الجمعة، فبراير 12، 2016

كيف خربت عصور الاحتلال المجتمعات الإسلامية

سلكنا في هذه السلسلة من المقالات رحلة طويلة نوشك الآن على نهايتها..

أردنا أن نتحدث عن منهج الإسلام في بناء المجتمعات، فبدأنا بالحديث عن تصورات الفلاسفة للمدينة الفاضلة، وكيف أجابوا على سؤال التغيير، فظهر لنا عيوب البشر حين يرسمون المناهج، مع ما ثبت من فشلهم في صناعة نموذج واحد لمجتمع واحد يحقق هذه الصورة.

ثم دلفنا إلى موضوع بناء الإسلام للمجتمع، وذكرنا أنه يقوم على أربعة أركان:

1.    الأساس العقدي المغروس في قلب المسلم، وهو التوحيد الذي يصوغ الأفكار والقناعات ويجيب عن الأسئلة الكبرى، ومنها: سؤال مهمة المسلم في هذه الحياة، وهي مهمة تعميرها ومقاومة الإفساد فيها ابتغاء وجه الله وطلبا للدار الآخرة.
  
2.    بناء شخصية المسلم المؤهل للقيام بهذه المهمة، فيكونَ أهلا للمسؤولية، ليس إمعة بل مستقل الشخصية، يتحلى بأخلاق المهمة، مستدركا ومستوعبا لأخطاء غيره، صلب لا ييأس أبدا.

3.     بناء النظام العام للمجتمع، الذي يحدد طبيعة السلطة وشرعيتها وثوابتها، ويحدد طبيعة المجتمع وروابطه التي تُمَتِّنُه وتقويه: الدين والرحم والجوار، ثم يحدد طبيعة العلاقة بين السلطة والمجتمع.

4.     ثم وجدنا في الإسلام نظاما تفرد به عن سائر المناهج والفلسفات، وهو نظام الحماية وجهاز الإنذار، ذلك هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فرسمنا خريطته، ونبهنا على أمور منسية يغفل عنها الكثيرون فيه، وذكرنا آثار إهماله وتركه.

وكانت المزية العظمى للمنهج الإسلامي أنه لم يكن نظريا فلسفيا ولا مجرد خيال محبوس في الأوراق، وإنما نشأ مجتمع إسلامي على الأرض وأعطى لتاريخ الإنسانية إنجازا عظيما لم يكن مثله لأي أمة في التاريخ، لا في ميزان الإنجاز السياسي والعسكري، ولا في ميزان الإنجاز الحضاري. وذكرنا أمثلة عن حيوية المجتمع وقدرته على المقاومة والتغيير من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الفردي، والجماعي.

ثم كان لا بد أن نروي قصة الهبوط، وكيف صرنا بهذا الضعف والهوان من بعد ما كنا على قمة الحضارة، ونفتش في جذور هذه النكبة، وكيف استطاع الغرب التفوق علينا وهزيمتنا وقهرنا. فوجدنا إجابة ذلك في ستة أمور: أخذوا منا ثلاثة تقيم حضارتهم وزرعوا في بلادنا قسرا الثلاثة الأخرى.

أما التي أخذوها واقتبسوها فهي: التحرر من سلطة الإقطاع والكنيسة، وقوة المجتمع، والتوحد رغم الخلافات العرقية والدينية. وأما التي غرسوها عندنا فهي: القوميات بدلا عن الوحدة، والعلمانية ذات الدولة المركزية، والنزعة الفردية.
هذه الثلاثة هي التي نتناولها في هذا المقال والذي يليه إن شاء الله تعالى، وبها نختتم هذه الرحلة في هذا الموضوع، والله المستعان.

***

"المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده"([1]).

مثلما كان الغرب وغيره من الحضارات مولعين بتقليد المسلمين أيام الازدهار الحضاري، جاءت عصور الضعف بما عكس الوضع، وصار المسلمون مولعين بالاقتداء بالغربيين.

على أن المسلمين حين انتشروا في الأرض لم يكونوا يريدون بأهلها إلا خيرًا، على العكس من الغربيين في لحظات قوتهم؛ فهم لم يريدوا نشر خير أو حضارة في البلاد المحتلة؛ بل أرادوا استلاب خيرها، وانتزاع مكامن قوتها لتصير تابعة أسيرة؛ ولهذا ترى آثار المسلمين في البلاد التي فتحوها –حتى ولو خرجوا منها- حضارة ونهضة، بينما آثار غيرهم في بلادنا –حتى بعد خروجهم- مشكلات ونزاعات حدودية وإثنية وقبلية، وأفكار منحلة هدامة، وتبعية سياسية واقتصادية وثقافية ما تزال الأمة تسعى للتخلص منها.

(1)

لا ريب أن الاحتلال لم ينزل بلادنا إلا بعد أن تفرقنا نحن أولاً، ولكن فرقتنا كانت فرقة الحكام؛ بينما كان الاتصال الشعبي قائمًا؛ إذ لا حدود ولا قيود ولا جمارك، ولا حرج على انتقال التجارة وطلاب العلم، وسائر البشر الذين يشعرون أنهم في وطنهم دار الإسلام، وإن تباعدت الديار.

