الثلاثاء، مارس 31، 2015

رحلة الاستشراق – لماذا ظل الاستشراق معاديًا للإسلام؟

وُلد الاستشراق من رحم المواجهة الأولى بين الإسلام والغرب، وعاش طفولته في عصر الحروب الصليبية، ونضج واشتد ساعده في عصر النهضة والاستعمار الغربي، وفي هذه المرحلة كانت كتب المستشرقين ودراساتهم نماذج شاهدة على جودة البحث العلمي ودليلا على الجهد الكبير المبذول في موضوع الدراسة.

وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال طبيعي: إذا كان الاستشراق عملا علميا، وإذا كان المستشرقون قد استطاعوا الوصول إلى المصادر الأصلية ولم يعودوا يعانون صعوبة التواصل مع المسلمين، فلماذا لم تتحسن صورة الإسلام في الغرب؟! ولماذا خرجت أغلب الكتابات الاستشراقية تنقل صورة شائهة عن المسلمين؟!

وجدنا في نص قديم يرجع إلى الربع الأول من القرن السابع عشر أن من بين علماء النصارى في فرنسا من يعلن "المسلمون أعطاهم الله عقولا وافرة"[1]، إلا أن هذا إنما كان في سياق مجادلة، ثم هو بعد ذلك لم يتردد ولم يتسرب إلى العامة أبدا، بل هو لم ينتشر بين العلماء والمستشرقين، وسيلاحظ "أي باحث موضوعي أن الأغلبية المطلقة من مستشرقي القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين لم يتخلصوا من المواقف المسبقة الموجهة ضد الإسلام، سواء أكان عداؤها صريحا مباشرا وعنيفا أم كان يتسم بعدم الارتياح تجاه الشعوب الإسلامية"[2]. وحتى في حمأة الدفاع عن الغرب يُقِرُّ مؤلفان غربيان بأن "بعض ضروب التحامل الاستشراقية لا ترى في الشعوب غير الغربية تلك الكائنات البشرية الراشدة، فعقولهم عقول أطفال، ويُمكن أن يُعاملوا تاليا على أنهم سلالات أدنى"[3].

إنه السبب القديم المقيم: العلم في خدمة السياسة! فالسلطة التي تدعم العلوم وأهلها لا تنتظر منهم بطبيعة الحال أن يخرجوا بنتائج تضاد وتناقض مصالحها ومطامحها. ولذلك "يمكن القول بموضوعية كاملة إن "علم الإسلاميات" ولد في أحشاء المخططات الاستعمارية"[4]، ولم يكن يستطيع إلا أن يكون ابنا بارا ومطيعا!

ولذلك سنجد في عهد نضوج الاستشراق نفس الكلام الذي قيل قبل أن تبدأ الدراسات العلمية، ففي (1697م) ظهر "بارتلمي ديربيلو" الذي ألف "المكتبة الشرقية" وهو المؤلف الذي يوصف بأنه دائرة المعارف الإسلامية الأولى، واستعان فيه بمصادر عربية وتركية وفارسية وبذل جهدا كبيرا لإزالة الأفكار الخاطئة المتراكمة عند المسيحيين، وكان طبيعيا أن يخرج هذا العمل بروح إيجابية ملموسة. ولكنه برغم هذا يقول: "هذا هو الدجال الشهير محمد، صاحب ومؤلف بدعة اكتسبت اسم الدين ونسميها المذهب المحمدي، وقد نسب المسلمون إلى هذا الكاذب جميع الفضائل التي ينسبها الآريون أو البوليسيون أو المتشبهون بهم وغيرهم من دعاة البدع إلى يسوع المسيح وإن كانوا ينزعون عنه صفة القداسة". وفي نفس العام ظهر كتاب "محمد: طبيعة الدجل الحقيقية" للإنجليزي همفري بريدو الذي يقول بأن الإسلام هو نموذج واضح لمستوى البلاهة التي يمكن أن يصل إليها أي دين. ويجب أن نتذكر أننا في نهاية القرن السابع عشر وبداية الثامن عشر أي أن عصر التنوير قد بدأ منذ زمن، يقول عن النبي: "كان الشطر الأول من حياته يتسم بالإباحية الشديدة والآثام البالغة، وكان يجد متعة كبيرة في السلب والنهب وإهراق الدم... تملكته صفتان: الطموح والشهوة، فتشييد مملكته يدل على الأولى وتعدد زوجاته يدل على الثانية، وكل سورة في القرآن لا تخلو من قانون للحرب وإهراق الدماء، كما لا تخلو من إباحة التمتع بالنساء في الدنيا وكذلك في الآخرة"[5].

وانطلاقا من أن العلم إنما كان في خدمة المصالح والمطامح والمطامع، يرى إدوارد سعيد أن "القيمة الكبرى للاستشراق تكمن في كونه دليلا على السيطرة الأوروبية الأمريكية على الشرق أكثر من كونه خطابا صادقا حول الشرق (وهو ما يزعمه الاستشراق في صورته الأكاديمية أو البحثية) ومع ذلك فعلينا أن نحترم ونحاول أن ندرك ما يتسم به خطاب الاستشراق من قوة متماسكة متلاحمة الوشائج، والروابط الوثيقة إلى أبعد حد بينه وبين المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تمنحه القوة، وقدرته الفائقة على الاستمرار، وعلى كل حال، فإن أي مذهب فكري يستطيع الصمود دون تغيير، واستمرار التمتع بمنزلة العلم الذي يتعلمه الناس (في المعاهد التعليمية والكتب والمؤتمرات والجامعات ومعاهد تخريج العاملين بوزارة الخارجية) منذ عصر إرنست رينان في فرنسا في أواخر الأربعينيات من القرن التاسع عشر حتى الوقت الحاضر في الولايات المتحدة، لا بد أن يكون أقوى من مجموعة من الأكاذيب وحسب، وليس الاستشراق إذن خيالا أوروبيا متوهما عن الشرق، بل إنه كيان له وجوده النظري والعملي، وقد أنشأه من أنشأه، واستُثْمِرَت فيه استثمارات مادية كبيرة على مرّ أجيال عديدة[6]. وقد أدى استمرار الاستثمار إلى أن أصبح الاستشراق، باعتباره مذهبا معرفيا عن الشرق، شبكة مقبولة تسمح منافذها بتسريب صورة الشرق إلى وعي الغربيين، مثلما أدى تكاثر ذلك الاستمرار نفسه، بل وتحوله إلى مصدر حقيقي للإنتاج والكسب، إلى تكاثر الأقوال والأفكار التي تتسرب من الاستشراق إلى الثقافة العامة"[7].

ومن ثم فليس غريبا أن يذهب البعض إلى القول بأن الاستشراق "لم يفعل شيئا مهما، اللهم إلا أنه أضفى صبغة علمية على الأضاليل القديمة، والخرافات والقوالب النمطية الغربية العتيقة عن الإسلام"[8].

لكن أمرا مهما يجب أن ننتبه إليه، ونعترف به بمقتضى العدل والإنصاف، ذلك أن نضوج الاستشراق وتقيده بالتقاليد العلمية أسفر عن كثير من المراجعات في صفوف المستشرقين، فظهرت كثير من الكتابات والدراسات المنصفة، وصدر عن كثير من المستشرقين مدح وافر وثناء جميل على الإسلام ونبيه وحضارته وأثره، واعترف كثير منهم بفضل الإسلام على الإنسانية وفضل الحضارة الإسلامية على مناحي التقدم العلمي والأدبي، كما واعترف بعض المستشرقين أن تيار الاستشراق عاجز عن الوصول إلى دراسة كافية وحقيقية عن الإسلام، ونادى بأن يتصدى المسلمون لذلك فهم أهله وأولى به[9].

إلا أن التيار العام للاستشراق ظل وفيا للأطماع الغربية ويعمل في خدمتها. والسؤال الآن: كيف يستطيع الاستشراق -وهو يزعم العلمية والموضوعية والتقصي- أن يمارس ذات دور التشويه والتجهيل والكذب في عصر ثورة الإعلام والاتصالات؟!

هذا ما نتناوله في المقال القادم إن شاء الله تعالى.

