة سأبحث عن المؤلف في القاهرة وألتقيه. لم تمرَّ أيام حتى كنت اقرأ حوارا صحفيا مع الناصري عبد الحليم قنديل بمناسبة ذكرى يوليو، فسأله الصحفي: ماذا تقول في الوثائق التي نشرها جلال كشك؟ فقال عبد الحليم: جلال كشك رحمه الله .....

طاحت رأسي وغامت الدنيا أمام عيني حين قرأت "رحمه الله"، وصرت أحدق في العبارة أريدها أن تكون خيالا أو توهما مني فإذا بها ترقد أمامي واضحة صارخة تعذبني وتقطع أملي وتهدم أحلام تتلمذي عليه!!

مضى على وفاة جلال كشك اثنا عشر عاما (توفي 5 ديسمبر 1993م، بأزمة قلبية أثناء مناظرة له مع نصر حامد أبو زيد)، وما زال تراثه يحتاج لمن يجمعه وينهض به ويحلله ويفيد منه. كان عملاقا عظيما، كما كانت له أخطاء وزلات قاسية، وجلَّ من لا يخطئ، إلا أنه يظل أحد الأقلام السامقة في تاريخ القرن العشرين بل في كل التاريخ الحديث.

في هذه السطور أنقل بعضا من كلماته التي حفرت نفسها في قلبي، تذكيرا به وإشارة له.

(1)

"الإسلام هو دين التوحيد المطلق، الدين الذي اعترف بالألوهية المطلقة الكاملة لله سبحانه تعالى، فليس في مفهوم الله، عند المسلم، شبهة نقص ولا شبهة مماثلة للكون أو المادية أو الكائنات الفانية أو المتحولة... وليس في الفقه الإسلامي، أو التصور الإسلامي، تلك الملامح البشرية للإله، كما في أساطير اليونان حيث الرب يعشق ويسرق ويتآمر ويغدر ويخضع لقانون عام بل وتنزل به العقوبات! ولا كما في الأساطير المنسوبة للتوراة، حيث يصارع الرب الإنسان... كما رفض الإسلام رفضا قاطعا صريحا أية مجاملة لمحاولة خلق صلة عضوية بين الله والإنسان كما في العقيدة المسيحية عن "الابن" وما صاحبها عن "الطبيعة الواحدة" و"الطبيعتين". نفى الإسلام ذلك واعتبر أن مجرد ترديده كفيل بتدمير الكون. والخلاف الذي دار حول خلق القرآن، ينطلق من هذا التأكيد على التوحيد والتنزيه. فالذين قالوا بخلق القرآن رفضوا مقولة "في البدء كانت الكلمة" إذ ليس في الإسلام بداية ولا بدء إلا بالله سبحانه وتعالى وحده، والذين رفضوا القول بخلق القرآن نزَّهوا "كلام الله" أن يكون مخلوقا باعتباره صفة منسوبة لله سبحانه وتعالى، والله لا "تلحق" به صفة، ولا "تتأخر" عنه صفه، فهو منذ الأزل وإلى الأبد"[1].

(2)

"التوحيد هو قاعدة الفكر الإسلامي، ومن ثَمَّ القوة المُحَرِّكة والمُوَجِّهَة لفلسفة ونظام المجتمع الإسلامي، فنقطة الانطلاق هي تحرير الإنسان من عبودية الإنسان، وعبودية الأوهام، وعبودية الكائنات والطبيعة، فهو حرٌّ مطلق، منذ لحظة تسليمه بالعبودية المطلقة لله سبحانه وتعالى، أو بقبوله شرح معنى "لا إله إلا الله .. نفي وإثبات" وطرح هذا الفهم وقبوله، يقود إلى رفض الاستكانة لاستبداد السلطة، أي يطرح تلقائيا قضية السلطة وهي أهم القضايا السياسية، أو القضية الرئيسية في كل ثورة كما قيل"[2].

(3)

"الجاسوس مهما تكن مهارته، يحتاج إلى مناخ خاص لكي ينجح في إنزال ضربات حاسمة، يحتاج إلى مناخ مجتمع متفسخ لكي يستطيع أن ينفذ فيه. ولا شك أن الخمر والنساء لا يمكن أن تكونا أسلحة مثمرة في مجتمع قيادته متدينة. كما أن المال لا يُجدي في مجتمع يحاسب قياداته ويسألها "من أين لك هذا؟". وأهم من ذلك كله، هو إرادة القتال، ففي مجتمع يعيش حقيقة الصراع المصيري ضد عدو قومي متربص عند حدوده، يصبح كل مواطن جهاز أمن، وتصبح كل قراراته وسلوكه في خدمة المعركة المنتظرة"[3].

(4)

"كل كنائس العالم العربي لم تظهر في مواجهة الإسلام –كما يهمس اليوم في آذانها المفسدون- ولا احتمت بالصحراء أو الجبل خوفا من المسلمين، بالعكس لقد ظهرت كانشقاق عن كنيسة الغرب، كعصيان في وجه السلطة الأجنبية، سلطة المسيحية الغربية وليس ضد الإسلام. وما من دارس للتاريخ ينكر أنه لولا الفتح الإسلامي، لولا سيوف المسلمين، لاختفت هذه الكنائس في ظل الهيمنة الرومانية أو البيزنطية فالأوروبية، ولسيطرت كنيسة واحدة واختفت تماما الأقليات والكنائس المنشقة، كما حدث في أوروبا قبل عصر النهضة، أو ظهور القوميات. وهذه حقائق يعرفها المخلصون من أبناء وقادة هذه الكنائس مع المسلمين لا يحدث إلا في فترات النفوذ الأجنبي في البلاد العربية"[4].