بينما صنع الاحتلال في تلك الأمة الواحد حدودًا صارت مقدسة، بل صار تقديس الحدود والتراب أعلى وأولى من تقديس البشر، وصارت الجيوش الوطنية تدافع عن هذه الحدود، ولو بقتل المسلمين وإن كانوا لاجئين، وصار للوطن معنى آخر بخلاف الانتماء إلى دار الإسلام، واشتعل تأجيج النعرات القومية بين العرب والترك لإسقاط الخلافة العثمانية، ثم بين العرب وغيرهم من الشعوب كالسودان والأكراد والأمازيغ والفرس والتتر وغيرهم، ثم بين العرب أنفسهم؛ فأولئك مصريون جذورهم ضاربة إلى الفراعنة العظماء، وأولئك عراقيون المنتسبون إلى حضارات السومريين والبابليين، وأولئك سوريون أحفاد الفينيقيين، وأولئك التوانسة وجذورهم في حضارة قرطاج، وأولئك اليمنيون ورثة الحضارة العريقة في سبأ وعدن([2]).. وهكذا!

لقد ذاق الغربيون –أوروبيون وأمريكان- لعنة القومية والتفرق([3])، ولهذا فإنهم أجادوا صناعتها في بلادنا، وإليك هذا الاعتراف الغربي الباكي على أوروبا، التي أوقعتها القومية في الحرب العالمية الأولى، فأدت إلى أن "انهارت إمبراطوريات أوروبا الاستعمارية، وفُقِد موقعها البارز في العالم على نحو لا عودة عنه، وقامت الثورة الروسية (1917م) كنتيجة مباشرة للحرب، وكانت مع حلول عام 1953 قد أدت إلى ما يقارب 54 مليونًا من الوفيات، التي نجمت عن الحرب الأهلية والرعب، ومعسكرات الاعتقال والعمل، وأحكام الإعدام السياسي، ومن دون الحرب العالمية الأولى ما كنا على وجه اليقين تقريبًا قد وقعنا في بربريات ألمانيا النازية، أو الحرب العالمية الثانية، وهما الحدثان اللذان أديا فيما بينهما إلى ما يقارب 47 مليون قتيل ووفاة آخرين، وتدمير الحضارة الغربية. وبعد عام 1945 استمرت القومية في إحداث ضرر ضخم للعالم، ولكنه وقع بالدرجة الرئيسية خارج أوروبا الغربية وبرعاية أمريكية"([4]).
خريطة رالف بيتر لتقسيم العالم الإسلامي عرقيا ومذهبيا

هذا الاعتراف بأن لعنة القومية التي استمرت في العالم برعاية أمريكية ما زال –للأسف- لا ينبه الكثيرين من المسلمين إلى الحقيقة القائمة بأن تفريقهم إلى دول كل منها يتغنى بقوميته ووطنيته وترابه الغالي إنما يجعلهم جميعًا أذيالاً وتبعًا مُحَقِّقًا فيهم هدف خطة عدوهم، بل إن البعض([5]) يؤسس فكرًا وتنظيرًا لتفريق الأمة، وعلى الرغم من ذلك يتبوأ مكانًا عاليًا في الصحافة ودوائر الإعلام.

إن القومية التي زرعها الغرب لم تكن من نوع العلاقات المترابطة التي حرص عليها الإسلام كما أسلفنا من قبل، بل لا بد من الوعي بأن القومية الغربية -التي نشأت كانسلاخ من الكنيسة الدينية ومن وحدة اللغة اللاتينية وارتبطت بنمو الطبقة البرجوازية ضد نظام الإقطاع- كانت تحتاج إلى أن تتسلح بالتعصب والعنصرية لتكون انسلاخًا وبديلاً عن الوضع القديم، ولرسم معالم وحدود ونفوذ التوجه الجديد، ولأن الحضارة الغربية مادية، ولفساد الكنيسة المسيحية لم تستطع عوامل التوحد إنقاذ المسار من التمزق القومي، وكل ما سبق إنما هو نقيض مخالف تمامًا للوضع في المشرق الإسلامي([6]).  

لكنهم نجحوا في تمزيقنا، وزرعوا في بلادنا القومية بخصائصها التي نبتت في بلادهم، وهم لا يقنعون، بل ما تزال خطة التقسيم والتفريق مستمرة، وما يزال الباحثون يقترحون تقسيمًا جديدًا للعالم الإسلامي، وكان المستشرق الأمريكي اليهودي برنارد لويس صاحب أشهر خطة تقسيم معتمدة على التوزيع العرقي والمذهبي، وقد اعتمد عليها المحلل العسكري الاستخباري رالف بيتر في رسم خريطة أشد وضوحًا لتقسيم العالم الإسلامي.