نشر في نون بوست



[1] أفوقاي الأندلسي: رحلة أفوقاي الأندلسي ص85.
[2] أليسكي جورافسكي: الإسلام والمسيحية ص91.
[3] إيان بوروما ومرجليت أفيشاي: الاستغراب ص22.
[4] أليسكي جورافسكي: الإسلام والمسيحية ص90.
[5] كارين أرمسترونج: سيرة النبي محمد ص55، 56.
[6] انظر مثلا: د. مازن مطبقاني: من قضايا الدراسات العربية الإسلامية في الغرب ص14 وما بعدها.
[7] إدوارد سعيد: الاستشراق ص50.
[8] أليسكي جورافسكي: الإسلام والمسيحية ص91.
[9] قال المستشرق آربري للدكتور مصطفى السباعي: "إنَّنا -نحن المستشرقين- نقعُ في أخطاء كثيرة في بُحُوثنا عن الإسلام، ومن الواجب ألا نخوضَ في هذا الميدان؛ لأنَّكم -أنتم المسلمين- العرب أقدرُ مِنَّا على الخوض في هذه الأبحاث". وقال المستشرق الألماني شوديل يقول: "ما الذي يمكن أن نعلمه لتلاميذنا العرب في مسألة منهج الإنتاج العلمي؟ إنهم يلمون بذلك أحسن منا".
د. مصطفى السباعي: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص29.

الاثنين، مارس 30، 2015

سياط الفيلسوف على ظهور العسكر (9)

اقرأ أولا:


ما زلنا نواصل التقاط مواقف الفيلسوف المخضرم الكبير د. عبد الرحمن بدوي من حكم العسكر عبر مذكراته الحافلة الصادرة في جزئين، وهو الذي عايش العهدين: الملكي والعسكري، وحقق من المكانة الفكرية ما لا ينكره أحد ولو كان من أشد أعدائه.

(34)
لجنة تصفية الإقطاع

"بعد شهرين من حادث كمشيش، شُكِّل ما سُمِّي بـ "لجنة تصفية الإقطاع" من: عبد الحكيم عامر رئيسا وعلي صبري وشعراوي جمعة وعباس رضوان وكمال رفعت وشمس بدران، ثم ضُمّ إليها في 17/9/1966 أمين هويدي. وتولى تحضير القرارات لها عدد ضخم من رجال المخابرات العسكرية والبوليس الحربي، يعاونهم لجان من وزارة الإصلاح الزراعي ومن الشرطة العسكرية.

وكانت مهمة هذه اللجان إلصاق التهم الكاذبة بمن لا تزال له بقية من المكانة في الأرياف. وكانت هذه التهم تدور في الغالب حول ما زُعِم أنه مخالفات لقانون الإصلاح الزراعي. وكلها تلفيقات زائفة وادعاءات لا أساس لها من الصحة: فيُتَّهم واحد مثلا بأنه يملك فدانا أو قيراطا أو قيراطين زيادة عن الحد الأعلى المقرر للملكية. فيقول المتهم بذلك لأعضاء اللجنة: أروني أين هذا الفدان الزائد وأنا أقر بأنكم على حق ولكم أن تأخذوا ما تشاؤون من أرضي. فلا يكون جواب أعضاء اللجنة، عسكريين كانوا أو مدنيين، إلا أن ينهالوا عليه بالشتائم وأقذع أنواع السبّ الفاحش. وماذا يملك هذا المسكين أمام بطش هؤلاء الفراعنة "الصغار"!! وبعد هذا تُقدِّم هذه اللجنة توصيتها بفرض الحراسة على أملاك هذا الرجل هو وأولاده وزوجته. وتنعقد اللجنة العليا لتصفية الإقطاع، فتتلى عليها هذه التوصيات وتقرها على الفور. وفي نفس اللحظة؛ إن لم يكن قبلها، يبلغ رئيس الشرطة العسكرية الجهة التي تنتمي إليها أطيان الرجل ومنزله فتتولى فرقة من الجيش والشرطة تنفيذ الحراسة على الأرض وتفتيش –أعني: نهب- منزل الرجل. ثم إبعاده هو وأبناءه من الريف إلى إحدى المدن.

وتتولى الإذاعة المصرية في نفس الليلة إذاعة أسماء من فُرضت عليهم الحراسة. وتسمع المذيع وهو يتلو هذه القرارات بحماسة وافتخار وحمية، وكأنها انتصارات عظيمة حققها أولئك "الضباط البواسل" ضد العدو الإسرائيلي!

بل وترى صور هؤلاء "القادة البواسل" أعضاء اللجنة العليا لتصفية الإقطاع، تتصدر الصفحة الأولى من كل صحف الصباح، والعناوين الكبيرة تنضح بهذا "النصر العظيم" الذي حققه هؤلاء الأبطال! وكأنهم انتصروا في معركة القادسية أو حطين أو أوسترلتز أو تاننبرج!

ويشاء ربك ألا تمضي إلا بضعة شهور، وإذ بهؤلاء الأبطال البواسل، قادة معركة "تصفية الإقطاع" يصابون بأبشع هزيمة في تاريخ مصر، هزيمة حرب 5-8 يونيو سنة 1967 أمام دويلة صغيرة طالما وصفوها بأنها عصابة من شُذَّاذ الآفاق!!

ويشاء ربك أن ينتحر –أو يُدسّ له السُّمّ- رئيس هذه اللجنة والمشير العام للجيش الذي لم يصمد أكثر من ثلاثة أيام أمام عصابة شذاذ الآفاق هذه! وأن يخطف الموت العادل أحدهم وهو كمال رفعت، وأن يُودع السجن لعدة سنوات علي صبري وشعراوي جمعة وعباس رضوان وأمين هويدي، وأن يفر شمس بدران هائما على وجهه من حكم العدالة.

وهكذا نال هؤلاء "الأبطال البواسل"، أعضاء اللجنة العليا لتصفية الإقطاع "بعض" العقاب العادل عما اقترفوا ضد الأبرياء المخلصين ممن فرضوا عليهم المصادرة والحرمان من الحقوق المدنية. وأقول: "بعض" العقاب، لأن ما نالهم –باستثناء رئيسهم فقد نال جزاءه الكامل- لا يكافئ عشر معشار ما يستحقون من عقاب"[1].

(35)

"كانت أسرتي إحدى ضحايا هذه "اللجنة العليا لتصفية الإقطاع" فيما زعموا. فبدأت بأن فرضت ما يسمى "تحفظا" على أراضينا الزراعية في 14 يوليو 1966. ثم استدعينا أمام إحدى لجان تصفية الإقطاع، وفندنا كل دعوى ادعتها للجنة زورا وعدوانا بشأن مخالفة قانون الإصلاح الزراعي الأول الصادر في سنة 1952... وجرى ذلك في ثلاث جلسات، وتواعدنا مع اللجنة على استئناف الاجتماع بعد أسبوعين.

وإذا بنا نفاجأ قبل حلول موعد الاجتماع المقرر بحوالي عشرة أيام، بأن اللجنة العليا لتصفية الإقطاع قد قررت في الساعة الخامسة مساء 17 سبتمبر سنة 1966 بفرض الحراسة على أسرتنا، وأسرتين أخريين. وانقسمت هذه الحراسة إلى نوعين: حراسة على الأراضي الزراعية وعلى سائر الأموال -وقد شملت ثلاثة من الأخوة هم المقيمون في القرية – شرباص، وحراسة على الأراضي الزراعية دون سائر الأموال وقد شملت الأخوة السبعة غير المقيمين في القرية... وكذلك فرضوا الحراسة على ورثة الأخ الأكبر المتوفى، ومن هؤلاء الورثة ضابط برتبة قائمقام (عقيد) استشهد في حرب اليمن في فبراير 1963!! فكان ورثته ممن شملتهم الحراسة أيضا... وفي الساعة السادسة، أي بعد ذلك بساعة، كان القرار قد بُلِّغ إلى الشرطة العسكرية في دمياط، فانطلقت على الفور إلى قريتنا، شرباص، وراحت تفتش بيوتنا فيها. ولم يكن من رجالنا أحد هناك لأن الثلاثة المقيمين في الريف كان قد صدر أمر بإبعادهم عن الريف منذ صدور قرار التحفظ في 14 يوليو سنة 1966...

ماذا كان موقف أهل بلدتنا، شرباص، إزاء هذا الظلم الفادح؟ كان موقفا رائعا من التضامن معنا في هذه المحنة، والاستعداد التام للدفاع عمن بقي من الأسرة في البلدة، والتصدي للأنذال من الأعداء في بلدة مجاورة تدعى عزب شرباص إذا ما سولت لأحد منهم نفسه أن يتطاول علينا بالقول أو التشفي، وعدم التعاون مع مندوبي الحكومة الذين صاروا يجيئون ويذهبون لمجرد إظهار قوة السلطة. أجل، لقد كانت وقفة رائعة من أهالي شرباص ضد السلطة وأذنابها. فبورك أهل شرباص نموذجا للوفاء والحفاظ على الكرامة، والاعتداد بالشهامة، والاعتزاز بصلة الرحم وصلة البنوة للبلدة الواحدة...

(وفي القاهرة) لا يمر يوم أو يومان إلا وأجد في المنزل أو مع البواب إشارة من شرطة مباحث الجيزة تستدعيني للحضور إلى مقرها في الدقي. فأضطر إلى الذهاب، وإذا بضابطين أحدهما طيب الخلق، والثاني سافل حقير، يطالباني بإقرارات مختلفة عن أملاكي الخاصة، وأملاك سائر إخوتي؛ وفي كل مرة تتكرر نفس الطلبات والإقرارات. وفي ليلة 17 إلى 18 سبتمبر كان قد جاءني في الواحدة بعد منتصف الليل ضابط لتبليغي بقرار الحراسة، وبقرار عدم مغادرة منطقة القاهرة... كذلك قام مندوب مما يسمة "الرقابة الإدارية" في أواخر أكتوبر بالتوجه إلى كلية الآداب في جامعة عين شمس ليستطلع آراء بعض الزملاء الأساتذة وأعضاء هيئة التدريس في شأني وموقفي من قرار الحراسة. فكان موقف من سُئِلوا شهما كريما، وغالى بعضهم في تمجيدي وذكر مناقبي ومكانتي العلمية والوطنية.

والواقع أنني في كلية الآداب –وكنت عميدا بالنيابة لما أن صدر القرار- لم أبْدِ أي تأثر أو انزعاج لهذا القرار. وحين كان البعض من الزملاء يأتي ليواسيني، كنت أكتفي بإشارة من يدي معناها أنني لا أحفل بهذا الأمر مطلقا. ذلك أنني رأيت أن إبداء عدم الاكتراث هو خير تصرف في مثل هذا الموقف[2]...

(وكان قد اقترح اسم عبد الرحمن بدوي ليكون وكيلا لوزارة الثقافة، لكن حال دون ذلك الشيوعيون المسيطرون على الوضع الثقافي)

وكان هؤلاء الشيوعيون متوثبين دائما للهجوم علي بشتى الطرق: مرة بدعوة أنني ممن يكتبون في مجلة "حوار" التي تصدر في لبنان وكانت نظيرة مجلة Encounter الأمريكية، مع أني لم أكتب فيها غير مقالة واحدة في العدد الأول منها، وكانت مجلة أدبية فكرية خالصة، واشترك في الكتابة فيها عديد من الكتاب المصريين حتى القرمزيين (أي الشيوعيين) مثل لويس عوض وسهير القلماوي، إلخ.

ومرة أخرى بدعوى أنني كنت أكبر المساهمين في إحياء ذكرى الإمام الغزالي والاحتفال بها: دمشق في مارس – إبريل سنة 1961، وهؤلاء الشيوعيون يعدون الغزالي زعيم "الرجعية" في الإسلام، وربما لم يقرأوا حرفا واحدا مما كتب، لكن هكذا جاءتهم الأوامر من موسكو.

ومرة ثالثة بدعوى أنني أروج للمثالية الألمانية وفلسفة نيتشه، فالأولى تعادي "مادية" ماركس وإنجلز، ونيتشه كان من ملهمي "النازية" عدوة أمهم الكبرى: روسيا.

ومرة رابعة بدعوى أنني بالوجودية التي أؤمن بها وأُسهم في تكوينها وترويجها في العالم العربي أناضل ضد الماركسية والشمولية، لأن الوجودية تدعو إلى الحرية وتمجد الفردية.

لهذا سلَّطوا أقلامهم المسعورة، ومعظمها مع الأسف كانت أقلام تلاميذ لي في الجامعة – سلطوها للهجوم عليّ... وحتى الذين كنت أرعاهم وهم طلاب، ثم لما تخرجوا، وتحملت في سبيلهم المتاعب، قد انساقوا في نفس التيار إما طمعا في نوال الحظوة لدى الشيوعيين المسيطرين على أدوات الإعلام والنفوذ لدى الحكام، وإما لاتقاء شرور هؤلاء، فكانوا إذن بين الطمع وبين التقية. وما أخسّ ما اختاروا من سلوك أهدروا فيه كل معاني الوفاء والاعتراف بالجميل والإقرار بالفضل، وصون الكرامة!

ووسط هذه الهموم كلها انبثق نور قادم من باريس. إذ دعتني كلية الآداب ومعهد الدراسات الإسلامية في جامعة باريس إلى إلقاء محاضرات خلال الفصل الدراسي الثاني من العام الدراسي 1966 – 1967... ووجدت في هذه الدعوة وسيلة النجاة من هذا الكابوس الرهيب الذي كنت أعيش فيه في مصر،وعزمت على أن يكون سفري هو "الهجرة" بالنسبة لي"[3].




[1] سيرة حياتي 1/375، 376.
[2] قلت (إلهامي) : مما يثير الجنون أن هذا النظام بلغ من الفجور والفرعنة أنه يسلب الأموال ثم لا يريد لأحد أن يغضب أو يبدي سخطا!!
[3] سيرة حياتي 1/376 وما بعدها.

السبت، مارس 28، 2015

رحلة الاستشراق - النضوج

ذكرنا أن الاستشراق وُلِد في لحظة المواجهة الأولى بين الإسلام والغرب، وعاش طفولته في عصر الحروب الصليبية.. والآن يدخل الاستشراق مرحلة "النضوج" التي نتناولها في هذه السطور.

بدأ نضوج الاستشراق في اللحظة التي تحول فيها من مجهودات فردية إلى عمل مؤسسي، تلك اللحظة كانت مجمع فيينا الذي يعتبره عامة الباحثين في الاستشراق البداية الحقيقية للاستشراق، كان ذلك في مطلع القرن الرابع عشر (1311 – 1312) واتخذ مجلس الكنائس قرارا "بإنشاء سلسلة من كراسي الأستاذية للغات العربية واليونانية والعبرية والسريانية في باريس وأكسفورد وبولونيا وأفينيون وسالامانكا"[1]، وكان بطل هذه اللحظة هو البابا إكليمنص الخامس[2]، ولذا فقليلا ما ينتبه الباحثون إلى بطل آخر سبقه بربع قرن، وهو البابا هونوريوس الرابع الذي أنشأ أول معهد لدراسة اللغات الشرقية في جامعة فرنسا أواخر القرن الثالث عشر الميلادي (1285م).

ومثلما كانت فرنسا صاحبة السبق في إنشاء كراسي للغات الشرقية، فقد سبقت إلى إنشاء كراسي للغة العربية على وجه الخصوص، لم يسبقها بذلك إلا إسبانيا التي أنشأت كرسيا للغة العربية بعد مجمع فيينا في سالامانكا، أما فرنسا فقد أنشأ الملك فرانسوا الأول كرسيا للغة العربية والعبرية في مدرسة ريمس عام (1519م)، وأنشأ الملك هنري الثالث كرسيا للغة العربية عام (1587م)، ثم تبعتها بريطانيا بعد أكثر من قرن، إذ أنشئ أول كرسي للغة العربية في جامعة كمبريدج (1633م) بتوصية من كبير الأساقفة لود (Loud)[3]، ثم بعد ثلاث سنوات أنشئ أول كرسي للغة العربية في جامعة أكسفورد (1636م).

في هذه الفترة لحق الإيطاليون بركب اللغات الشرقية؛ ففي القرن السابع عشر كلف مجمع نشر الإيمان الهبنات تأسيس مراكز اللغات الشرقية في روما، ثم قرر المجمع تدريس العربية والسريانية والعبرية في البندقية، وغيرها إذا وجد من يعلمها. وأنشأ الكاردينال مديتشي مدرسة للغات الشرقية ومكتبة في فلورنسا، والكاردينال بورميو مدرسة للغات الشرقية في ميلانو. بينما كان الإسبان في تلك الفترة قد أنشأوا خمسا وعشرين كرسيا للغات الشرقية!

وفي مطلع القرن الثامن عشر زادت إنجلترا كرسيين للغة العربية في جامعتي أكسفورد وكمبريدج، وفي ذات الوقت كانت فرنسا تدعم تشكيل بعثات من الطلاب الفرنسيين لدراسة اللغات الشرقية، ثم لم ينتهِ القرن حتى أنشأت في فرنسا المدرسة الوطنية للغات الشرقية الحية في باريس عام (1795م) للسفراء والقناصل وكبار التجار ذوي العلاقات مع الشرق، وفي ذات الوقت كانت معرفة اللغة العربية من مؤهلات ترقي الموظفين في إسبانيا على عهد الملك كارلوس الثالث الذي وسع المكتبة الملكية ونظم مكتبة دير الأسكوريـال.

وفي منتصف القرن الثامن عشر لحق الألمان بالركب، وكانوا قد بدأوا في تدريس اللغات الشرقية خلال القرن السادس عشر، لكن المحاولة الأولى لتدريس اللغة العربية كمادة مستقلة كانت بعد هذا التاريخ بقرنين من الزمان على يد المستشرق الألماني الشهير جوهان رايسكه. فيما لم يلحق الإيطاليون بركب تدريس اللغة العربية حتى أواخر القرن التاسع عشر، حين تحول المعهد الذي أنشأه الأب ريبا آعد الصيني إلى معهد شرقي في أواخر القرن التاسع عشر (1888م)، وفيه كرسي للغة العربية ولهجاتها، والبربرية، والتركية، والفارسية، والألبانية، وغيرها.

ثم ظهر في القرن التاسع عشر بطل جديد في عالم الاستشراق، ذلك هو المستشرق الفرنسي الأشهر سلفستر دو ساسي، والذي ازدهرت على يديه المدرسة الوطنية للغات الشرقية في باريس، والذي يتردد اسمه بين المستشرقين حتى الآن بإجلال كبير، ويُعدُّ تلاميذه الألمان هم آباء الاستشراق الألماني، لا سيما هاينريش فلايشر (1801 - 1888م) الذي يعد المؤسس الفعلي للدراسات العربية في ألمانيا، وأستاذ الجيل الثاني من المستشرقين الألمان، الذين تخرجوا من معهد اللغات الشرقية، الذي تم تأسيسه في عام (1887م) في برلين، ثم حل محله معهد اللغات الشرقية في بون.

ثم بدأ عصر الاستعمار منذ منتصف القرن التاسع عشر، فازدهرت معه حركة الاستشراق التي تلقت دعما قويا من السلطات، ونشطت حركة الدراسات العلمية والميدانية وشراء وسرقة ونقل المخطوطات من البلاد الإسلامية، ومن ثم ترجمتها ودراستها وفهرستها وتحقيقها والتعليق عليها، والاستفادة منها، كما ازدهرت حركة الرحالة المستشرقين إلى الشرق وحركة الابتعاث كمدرسين في المدارس العليا وأساتذة في الجامعات، وهذا كله بخلاف الخبراء الذين صحبوا جيوش الاحتلال والخبراء الذين دعموا الحكومات المحلية المرتبطة بالاحتلال، وسائر البعثات السياسية المقيمة بصفة دائمة أو مؤقتة، فقد كانت كل هذه الأنشطة تستلزم المزيد من خبراء الشرق، ومن ثم زادت الحركة الاستشراقية نشاطا من حيث الأقسام والمعاهد والجامعات والجمعيات العلمية والمؤتمرات الدورية والإصدارات المختلفة، حتى أصبح تتبع حركة الاستشراق نفسها أمرا يحتاج دراسات مطولة وجهد بحثي كبير.

وقد بدأ هذا الازدهار في بريطانيا وفرنسا بالأساس، ثم في إسبانيا التي نشطت فيها حركة الدراسات العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر، بينما نشط الاستشراق الإيطالي أوائل القرن العشرين مع بداية دخولهم على خط الاستعمار إذ أنشئ المعهد الإيطالي لإفريقيا عام (1906م)، ونشط الاستشراق الألماني عقب الحرب العالمية الثانية.

والآن لا تكاد توجد جامعة شبه معروفة إلا ولها نصيب من كلية أو معهد أو قسم يدرس الاستشراق، ولا توجد مكتبة شبه معروفة إلا ولها نصيب من المخطوطات الإسلامية فضلا عن الدراسات الاستشراقية.

وأما الاستشراق الأمريكي فقد بدأ من منتصف القرن التاسع عشر فقط، ولكنه الآن أكبر وأخطر وأقوى استشراق في العالم كله، وترصد له الأموال والميزانيات الضخمة، وتعتبر الجامعات الأمريكية والمراكز البحثية الأمريكية هي الأقوى والأغنى على مستوى العالم. ويمكن أن نرجع الاهتمام البحثي بالشرق إلى عام (1842م)، حين تأسست الجمعية الشرقية الأمريكية، والتي بدأ إنتاجها في العام التالي من خلال نشر ترجمات أو وضع دراسات عن الشرق، ولكن التطور الكبير لحركة الاستشراق الأمريكي يمكن إدراكها من بعد منتصف القرن العشرين في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية. واليوم تعد جامعة هارفارد أكبر الجامعات الأمريكية التي تعني بدراسة الشرق ولغاته وتاريخ شعوبه، ومنذ بدأت جامعة برنستون بتعليم اللغات والآداب الشرقية منذ عام (1935م) وهي تعتبر "عش الاستشراق" وأهم مراكزه في العالم، ولا ينقص ذلك من جهد باقي الجامعات في الاستشراق مثل: جامعة كولومبيا، وجامعة بنسلفانيا، وجامعة ميتشجين، وجامعة كاليفورنيا، وجامعة بوسطن، وجامعة شيكاغو... إلخ، وهذا بخلاف الجامعات والمعاهد التي تعمل في العالم الإسلامي وعلى رأسها الجامعة الأمريكية في القاهرة، والجامعة الأمريكية في بيروت، وكذلك المعاهد البحثية المنتشرة في العالم الإسلامي، سواء منها ما يعمل بالاسم الصريح أو يضع له اسما محليا[4].

وبعد هذا كله يعد من العبث السؤال عن ارتباط الاستشراق بالحكومات الغربية، وكيف أنه يعمل في خدمة مصالحهم قبل أن يعمل في خدمة العلم متحليا بالأمانة العلمية، إلا أن الباحثين المسلمين يصرون على ذكر الدلائل والتصريحات على هذا الارتباط في معرض تفسير السؤال المتبادر إلى الذهن: إذا كان الاستشراق عملا علميا، وإذا كان المستشرقون قد استطاعوا الوصول إلى المصادر الأصلية ولم يعودوا يعانون صعوبة التواصل مع المسلمين، فلماذا لم تتحسن صورة الإسلام في الغرب؟! ولماذا خرجت أغلب الكتابات الاستشراقية تنقل صورة شائهة عن المسلمين؟!

هذا ما نتناوله بإذن الله تعالى في المقال القادم

نشر في نون بوست


[1] إدوارد سعيد: الاستشراق ص110.
[2] ومن الضروري هنا أن نلفت النظر إلى أن هذا البابا هو الذي أعلن أن "وجود مسلم في الأراضي المسيحية هو إهانة لله"!! لكي نتفهم دوافع الاستشراق. كارين أرمسترونج: سيرة النبي محمد ص43.
[3] ولود هذا هو لود فيجو مراش مؤلف كتاب "عالم النص القرآني" الذي يؤرخ د. عبد الرحمن بدوي به أنه كان أول دراسة غربية جادة عن القرآن الكريم تعتمد على مصادر إسلامية، وإن امتلأ بالتشويه والأخطاء، وقد اقتفى من بعده أثره فيه. د. عبد الرحمن بدوي: دفاع عن القرآن ص6.
[4] انظر:
* في تاريخ وتطور الدراسات الشرقية في الغرب بشكل عام: عبد الرحمن حبنكة الميداني: أجنحة المكر الثلاثة ص122 وما بعدها، الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة 2/687 وما بعدها. مكسيم رودنسون: الصورة العربية والدراسات الغربية الإسلامية، ضمن "تراث الإسلام" بإشراف شاخت وبوزوروث 1/29 وما بعدها.
* في تاريخ وتطور الاستشراق البريطاني: نجيب العقيقي: المستشرقون 2/7 وما بعدها.
C. E. Butterworth, B. A. Kessel: The Introduction of Arabic Philosophy Into Europe, p. 65 – 82.
* في تاريخ وتطور الاستشراق الفرنسي: نجيب العقيقي: المستشرقون، 1/138 وما بعدها، يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق ص78 وما بعدها، 207 وما بعدها.
* في تاريخ وتطور الاسشتراق الألماني: نجيب العقيقي: المستشرقون، 2/340 وما بعدها، صلاح الدين المنجد: المستشرقون الألمان ص7 – 13، يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق ص55 وما بعدها، 94 وما بعدها، 341 وما بعدها.
* في تاريخ وتطور الاستشراق الإيطالي: نجيب العقيقي: المستشرقون 1/405 وما بعدها، يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق ص45 وما بعدها، 78 وما بعدها.
* في تاريخ وتطور الاستشراق الإسباني: نجيب العقيقي: المستشرقون 2/173 وما بعدها، يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق ص277 وما بعدها.
C. E. Butterworth, B. A. Kessel: The Introduction of Arabic Philosophy Into Europe, p. 7 – 30.
* في تاريخ وتطور الاستشراق الأمريكي: نجيب العقيقي: المستشرقون 3/120 وما بعدها، د. مازن مطبقاني: بحوث في الاستشراق الأمريكي المعاصر ص51 وما بعدها.