(5)

"المخابرات لا تصنع الثورات، إنما الثورات تتجمع لعوامل تاريخية واجتماعية واقتصادية، ولعبة المخابرات (الأجنبية) المفضلة هي مسايرة التاريخ لتبديدها وتفجيرها سلميا.. وليست معارضتها.. فعندما يدرك خبراؤها أن سقوط النظام القائم حتمي، يبدأ التخطيط لما بعد سقوطه.. ومن هنا بدأ التخطيط للسيطرة على الثورة، لإجهاضها وحرفها، بل واستغلالها في تدمير ذات الأهداف التي قامت الثورة من أجلها"[5].

(6)

"لا أحد يجادل في أن الحل الإسلامي يحتل المرتبة الأولى في تفكير الجماهير وقطاع عريض من قياداتها الوطنية، ودعنا من الطفح [يقصد النخبة العلمانية] الذي يشوه وجه المجتمع بفعل إصابته بمرض الإفرنجي.

الجماهير وطليعتها الوطنية المخلصة تطرح الحل الإسلامي باعتباره الحل الأجدر بالتجربة ومن ثم جاءت شركات توظيف الأموال في إطار هذا الاقتناع أو إن شئت لاستثمار هذا الاقتناع... وكما قلنا أكثر من مرة ليست الفتوى الشرعية هي أهم ما في دعوى وقف التعامل بالربا، ومن ثم لا يجوز أن يشغلنا حوار الفقهاء والمتفقهين عن الاهتمام بنتائج هذه الدعوة.. أو على الأقل هكذا ينظر إليها خصومها.. فهي تشكل تحديا خطيرا للنظام المالي العالمي لأنها برفض الفائدة وطرح فكرة المشاركة في التمويل والمسؤولية والعائد فإن أول نتائجها هو حرمان النظام المالي من مدخرات وودائع المسلمين، مما يشكل نقصا كبيرا في مواردها، ومن الطبيعي أن تتصدى هذه البنوك لمثل هذه الدعوة بكل وسائل المقاومة ومنها شراء الكُتَّاب والخبراء وبعض رجال الدين المتحررين للفتوى ضد صيغة شركات توظيف الأموال... وكلها محاولات لإخفاء جوهر القضية وهو إخراج أموال المسلمين من قبضة البنوك الأجنبية، من قبضة الرأسمالية العالمية.. أما الشعارات فهي مجرد وسائل.. فالحرام هو إعانة عدونا بمالنا، والحلال هو الاستقلال بمواردنا ومدخراتنا، وكل فتوى تتعارض مع هذا الهدف فهي الكفر البواح"[6].

(7)

"وبعدُ، فما حيلتي .. وقد حُرمت من فرصة تغيير التاريخ بالوسيلة الحاسمة والفعالة -أي السيف-، ما حيلتي إلا أن أُعين أولئك الذين فضَّلهم الله على القاعدين، الذين يقفون اليوم أو غدًا للذود عن حرية الوطن، وسيادته واستقلاله. ما حيلتي إلا أن أعين هؤلاء الذين يصنعون مستقبلنا المشرق، وينسجون من حلكة الواقع فجر الغد المنتصر .. أقول ما حيلتي أنا العاجز عن القتال، إلا أن أعينهم على فهم التاريخ، أُجاهد معهم بقلمي، أُعرّفهم بأن أجدادهم قاتلوا وانتصروا؛ لأنهم آمنوا، {وكان حقًّا علينا نصر المؤمنين}. اللهم فاغفر لي ضعفي وعجزي، ويسِّر لي من القراء مَن إذا انتفع عمِل، ومَن إذا وجد خطأ نبّه إليه .. واغفر لي ما أكون قد نسيت أو تأولت فأخطأت"[7].

رحم الله محمد جلال كشك، وعوضنا خيرا منه.




[1] خواطر في الجهاد والأقليات والأناجيل ص11، 12.
[2] السعوديون والحل الإسلامي ص89، 90.
[3] النابالم الفكري ص61، 62.
[4] رسالة التوحيد 1/7، 8.
[5] القومية والغزو الفكري ص217، 218.
[6] الناصريون قادمون ص155.
[7] ودخلت الخيل الأزهر ص29، 30.

هناك 3 تعليقات:

  1. غير معرف11:36 م

    https://t.me/mohammednidalayesh/2364

    ردحذف
  2. غير معرف11:39 م

    كتب المؤرخ م.محمد إلهامي في ذكرى وفاة جلال كشك رحمه الله، ولفت نظري أنه صُدِم في التسعينات حين قرأ في كتاب كشك "ثورة يوليو الأمريكية" عندما تحدث عن عمالة ناصر وزملائه للأمريكان.

    لقد دفع حزب التحرير ثمنا غاليا لصدعه وكشفه لحقيقة عبد الناصر -عميل أمريكا- في حينه وهو عميل يمارس السياسة، أي منذ خمسينات وستينات القرن الماضي، ولم ينخدع به ولا لحظة.

    وانا أدعو الأستاذ محمد إلهامي وغيره من المؤرخين والدعاة أن لا يسمحوا بأن يحول بينهم وبين الإطلاع على فكر وثقافة حزب التحرير بل والعمل معه أي ضغط إعلامي منفر من العمل الحزبي والجهد الحزبي والثروة الحزبية عموما، والضغط الإعلامي المضاد لحزب التحرير خصوصا.

    أنصح بالاطلاع على المنشور المرفق ففيه فائدة تصب في ذات السياق اضغط هنا.

    ردحذف
  3. غير معرف8:18 ص

    حزب التحرير حزب ضال

    ردحذف