الجمعة، أبريل 29، 2016

خريطة مصر عبر العصور

[ملاحظة: كافة الخرائط الواردة في هذا المقال مأخوذة من كتاب أطلس تاريخ الإسلام للدكتور المؤرخ المعروف حسين مؤنس، وهو أبرز وأدق مجهود فيما أعلم في تتبع خرائط التاريخ الإسلامي]

منذ دخلت مصر في الإسلام وهي تتوسط عالمه الفسيح الذي امتد من حدود الصين شرقا إلى حدود فرنسا غربا، وكانت مصر ولاية بحد ذاتها، وهي –كما قال عمرو بن العاص رضي الله عنه- "ولاية جامعة تعدل الخلافة".

ثم جاءت عصور ضعفت فيه الخلافة الإسلامية وصارت لا تستطيع السيطرة على هذا المدى الواسع من العالم الإسلامي، وكان الأمويون العظام هم آخر من حكم العالم الإسلامي كله من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه، فكان الخليفة الأموي ينفذ أمره في الأندلس كما ينفذ أمره في بلاد ما وراء النهر. ولم يستطع العباسيون أن يرثوا كل الدولة فقد خرجت الأندلس عن سلطانهم وبقيت فيها إمارة أموية، ومع ضعف الخلافة العباسية فيما بعد نشأت دول مستقلة على الحقيقة عند الأطراف وإن كانت تدين بالولاء الرسمي وبإعطاء الأموال للخلافة في بغداد، ثم تعددت هذه الدول، فصارت أول دولة تنشأ في مصر هي: الدولة الطولونية.

الدولة الطولونية



وهي الدولة التي أنشأها أحمد بن طولون الوالي على مصر، والذي استطاع أن يضم إلى سلطانه كل هذه البلاد الموضحة على الخريطة، بل واستطاع أن يقوم بواجب الجهاد في الثغور مع الروم إذ كانت الخلافة العباسية في وقته مستهلكة في محاربة التمردات عليها (الزنج في البصرة وجنوب العراق، والصفاريون في سجستان وما حولها)، وكانت دولة قوة وعز وخير وفير ولها إنجازات رائعة، ومن يقرأ في كتب تاريخ مصر يكاد يتخيل أنها جنة مزدهرة في ذلك الزمن.

الدولة الإخشيدية
[نفس الخريطة السابقة مع إضافة المناطق البرتقالية]

وظهرت هذه الدولة عندما ضعفت الدولة الطولونية وانهارت، وبرز فيها الإخشيد كقائد عسكري استطاع صد العبيديين (الفاطميين) وإفشالهم من محاولة الاستيلاء على مصر، وكانت دولة قوية كذلك، وحاز سلطانها تلك الأراضي الموضحة في الخريطة.

الدولة العبيدية (الفاطمية)



والتي استطاعت بعد محاولات عديدة فاشلة أن تسيطر على مصر وتضمها إلى سلطانها الذي بدأ من المغرب وتمدد شرقا، ثم تابعت الاستيلاء على الأراضي حتى ضمت إليها الشام والحجاز، ومن العجيب أن دولة الفاطميين انقرضت في المغرب ثم انقرضت في الشام وطال زمانها في مصر. وبرغم كل مساوئ هذه الدولة وبعض الفترات العصيبة التي عاشتها مصر في ظلالها إلا أن مصر الغنية الوافرة المال كانت مزدهرة ناضرة في أيام خلفائهم الأقوياء.

الدولة الأيوبية



لما ضعفت الدولة العبيدية (الفاطمية) تعددت فيها مراكز وأجنحة القوى، فاستعان بعضها بالخارج على بعض، فاتجهوا إلى الشام الذي كان يشهد صراعا بين الصليبيين من ناحية والدولة الزنكية من ناحية أخرى، وكان كلا الطرفين يودَّ لو ضمَّ إليه مصر فيستقوي برجالها وأموالها، فالصليبيون يريدون تمديد وتعميق وجودهم في الشرق من بعد ما صار مهددا في الشام، والزنكيون يريدون إعادة وحدة الأمة تحت الخلافة العباسية السنية وإعادة وحدتها في الجهاد، وانتصر الزنكيون في هذا السباق بعد حروب في السياسة وفي القتال، وصار قائدهم العسكري صلاح الدين الأيوبي وزير الخلافة العبيدية في مصر، ثم استطاع بعد أمد إلغاءها وإعادة الوحدة السياسية، وانضمت مصر إلى معركة جهاد الأمة فما لبثت أن تحررت القدس بعد ذلك بأعوام.