وعبر التاريخ المعاصر لم تلق الأمة أقسى ولا أمرَّ ولا أكثر نكالاً من حكام نادوا بالقومية؛ مثل: عبد الناصر وصدام حسين والقذافي وحافظ الأسد وابنه بشار، فلم ينتصروا على عدوهم ولم يكونوا أشداء إلا على شعوبهم.

ولم يكتف الغربيون بالتفتيت السياسي، بل لقد استفادوا من تجربة تمزقهم هم؛ ذلك أن العامل الأهم في التمزق الأوروبي إلى قوميات هو استبدالهم اللغات القومية المحلية باللغة اللاتينية، التي كانت لغة رجال الكنيسة، وفي إطار النزاعات الدينية والنزاع بين الكنيسة والأفكار المتحررة منها بدأت تظهر الكتابات باللغات المحلية، فكتب دانتي "الكوميديا الإلهية" بالإيطالية، وكتب مونتاني أدبه بالفرنسية، ووضع شوسر "قصص كانتربري" بالإنجليزية، وهكذا، وساهم انتشار الكتابات باللغات المحلية في تيسير الإقبال عليها واحتضانها شعبيًّا، ثم ترسخ هذا الأمر حتى صار الاعتزاز باللغة المحلية من الاعتزاز بالقومية([7])، ويُعَدّ هذا العائق اللغوي هو الأكبر والأصلب أمام بين وحدة حقيقية لأوروبا لا سيما وأن اللغات المحلية استطاعت أن تكون لغات حية، واستطاعت دفن وإنهاء اللغة اللاتينية وجعلها شيئًا من التاريخ.

ولهذا عملوا على إشعال الدعوة للهجات العامية واللغات المحلية؛ سعيًا لضرب اللغة العربية التي تمثل الوحدة الثقافية لبلاد العرب، وخيط الوحدة الدينية الأخير بين المسلمين، وبدأ السعي الحثيث في إنتاج أدب باللغات العامية، بدأت الفكرة من لدن الأوروبيين –وتحديدًا ولهلم سبيتا ثم ويلم ويلكوكس- ثم سرت عبر ألسنتهم في بلادنا مثل لطفي السيد وعبد العزيز فهمي وسلامة موسى وغيرهم([8]). لكن تلك الدعوات لم تحقق نجاحًا مؤثرًا فارتباط المسلمين بالقرآن العربي وبالتراث الإسلامي الهائل يجعل أمر اللغة من أمر الدين.

ولقد كان لهذا التمزق من الأمة الواحدة إلى القوميات آثار جد بعيدة، لقد صارت الأوطان أعلى في النفوس من الأمة، ولم يعد أغلب الناس يهتم لأمر الأمة بل لأمر الوطن، وصارت الأنظمة الحاكمة لا ترى نفسها مسئولة عن عمقها الإسلامي، وطالت الآثار حتى فتاوى الفقه التي وجدت نفسها في واقع لا بد من معالجته، فكانت معالجاتها جزءًا من ترسيخ هذا الواقع نفسه، لم تعد مجازر المسلمين تهز مسلمين آخرين؛ لأن حدودهم التي رسمها المستعمر لم تستوعب أولئك المذبوحين، وكانت الحدود منبتة لفكرة أن "المواطن الكافر أقرب وأهم من المسلم البعيد"، وأن للكافر في الوطن حق ليس للمسلم الغريب، وصار الأمر من القوة بحيث يمكن أن نقع فيه بلا قصد وإن حرصنا([9]).

نشر في ساسة بوست



([1]) ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 1/184.
([2]) د. محمد محمد حسين: الاتجاهات الوطنية 2/96، 137 وما بعدها، و142 وما بعدها.
([3]) راجع الفصل السابق.
([4]) ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص31.
([5]) ونعني بهذا طائفة من الناس وليسوا شخصًا، وأما أبرزهم فهو الصحافي الناصري المعروف محمد حسنين هيكل، والذي تدفع كثير من المصادر بأدلة وافرة على تبعيته –أو على الأقل اتصاله- بالمخابرات الأمريكية، انظر مثلاً: محمد جلال كشك: كلمتي للمغفلين، ثورة يوليو الأمريكية، الفضيحة، الجنازة حارة، ود. سيار الجميل: تفكيك هيكل.
([6]) د. محمد عمارة: الغزو الفكري وهم أم حقيقة ص66 وما بعدها.
([7]) د. شوقي الجمل وعبد الله عبد الرازق: تاريخ أوروبا من النهضة حتى الحرب الباردة ص15.
([8]) يراجع في هذا البحث النفيس "تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها" للدكتورة نفوسة زكريا سعيد، ود. محمد محمد حسين: الاتجاهات الوطنية 2/359 وما بعدها.
([9]) ولعل لجنة المسابقة يتسع صدرها لنقدي هذا، فلقد اختاروا للبحث عنوانًا فرعيًّا هو "الشعور بالمسئوليَّة تجاه الأسرة والمجتمع والوطن" وكان الأولى أن يُقال "الأمة"، ونحسب أن هذا ذاته من آثار هذا التمزق الذي تسلل إلى وجداننا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق