الخميس، أكتوبر 29، 2015

قوة الإنجاز الإسلامي بعيون المؤرخين الغربيين

كيف بنى الإسلام هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس؟ وكيف يمكن أن نعيد بعث هذه الأمة مرة أخرى؟ ومن المسئول عن القيام بهذا التغيير؟

سعيا للإجابة على هذا السؤال، بدأنا بمقدمة حول تصورات الفلاسفة للمدينة الفاضلة، وإجابتهم عن سؤال: من المسئول عن التغيير؟

ثم دلفنا إلى منهج الإسلام في بناء المجتمع، فوجدناه يقوم على أربعة أركان: الأساس العقدي، والمسئولية الفردية، وطبيعة النظام العام، ونظام حماية المجتمع.

1.    فالأساس العقدي المغروس في المسلم هو التوحيد الذي يصنع أفكاره وقناعاته ثم يرشده إلى مهمته في الحياة: مهمة الاستخلاف في الأرض، التي تعني عمرانها ومقاومة الإفساد فيها.

2.    والمسئولية الفردية تكشف لنا كيف بنى الإسلام شخصية المسلم ليقوم بمهمته، فألزمه أن يكون مسئولا، مستقل الشخصية ليس بإمَّعة، ذا أخلاق رفيعة، مستوعبا ومستدركا لأخطاء غيره، صلب لا ييأس أبدا.

3.    والنظام العام هو الذي يحدد طبيعة السلطة وشرعيتها وثوابتها، كما يحدد طبيعة المجتمع وأبرزها تماسكه وتكتله بروابط: الدين والرحم والجوار، ثم ينظم العلاقة بين السلطة والمجتمع.

4.    ونظام حماية المجتمع هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي تميزت به هذه الأمة، وقد رسمنا خريطته في الشرع، ونبهنا على أمور منسية يغفل عنها الكثيرون فيه، ورأينا آثار تركه على المجتمع.

وهكذا انتظم بناء المجتمع الإسلامي فصار كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.

وقد بقي في حديثنا هذا أن نثبت بالواقع وعبر التاريخ أن هذا البناء لم يكن نظريًّا فحسب، ولم يكن –كغيره من الأفكار والفلسفات ونظريات المدن الفاضلة- أحلامًا تفرزها العقول وتداعب الخيال، بل لقد كان بناء حقيقيًّا، أُنشئ وقام ورسخ، وظل يعطي ويفيض من خيره قرونًا على أهله ومن عداهم؛ بل ومن عاداه، وبهذا لم يتميز على غيره بحسن الصنعة فحسب؛ بل تميز عليه بالواقعية وإمكانية التطبيق.

ولذا فنحن هنا لن نتجول في النصوص والأقوال؛ بل سنُقَلِّب صفحات التاريخ ونتجوَّل في الأفعال والمواقف، فنرصد "الإنجاز" من بعد ما رصدنا "المنهج"، فالله المستعان.

كتب مايكل هارت كتابًا حول أعظم مائة شخصية في التاريخ الإنساني، وعلى الرغم من أنه مسيحي لا يؤمن بالإسلام ولا بمحمد r إلا أنه جعل النبي r على رأس هذه المائة، وقال: "لقد اخترت محمدًا r ليكون الأول في قائمة أهم رجال التاريخ، ولا بد أن يندهش كثيرون لهذا الاختيار، ومعهم حق في ذلك، ولكن محمدًا r هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحًا مطلقًا على المستوى الديني والدنيوي. وهو قد دعا إلى الإسلام، ونشره كواحد من أعظم الديانات، وأصبح قائدًا سياسيًّا وعسكريًّا ودينيًّا، وبعد ثلاثة عشر قرنًا من وفاته فإن أثر محمد r ما يزال قويًّا متجددًا"([1]).

ويفسر هارت حيثيات هذا الاختيار بالقول: "كان البدو من سكان شبه الجزيرة مشهورين بشراستهم في القتال، وكانوا ممزقين -أيضًا- رغم أنهم قليلو العدد، ولم تكن لهم قوة أو سطوة العرب في الشمال الذين عاشوا على الأرض المزروعة. ولكن الرسول استطاع لأول مرة في التاريخ أن يوحد بينهم وأن يملأهم بالإيمان وأن يهديهم جميعًا بالدعوة إلى الإله الواحد؛ ولذلك استطاعت جيوش المسلمين الصغيرة المؤمنة أن تقوم بأعظم غزوات عرفتها البشرية... وإذا استعرضنا التاريخ .. فإننا نجد أحداثًا كثيرة من الممكن أن تقع دون أبطالها المعروفين... مثلاً كان يمكن أن تستقل مستعمرات أمريكا الجنوبية عن إسبانيا دون أن يتزعم حركاتها الاستقلالية رجل مثل: سيمون بوليفار.. هذا ممكن جدًّا، على أن يجيء بعد ذلك أي إنسان ويقوم بنفس العمل، ولكن من المستحيل أن يقال ذلك عن البدو وعن العرب عمومًا، وعن إمبراطوريتهم الواسعة دون أن يكون هناك محمد r، فلم يعرف العالم كله رجلاً بهذه العظمة قبل ذلك، وما كان من الممكن أن تتحقق كل هذه الانتصارات الباهرة بغير زعامته وهدايته، وإيمان الجميع به"([2]).

كان الإنجاز بمنزلة انقلاب كامل كما يقول المستشرق الإنجليزي توماس أرنولد: "إن دخول الإسلام في المجتمع العربي لم يدل على مجرَّد القضاء على قليل من عادات بربرية وحشية فحسب؛ وإنما كان انقلابًا كاملاً لِمُثُل الحياة التي كانت من قبل"([3]).

ويصف مؤرخ الحضارة ول ديورانت ملامح هذا الانقلاب بقوله: "إذا ما حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس قلنا: إن محمدًا r كان من أعظم عظماء التاريخ؛ فلقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي لشعب ألقت به في دياجير الهمجية حرارة الجو وجدب الصحراء، وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحًا لم يدانه فيه أي مصلح آخر في التاريخ كله، وقل أن نجد إنسانًا غيره حقق ما كان يحلم به، ولم يكن ذلك لأنه هو نفسه كان شديد التمسك بالدين وكفى؛ بل لأنه لم يكن ثمة قوة غير قوة الدين تدفع العرب في أيامه إلى سلوك ذلك الطريق الذي سلكوه، وكانت بلاد العرب -لما بدأ الدعوة- صحراء جدباء، تسكنها قبائل من عبدة الأوثان قليل عددها، متفرقة كلمتها، وكانت عند وفاته أمة موحدة متماسكة، وقد كبح جماح التعصب والخرافات، وأقام فوق اليهودية والمسيحية ودين بلاده القديم دينًا سهلاً واضحًا قويًّا، وصرحًا خلقيًّا قوامه البسالة والعزة القومية، واستطاع في جيل واحد أن ينتصر في مائة معركة، وفي قرن واحد أن ينشئ دولة عظيمة، وأن يبقى إلى يومنا هذا قوة ذات خطر عظيم في نصف العالم"([4]).

إن أفعل أثر في التطبيق العملي للفكرة المجردة هي أن الإسلام لم يكن مجرد فكرة؛ بل كان دينًا يرى فيه المرء نجاة الآخرة، وإن فاته نصيب الدنيا، وقد صار الإيمان بدين ضرورة مُسَلَّم بها وبأثرها في الحياة حتى لدى فلاسفة المادية النفعية الذين -وإن لم يؤمنوا بدين- يعترفون بنفع وجود الدين في حياة البشر([5]).

وقد ظل أثر الدين قائمًا في حياة المسلمين ومجتمعاتهم حتى وهم في أضعف حالاتهم من الأخذ بنصيب الدنيا، يشهد الفيلسوف والمستشرق الفرنسي جوستاف لوبون بأنه "يوجد فرق بين التعاليم المكتوبة والعمل بها في الغالب، وإذا ما أراد الإنسان أن يعلم أهمية هذه التعاليم وجب عليه أن يدرس درجة تأثيرها في الحياة، وحدود هذا التأثير هو الذي تهم معرفته الآن... تأثير دين محمد في النفوس أعظم من تأثير أي دين آخر، ولا تزال العروق المختلفة التي اتخذت القرآن مرشدًا لها تعمل بأحكامه كما كانت تفعل منذ ثلاثة عشر قرنًا([6])... وعلى من يرغب في فهم حقيقة أمم الشرق التي لم يدرك الأوروبيون أمرها إلا قليلاً، أن يتمثل سلطان الدين الكبير على نفوس أبنائها، وللدين ذي التأثير الضئيل فينا([7]) نفوذ عظيم فيهم، وبالدين يُؤَثَّر في نفوسهم"([8]).

لكن التأثير الإسلامي لم يكن فحسب فيما أنجزه للعرب، بل ثمة تأثير شامل فاض به الإسلام على العالمين، وقد شمل هذا التأثير كافة الميادين الإنسانية، وهو ما سنستعرض بعضا منه في المقال القادم إن شاء الله تعالى.

نشر في ساسة بوست



([1]) مايكل هارت: الخالدون مائة ص13.
([2]) السابق ص16 وما بعدها.
([3]) توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام ص61.
([4]) ول ديورانت: قصة الحضارة 13/47.
([5]) محمد إلهامي: التأمل ص12 وما بعدها.
([6]) توفي لوبون (13 من ديسمبر 1931م = 3 من شعبان 1350هـ).
([7]) أي: الأوروبيين.
([8]) جوستاف لوبون: حضارة العرب ص417.

الثلاثاء، أكتوبر 27، 2015

قراءة في كتاب الفلسفة السياسية لأحمد داود أوغلو (3)

§         اسم الكتاب: الفلسفة السياسية
§         المؤلف: د. أحمد داود أوغلو
§         المترجم: د. إبراهيم البيومي غانم
§         تقديم: د. محمد عمارة
§         دار النشر: مكتبة الشروق الدولية
§         سنة النشر: الطبعة الثانية، 2006م.
§         عدد الصفحات: 77.
§         نشر الأصل الإنجليزي لهذا الكتاب في عام 1993م، بعنوان (Alternative Paradigms: The Impact of Islamic and Western Weltanschauungs on Political Theory) ومعناه "النموذج البديل: أثر التصورات الوجودية الإسلامية والغربية على النظرية السياسية".

ذكرنا في مقال سابق طبيعة الكتاب ونظريته العامة، وقلنا بأن الكتاب ينقسم إلى بابيْن؛ الأول: يتحدث عن التناقض الأصيل بين الرؤية الإسلامية والرؤية الغربية، والثاني: يتحدث عن أثر هذا التناقض على مجال النظام السياسي تحديدا وإن كان يلامس –بطبيعة الحال- مسائل الاقتصاد والاجتماع والثقافة. والثاني يرصد فيه المؤلف خمسة آثار من تناقض الرؤية الإسلامية مع الرؤية الغربية في المجال السياسي هي: مبرر وجود النظام السياسي، وشرعية النظام السياسي، وقد تكلمنا عنهما في المقال السابق وبقي أن نستعرض الآثار الثلاثة الباقية.
وقد طال عرض الكتاب رغم حجمه الصغير لما يحتويه من معانٍ فارقة ومهمة في هذا الموضوع الخطير الذي تحتاجه كل الحركات الإسلامية لفهم واقعها ووضع برنامجها للدولة الإسلامية.

3.    تعدد مراكز القوة

انعكس التناقض بين الرؤيتيْن الإسلامية والغربية في مجال النظام السياسي على مفهوم تعدد مراكز القوى فيه، مثلما يقول سبينوزا "نظام الأفكار هو نفس نظام الأشياء".

لقد اختلف الفلاسفة الغربيون اختلافا واسعا في تحليل مفهوم القوة، فبعضهم ربطها بالأخلاق والغاية النبيلة مثل أفلاطون والرواقيون، وبعضهم لم يبال بذلك وقد آل أمر هؤلاء إلى مفهوم "القوة السياسية" التي استعملت منذ الامبراطورية الرومانية والتي يمثل ميكيافيللي نقطة فارقة في تطورها. ثم اختلفوا من جهة أخرى في ما إذا كانت القوة هي "امتلاك قوة" أم هي القدرة على التأثير من خلال العلاقات. ولكن على الرغم من كافة الخلافات النظرية سارت تلك النظريات نحو دعم وجود مراكز متعددة للقوة في النظام السياسي، لأن النظام السياسي الغربي نفسه قائم على الفصل الصارم الاجتماعي والسياسي والديني، فهناك عائلة مالكة وطبقة نبلاء ورجال كنيسة، فالملوك يحتكرون المجال السياسي والنبلاء يحتكرون المجال الاقتصادي بالإقطاع ورجال الكنيسة يحتكرون المجال الديني. ثم أضيفت لهم طبقة جديدة مع التطور الصناعي الذي غير من خريطة القوى الاقتصادية فأصعد طبقة جديدة من التجار وأصحاب المصانع والماليين. وفي ظل هذا الفصل الصارم بين المجالات والطبقات كانت الضمانة الوحيدة لبقاء نظام سياسي أحد أمرين نطق بكل منهما عدد من الفلاسفة، فبعضهم أراد توحيد مراكز القوى في مركز واحد (وهؤلاء اختلفوا: أيهما أحق: الدولة أم الكنيسة) وبعضهم سعى للتسليم بتعدد مراكز القوى في النظام السياسي ورأى هذا التعدد ضمانة لبقاء النظام متوازنا. إلا أن خلافهم هذا على الحقيقة كان خلافا حول المؤسسات والمنهج لا خلافا حول مفهوم القوة، فالحقيقة أن مفهوم القوة في ظل هذا النزاع بين مراكز القوة قد انفصل عن الغاية والأخلاق وتحكمت فيه رغبات الأطراف في توسيع نفوذها، ثم جاءت الحقبة العلمانية فرفضت ارتباط مفهوم القوة بالأخلاق كلية، وجاءت فلسفاتها تدعم استعمال القوة لتحقيق المنافع والأهداف بغض النظر عن أخلاقيتها وعدالتها.

بينما في النظام الإسلامي الذي يتمركز حول الإله الواحد العلي المهيمن على الحياة والذي سيحاسب الجميع في الآخرة، لم يمكن أن يظهر مثل هذا التعدد في مراكز القوة داخل النظام السياسي، إذ الناس جميعا سواء وسواسية ولا يحتكر أحد أو طبقة مجالا بعينه، فبإمكان الجميع أن يكون من الأثرياء وبإمكان الجميع أن يكون من العلماء، وبإمكان الجميع أن يكون حاكما، وثمة أمر نبوي واضح "اسمعوا وأطيعوا ولو تأمَّر عليكم عبدٌ حبشي". ولذلك لم يكن في المجتمع الإسلامي إقطاع على نحو ما كان في التاريخ الغربي، كما لم تكن فيه مؤسسة دينية كهنوتية تتمع بصلاحيات واسعة كما هو الحال في الغرب، ثم لم يكن فيه أيضا قداسة لعائلة مالكة تستمد سلطتها من إرادة الرب كما كان لملوك أوروبا. لقد تركز نظر الرؤية الإسلامية حول فاعلية هذا النظام السياسي في القيام بالواجبات المنوطة به، وهي الواجبات الدينية التي صدرت عن الله، باعتباره القوة الوحيدة المطلقة والقوة الوحيدة التي تستحق أن تُطاع وتستحق أن تُرْهَب! ولذلك فإن التجاوب مع النظام السياسي إنما يكون فرعا عن تجاوب هذا النظام مع الإسلام نفسه (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم). ولهذا فإن النظام السياسي الإسلامي واحد غير متعدد مراكز القوى.

ولهذا الاختلاف بين الرؤيتيْن آثار بعيدة من أهمها أن المجتمع الإسلامي يرفض ما يهدد "العدالة" ولو كان يحقق تطورا ماديا ضخما، كما أن صيغة التكافل بين أبناء المجتمع الإسلامي مرتبطة أصلا بكونهم سواسية وممسوكة بقيم دينية كالزكاة التي هي حق للفقراء في أموال الأغنياء، وتمثل "الحسبة" (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ضمير المجتمع المسلم وأداته ضد أي تهديد ينال من قيمه واستقراره.

4.    خطر تغول المركز

وهنا يأتي السؤال: إذا كان النظام الإسلامي لا يسمح بتعدد مراكز القوى في النظام السياسي، فكيف يفعل إزاء خطر تغول هذا المركز؟

إن الحل الإسلامي هنا هو إبقاء القِيَم قوية وحاضرة وفاعلة في المجتمع، مع حماية سيادة القانون والحرص على استقلال القضاء. وهذا كله بعد تشديدهم في الشروط التي ينبغي أن تتوفر في الإمام بحيث يكون أفضل وأكمل الأمة.

إن قيام النظام السياسي وشرعيته إنما تُسْتَمَدُّ من تطبيقه للإسلام، وهذا هو الأصل الكبير العام، والذي يُسْقِط شرعية النظام ومبرر وجوده إن هو خالفه، ولذلك ينزع العلماء حق الطاعة والخضوع لهذا النظام بانتهاكه لهذا الأصل. ومن آثار هذا أن جميع علماء المسلمين متفقون على استقلال القضاء عن النظام السياسي، لأنه الذي يحول دون تغول هذا النظام، فالقضاة وإن كان يعينهم الخليفة إلا أنهم مستقلون عنه بل هم نواب الأمة لا نواب الإمام، وليس للإمام أن يعزلهم دون سبب وجيه لأن الإمام نفسه لا حصانة له ضد أحكام القضاء.

ثم إن الوحدة في النظام السياسي لا تعني أي احتكار للقوة الاجتماعية والدينية، بل إن مسار التاريخ الإسلامي يشهد بأن التعددية الدينية والثقافية والاجتماعية كانت مزدهرة في ظل هذا "النظام السياسي الموحد"، والسرُّ الأهم في هذا أن القيم المُؤسِّسَة للنظام الإسلامي أوصت بالحفاظ وحسن التعامل مع أهل الذمة، وذلك على العكس من الوضع الغربي الذي لم يشهد تسامحا وتعددية إلا في الحقبة الحديثة. ففي حين احتاج العالم الغربي إلى وحدة تفرض النظام وتمنع الفوضى لم يكن العالم الإسلامي محتاجا لهذا لأنه لم يكن يفصل بين الناس في طبقات وفوارق صارمة، ويمكن تشبيه الدولة الإسلامية بأنها "اتحاد يضم عدة ملل" في ظل مركز سياسي يمثل موطن القوة.

إن الفارق الأساسي بين النظامين الغربي والإسلامي كامنٌ في أن النظام الغربي نزَّاع إلى فرض رؤيته على الجميع، وتقسيم مكونات المجتمع إلى طبقات وفوارق فاصلة، بينما يسمح النظام الإسلامي بالتعدد الثقافي والديني والاجتماعي والقانوني، إذ تستطيع كل ملة أن تعيش كما تريد وأن تطبق قوانينها على نفسها، ولذلك تتهدد هذه التعددية في ظل النظام الغربي بينما تزدهر في ظل النظام الإسلامي. ثم إن النظام الإسلامي باعتماده على رؤية دينية وتركز قوته في مؤسسة سياسية منبثقة من قيم إلهية كبرى لا يسمح بتحول الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية للأقليات إلى تهديد عام، وهو الأمر الذي تتخوف منه الرؤية الغربية فتنزع إلى فرض رؤيتها الموحدة على جميع من تحكمهم. (فمثلا: الاقتصاد الإسلامي مؤسس على قيمة دينية مستقاة من الوحي هي: ينبغي أن يُنتَج كل ما يحتاج الناس إليه.. ومن هنا يتحرك الاقتصاد دائما إلى جهة تحقيق مصالح الناس. بينما يتأسس الاقتصاد الغربي على قاعدة وضعية تقول: كل ما يُنْتَج ينبغي أن يُسْتَهلك.. ومن هنا يتحرك الاقتصاد دائما إلى جهة تحقيق مصالح المُنْتِجين، ويلزم لمقاومة تهديد المجتمع أن تتدخل الدولة بفرض رؤيتها الاقتصادية القانونية على الجميع منعا لنشوء هذا التهديد من جماعات المصالح. وفيما يستحيل أن تتحول الدولة الإسلامية إلى كيان رأسمالي لطبيعتها القيمية فإنه من السهل أن تتحول الدولة الغربية إلى كيان رأسمالي).

إن مجرد وجود القِيَم والمعايير الدينية في النظام الإسلامي يقيده من كافة الآثار العلمانية الوضعية التي تجعل مركز القوة في النظام متغولا ومتضخما ولا يُمكن مقاومته.

5.    الثنائية والتعددية في هيكل النظام الدولي

تمخضت الفلسفات الغربية عن مفهوم سياسي أساسي هو مفهوم "الدولة القومية" والذي كان صلح وستفاليا إعلان عنه، بينما امتدت جذور هذا الفكر السياسي المحدد للهوية إلى مدن اليونان القديمة وإلى الإمبراطورية الرومانية (التي كانت دولة لا أمة عالمية)، وليس يُسْتَغْرَب في ظل فلسفة علمانية أرضية أن تنقسم كل "أمة" إلى "دولة قومية"، يكون لكل منها معاييرها وسياستها وبنيتها المستقلة. وفي هذه الحالة تتحدد الهوية لكل فرد من خلال الأصل العرقي أو مكان الميلاد. فمن وُلِد من أصل كذا أو في نطاق دولة كذا مُنِحَت له جنسيتها، واكتسب حق المواطنة فيها.

بينما يتناقض هذا مع المفهوم الإسلامي الذي يجعل الهوية (الإسلام) شيئا مُكْتَسَبًا، يمكن لكل إنسان أن يكتسب هذه الهوية بدخوله في الإسلام، ويكون انتماؤه للمجتمع الإسلامي هو انتماء طوعي، يختار فيه المرء نمط حياته وثقافته وسلوكه والتزامه بذلك. ولذلك فإن الأمة الإسلامية هي أمة انتماء ديني قِيَميّ أكبر بكثير من كونها انتماءا جغرافيا أو عرقيا أو لغويا. ثم يقبل أهل الذمة فيها ما تقدمه لهم من الهيمنة السياسية (وهي حماية لهم وليست اضطهادا) تحقيقا للقوة السياسية للأمة متمتعين بالاستقلال الديني والثقافي والقانوني في شؤونهم.


ولهذا يعرف الفقه الإسلامي مصطلح "دار الإسلام" و"دار الحرب"، ولا يعني هذا إعلان حالة حرب دائمة (فأكثر الفقهاء يرون أن الأصل في العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها هو السلام لا الحرب)، وإنما هو تقسيم طبيعي ومنسجم مع الرؤية الإسلامية التي تحدد جغرافيا أين يستطيع المسلم أن يحيا في دولة تمثل رؤيته الإسلامية وأين تغيب هذه الرؤية. ومن الطبيعي كذلك ألا ينشأ هذا التقسيم في الرؤية الغربية لأنها لا تحفل أصلا بالتصور الكلي الكوني للوجود.

نشر في تركيا بوست

الأحد، أكتوبر 25، 2015

عشر عبر من عاشوراء

كان يوما واحدا، ولكنه يوم فارق في تاريخ الإنسانية، ذلك يوم عاشوراء.. يوم هلاك الطاغية الذي ضربه الله مثلا لكل الطغاة، ونجاة المظلومين المقهورين الذين ما كان يتوقع أحد أن يأتي لهم فرج أبدا!

وكم في قصة هذا اليوم من الدروس والعبر، قد التقطنا منها عشرة، فالله المستعان!

1. طبيعة الطاغية:
الذي جاءته الآيات تترى فلم تؤثر فيه ولم يحفل بها، تسع آيات بينات لا يستطيع لها ردًّا ولا دفعا، ولكنه مع هذا لا يؤمن، حتى جاءته الآية الهائلة الهادرة الضخمة، المعجزة الكونية الكبرى؛ لقد انشق البحر أمامه فتحول إلى طريق عبر عليه القوم، قد كان أحرى به أن يتوقف، فلئن لم يتوقف ليؤمن فليتوقف ليفكر ويعيد النظر في هذا التغير الكوني الرهيب.. لكن الطاغية إذا بلغ حدَّ الفجور انغلق على عقله وخُتِم على قلبه، فسارع إلى حتفه.. ثم لا يعود له شيء من العقل إلا بعد فوات الأوان {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90]

2. طبيعة العسكر: وهم جنود الطاغية الذين كانوا ينفذون أوامره بلا نقاش ولا حتى تفكير، فيقتلون ويعذبون ويضربون، هؤلاء كذلك ينغلق على فكرهم ويُخْتَم على قلوبهم، فيلحقون بسيدهم دون أن يتوقفوا أمام الدروس والعبر، ولو كانت هذه الدروس معجزة كونية هائلة تحول فيها البحر إلى طريق يابس!!

ولذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خدمة الظالمين وقال في الحديث الحسن: "ليأتين على الناس زمان يكون عليكم أمراء سفهاء، يقدمون شرار الناس ويظهرون بخيارهم ويؤخرون الصلاة عن مواقتيها، فمن أدرك ذلك منكم فلا يكونن عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا خازنا".. لأن الظلم المؤسسي يطبع على قلوب أصحابه وينشئهم نشأة أخرى تجعلهم يحسبون الأوامر دينا فلا يخالفونها بل ولا يفكرون فيها.

وهذا درس لجميع الناس أن يخافوا على أنفسهم هذا المصير مهما كانت إغراءات ومزايا هذا الصنف في الدنيا، وهو درس للمصلحين كذلك.. ليعلموا أن أبعد الناس عن صلاح الحال من كان عريقا في جوار الظالمين، وهذا درس لو فقهوه لتغير كثير من طرق تفكيرهم ووسائل دعوتهم ومناهج جهادهم.

3. طبيعة الاستبداد:  وكيف يصنع بالشعوب، فأولئك القوم من بني إسرائيل الذين عاشوا تحت ظل فرعون لم يستطيعوا التخلص من آثار الاستبداد في نفوسهم، لقد سحقهم الاستبداد وقهرهم، حتى أنهم لم يرحبوا بالمنقذ المخلص ولو كان نبيا وقالوا له {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف: 129]، وهم برغم ما رأوه من المعجزة الهائلة الكبرى أتعبوا نبيهم غاية التعب، حتى أنهم بعدما عبروا رأوا قوما يعبدون الأصنام فقالوا {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، ولما غاب عنهم عبدوا العجل، ولما أنزل الله عليهم المن والسلوى قالوا { لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} [البقرة: 61] وبلغوا أن قالوا {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] وهم الذين لم يجرؤوا على التفكير في أن يروا فرعون جهرة قبل أن يخضعوا لجنوده!! ورفضوا الجهاد مع الوعد بالنصر بل فجروا فقالوا {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، حتى قال موسى عليه السلام آخر الأمر {رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25].

وذلك درس كبير: إن الشعوب التي طحنها الاستبداد لا تنطاع لمنقذ ولو كان نبيا، ولا تؤمن ولو شهدت المعجزات.. ولهذا فيجب على الدعاة أن يجعلوا كل مجهودهم منصبا على أن لا يكون استبداد، فإن الاستبداد يجعل كل عملهم هباءًا منثورا، وربما جعلهم هم أنفسهم على هذه الشاكلة.

4. طبيعة الشعوب:
فقد تُعَظِّم الناس الأيام وتنسى دلالتها، كذلك فعلت قريش فقد كانت تعظم عاشوراء لكنها لا تستوعب دروسه، وكذلك فعل اليهود فكانوا يصومونه، ولكنهم لم يؤمنوا لنبي الله محمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم من جاء بأخلاق الفراعين من جديد وكانت سيرته مع المصلحين كسيرة فرعون مع موسى وهارون.

6. طبيعة المصلحين:
فهم يعاملون نسيان الشعوب بالتذكير والتكرار، ويأخذون بأيديهم بالصبر والرفق والحلم والأناة، يستخرجونهم من تحت سلطان الباطل وإن لم يكونوا طوعا لهم، ويصبرون على هدايتهم للحق وإن عاندوهم وخالفوهم، ويواجهون في سبيل استنقاذهم جبروت الطغاة الظالمين، ثم هم لا يرجون بعد ذلك أجرا ولا شكورا.

7. طبيعة الأمة الإسلامية:
فهي تأخذ الحكمة من حيث وجدتها، وتحتفي بالحق من أي طريق جاء، ولو كان من طريق عدوها، وبهذا تحتفظ الأمة بالنظر المستقل والنفس المطمئنة التي لا تتخوف من فحص ومطالعة ما عند غيرها، بل تتعامل معه تعامل الواثق بنفسه وبربه، وترى نفسها أحق بكل حق وأولى بكل خير، بل هي الأمة التي تصر على التفوق، وذلك قول نبينا صلى الله عليه وسلم "نحن أولى بموسى منهم"، ولقد كانت هذه الولاية ولاية عملية بمزيد صيام واحتفاء لا بمجرد الشعارات والهتافات، فندب النبي صيام تاسوعاء مع عاشوراء زيادة على ما يفعل اليهود. ذلك أن الأمة الإسلامية قد ورثت وحملت الرسالة من بعد ما ضيعتها بنو إسرائيل.

8. قد ينزل نصر على من لا يستحق:
كما نزل نصر الله على بني إسرائيل وأنجاهم من فرعون وهم لا يستحقون نصرا. ولكن تظل منظومة الباطل إن لم يكن ثمة أهل حق؛ فإن الحق لا يسود إلا إن نهض له من كان أهلا لحمل الرسالة، فعندئذ يزول الباطل ليأتي الحق، وإلا فإن الباطل الذي يهلك يعقبه باطل آخر يبدأ دورة أخرى. فهكذا نجا بنو إسرائيل لكنهم لم يكونوا أهلا لتأسيس دولة حق، وهلك فرعون لكن خلفه في مصر فرعون آخر يقيم على مسيرة الباطل.

وهنا ينبغي أن ينتبه المصلحون ويتبصروا، فإن نزول النصر على قوم لا يعني أنهم استحقوه، بل لئن جاء نصر بغير استحقاق فعليهم أن ينتبهوا لما في صفوف هؤلاء من الأتباع فلا يعتمدون عليهم ولا يطمئنون إليهم، بل ليعلموا أن هذا فرج من الله على هيئة اختبار كما قال تعالى {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129] فيكون همُّهم أن يستكملوا مهمة الدعوة والإصلاح والتربية والإعداد والتكوين بعد أن منَّ الله عليهم بهلاك طاغية وزوال بطشه.

9. تظل العبرة ولكن تحجبها الغفلة:
فهذه جثة فرعون ملقاة في المتحف المصري، ولكن كما قال تعالى {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس: 92]، وقد فحصها الطبيب والمستشرق الفرنسي موريس بوكاي، وكانت من أسباب إيمانه، وسجل هذا كله في كتابه "التوراة والإنجيل والقرآن والعلم"، ولكن كم من الناس من يهتم بها أو يهتم بالنظر إليها وأخذ العظة منها؟!.. وكم في هذه الدنيا من دروس وعبر تفيض من مشاهد الكون أو آثار السابقين أو تاريخ اللاحقين أو واقع المعاصرين، ولكن تحجبها الغفلة! ولا حول ولا قوة إلا بالله!

هذه جثة فرعون.. ولكن كم في الأرض من فراعين!
10. ختام المعجزات وافتتاح الجهاد: فإن يوم عاشوراء كان آخر يوم لتدخل السماء في إهلاك الأقوام المكذبين، لقد انتقلت هذه المهمة إلى الأمة التي حملت الرسالة، كانت بنو إسرائيل أول الأمر، ثم صارت الرسالة والمهمة إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال أبو سعيد الخدري: "إن الله تعالى بعد إنزاله التوراة لم يُهْلِك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم؛ بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين".

وهكذا ينبغي أن تكون الأمة لكل مظلوم عاشوراء، وعلى كل ظالم عاشوراء.