وضمت الدولة الأيوبية هذه المساحة (المبينة بالخريطة) من البلاد، واستعانت بكل هذا على حرب الصليبيين، وأفشلت الدولة الأيوبية حملتين من ثلاث حملات صليبية جديدة (الخامسة والسابعة) ولولا سوء السياسة لفشلت الحملة السادسة كذلك، فمنذ توحدت الشام ومصر صار الصليبيون في خطر حقيقي، وصار وجودهم في الشام مسألة وقت.

الدولة المملوكية



وهي التي ورثت الدولة الأيوبية بعد تفككها وانقسامها وخلوها من الرجال الأقوياء، وافتتحت عهدها بوقف العاصفة المغولية في عين جالوت، ثم في غيرها من المعارك التي أنهت تماما الخطر المغولي وصدته عن الديار الإسلامية، ثم استأنفت مسيرة تطهير الشام من الوجود الصليبي فأنجزت هذه المهمة، ثم طاردت فلول الصليبيين حتى حررت قبرص وهددت جزيرة رودس، وفي عصرهم صار الخليفة العباسي مقيما في مصر، وصارت القاهرة عاصمة الخلافة.

وكانت دولة قوة وفتوة وعمارة وجهاد، وإلى عهد المماليك ينتسب الجمهور الأعظم من العلماء المسلمين المشهورين في مصر والشام كالعز بن عبد السلام والنووي وابن دقيق العيد والشاطبي وابن تيمية وابن القيم وابن كثير والذهبي وابن حجر العسقلاني والمقريزي وابن خلدون وابن تغري بردي وغيرهم كثيرون جدا.

ثم دخلت مصر في السلطنة العثمانية، وصارت ولاية تابعة للعثمانيين فعادت لمرة أخرى ولاية ضمن ولايات الدولة بغير نوع استقلال ومركزية استمر فيها لسبعة قرون، إلا أن الحكام الفعليون –بعد فترة وجيزة- كانوا هم المماليك وكان الباشا العثماني مجرد اسم ورسم لا حكم له على الحقيقة.

دولة محمد علي



استعادت مصر نوع استقلاليتها ومركزيتها ضمن ولايات الخلافة في عهد محمد علي الذي رغم كل كوارثه ومآسيه ونكباته كان بركانا من النشاط والقوة، وأسس في مصر جيشا حديثا استطاع أن يمد نفوذه إلى هذه المناطق (المبينة بالخريطة) وأن يهدد الدولة العثمانية نفسها، بل وكاد ينهيها لولا أن وقفت الدول الغربية مع العثمانيين وردت محمد إلى الشام ومصر ثم إلى مصر وفرضت عليه معاهدة (1840) المذلة التي قلمت أظافره.

وكانت دولته دولة ثروة ونفوذ وقوة وجيش، كما كانت دولة قهر وظلم وعسف وتسلط للأجانب على أهل البلد، وهو مؤسس الدولة "الحديثة" كنظام ونمط علماني مأخوذ من أوروبا، وكان ينظر إلى البلاد وأهلها كالبقرة الحلوب، يحتاج أن يسمنها ليأكل منها أكلا وفيرا ويورثها لأبنائها.

دولة أبناء محمد علي



وهي الدولة التي بقيت فيها آثار ونكبات محمد علي دون ميزاته وحسناته، وتكاد تنحصر في ابنه سعيد وحفيده إسماعيل، وكلاهما كانا يسيطران على هذه المساحة (المبينة بالخريطة) وكانت البلاد رغم ما فيها من الخير والبركة قد ضاقت بأبنائها وصار خيرها مصروفا إلى الأجانب الذين تغولوا وتفحشوا وتسلطوا وتسلطنوا حتى صاروا أقوى من الخديوي نفسه، بل صار الأجانب أعضاء في الحكومة ومحاكمهم تقضي على الخديوي نفسه وصاروا قادة الجيش المصري والمتحكمين بالتجارة، وفازوا في هذا العصر بما لم يحلم به مستعمر قبلهم (قناة السويس)، وما إن كاد الشعب المصري يسترد بعض حقه وحريته حتى نزل الاحتلال الإنجليزي ليحافظ على النظام التابع له ويقضي تماما على محاولة الثورة.

الاحتلال الإنجليزي

وهو كأي دولة احتلال لا نطيل الحديث في شأنه، ولكن الذي يهمنا في هذا السياق هو تقلص المساحة التي تسيطر عليها مصر، بالفصل العملي –لا الرسمي- للسودان، فخسرت مصر ثلثي أراضيها، إلا أن الاحتلال الإنجليزي –المضروب به المثل في الدهاء والمكر- صنع كل هذا بأيادي مصرية وسياسات ينفذها مصريون واتفاقيات يوقع عليها مصريون، وسمح كذلك بالمعارضة السياسية في مصر والتي كانت في غاية القوة برغم كونها تحت الاحتلال (وللعلم فإن مستوى حرية الإعلام في عهد الاحتلال لا يقارن أبدا بمستواه في عهد العسكر فيما بعد)، وكان من آثار هذا أنه وفي أواخر عصر الاحتلال الإنجليزي لم يجرؤ أحد على إعلان التخلي عن السودان، ولا الملك فاروق رغم كل ضعفه وكل فساده، ولا زعيم حزب الوفد رغم كل ما يؤخذ عليه وعلى الوفد من سياسات، ولم يعد بالإمكان –كما تبين وثائق المخابرات الأمريكية فيما بعد- طرح مطلب فصل السودان إلا بإلغاء الملكية كنظام سياسي والإتيان بنظام جمهوري يوافق على الفصل، وهو ما فعله العسكر بعد انقلاب يوليو، ولم تخرج بريطانيا من مصر إلا بعد الاتفاق على فصل السودان.

دولة العسكر

وهي أسوأ مرحلة مرت على مصر في كل تاريخها، فسائر المراحل التاريخية السابقة إما شهدت استبدادا بمعنى الاستبداد الوطني الذي ينتمي فيه المستبد إلى هذا الوطن ولا يعرف له ولاء ولا انتماءا لغيره، ولهذا فهو إذا جد الجد وحان وقت الحرب حارب دفاعا عن نفسه وعن ملكه، وإما شهدت احتلالا صريحا أجنبيا معزولا عن الشعب وهو مع هذا كان خيرا من حكم العسكر.

أما عصر العسكر فقد انتهت فيه مكانة مصر حتى بين العرب والمسلمين، وتقلصت فيه حدودها بفصل السودان وترك غزة وضياع سيناء (والتي ما تزال حتى الآن تحت النفوذ والهيمنة الإسرائيلية عمليا) وتهاوت فيه مصر اقتصاديا وسياسيا وعلميا وثقافيا واجتماعيا، ونزلت بها هزائم تاريخية ساحقة على يد إسرائيل، ثم هي أيضا تحت النفوذ الأجنبي سياسيا واقتصاديا وثقافيا، ووصل الحال إلى أن قادة جيشها يفخرون بأنهم جزء من الأمن القومي الأمريكي ويحتفلون بمرور مائة عام على مجهودهم في الحرب العالمية الأولى خدمة للإنجليز ضد العثمانيين والسودانيين والليبيين.


وصارت خريطة مصر هي الخريطة الأصغر بين سائر هذه العصور وهذه الخرائط، وهي الخريطة المعروفة للجميع.

نشر في ساسة بوست

الثلاثاء، أبريل 26، 2016

حقوق الإنسان في فكر السياسة التركية

رغم ما يبدو أول الأمر من بساطة الكتابة في مسألة "تميز تركيا في حقوق الإنسان"، إلا أن الواقع بخلاف ذلك، وذلك أن ملف تقدم تركيا في حقوق الإنسان من الملفات التي تواطأ الجميع على كتمانها، وكان شيخنا محمد الغزالي يقول: "ما رأيت أحدا تواطأ الناس على هضمه كالحقيقة".

إن الدراسات والتقارير الغربية لا تركز على حقوق الإنسان كما هو المتوقع –ولو زَعْمًا- بقدر ما تركز على النموذج التركي من حيث خطورته على أوروبا، ومدى عودته إلى هويته الإسلامية، ومدى الرضا العلماني والعسكري عن نموذج حزب العدالة والتنمية. بل حتى التقارير الحقوقية الغربية –وقد طالعت عددا مما صدر في السنوات الأخيرة- تشبه المنشورات ضد السياسة التركية.

وفي المقابل فإن الدراسات العربية تركز على رصد ومتابعة النموذج التركي في السياسة والاقتصاد والتأثير على العالم العربي والموقف من القضايا العربية، ولا تحفل بمسألة تطور وضع حقوق الإنسان في تركيا، اللهم إلا الأطراف المعادية لتركيا فإنها تهتم بهذا الجانب مستخدمة إياه في تشويه ومهاجمة السياسة التركية في حقبتها الجديدة.

هذا الذي تجاهلته –أو زيفته التقارير- كان يخالف واقعا عشته بنفسي لعام ونصف في تركيا، وعاشه معي ملايين المهاجرين والمطاردين من العالم العربي، ولذلك كان الحصول على الحقيقة الموثقة بالأرقام من خلال دراسات ميدانية أمرا عسيرا، حتى أنني استعنت ببعض الأصدقاء الأتراك والعرب العاملين في مجال الإعلام التركي للحصول على دراسات معمقة عن تطور حقوق الإنسان في تركيا، وكانت الإجابة مخيبة للآمال كذلك.

عندئذ ذهبت إلى البحث عن معنى حقوق الإنسان في فكر وفلسفة حزب العدالة والتنمية، وفي أبرز النصوص المكتوبة المعبرة عن هذا التفكير.

إن كل زعماء العالم –حتى أشدهم طغيانا وانتهاكا لحقوق الإنسان- يتغنى بحقوق الإنسان، ويدرج في خطاباته وتصريحاته عبارات محفوظة مكرورة مملولة، لكن ما وجدته في الأدبيات الفكرية للحزب يعبر عن فكر ورؤية وعمق لا عن مجرد زخارف ومحسنات كلامية.

إن العمق الذي يكتبه فيلسوف الحزب ورئيسه الآن، أحمد داود أوغلو، يذهب حتى يحلل البنية التي تحكم الإنسان في النظام السياسي، ولذلك جاءت كتبه كدروس معمقة في نقد النموذج الغربي الذي ظاهره الحفاظ على حقوق الإنسان بينما حقيقته التحكم بالإنسان والتسلط عليه. وإثبات تفوق النموذج الإسلامي الذي سلب الإنسان حق التسلط والتحكم بالإنسان.

ففي كتابه "الفلسفة السياسية" يعزو تناقض النموذجين الغربي والإسلامي إلى أن الأول دائما وفي شتى تصوراته الفلسفية –القديمة والوسيطة والحديثة- الفوارق بين الله والإنسان، فمنح الإنسان سلطة إلهية مما ترتبت عليه آثار بعيدة في النظام السياسي، بينما حرص النموذج الإسلامي على التوحيد الذي يجعل الإنسان مفارقا لله ولا يمكن أن يحوز سلطة إلهية مما كان له آثاره الهائلة في النظام السياسي. ويجدر النظر إلى أن هذا الكتاب صدر عام 1993م، أي قبل وجود حزب العدالة والتنمية بقرابة العقد من الزمن.

وفي كتابه "العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية"، والذي صدر قبل ميلاد الحزب بثمانية أعوام، يرصد داود أوغلو كيف أنه "في الحضارة الغربية يتولد الاختلال الأخلاقي من اعتمادية المعرفة على مؤسسة السلطة، والتي بدورها تعمل داخل إطار استبدادي بسبب قدرة مراكز القوى على إنتاج معرفة مناسبة كافية لتوليد نظام قيمي ملائم يعمل لمصالحها الذاتية"[1].

وفي كتابه الأهم "العمق الاستراتيجي"، والذي يرسم فيه مستقبل الدولة التركية، يؤسس لنظرة نحو الإنسان يقول فيها: "أكثر العناصر حساسية في الانفتاح الاستراتيجي للدولة هو العلاقة المشروعة بين الإرادة السياسية لمركز النظام وبين العنصر البشري المؤهل للمجتمع المدني. وإذا أردنا التعبير عن ذلك بتعبيرات تُستخدم كثيرا في الوقت المعاصر فإنه يمكن وصف هذه العلاقة بنقطة الالتقاء بين "عمق الدولة" و"عمق الأمة". إن الدولة التي لم تصل إلى عمق الأمة، ولم تحقق معه وحدة روحية نابعة عن نظام القيم المشتركة، لن ينتج عنها إلا صورة سيئة للقوة. إن أهم بعد للعلاقة المشروعة بين العنصر البشري والنظام السياسي هو عنصر الثقة؛ فالدولة التي لا تثق بعنصرها البشري لا يمكنها الانفتاح على آفاق استراتيجية، بحيث تضع أهدافا تكتيكية لتحريك القوى الكامنة للمجتمتع، أو أن تستخدم الوسائل المناسبة لهذه الأهداف في التوقيت الصحيح والمناسب"[2].

هذه الرؤية العميقة لجوهر حقوق الإنسان ومدى توفرها في بيئة النظام السياسي القائمة، موجودة أيضا منذ قديم عند مؤسس الحزب وزعيمه رجب طيب أردوغان، ففي كلمته التي ألقاها في ختام مؤتمر الديمقراطية (1997م) نظَّر لضرورة أن يضيف المجتمع "أحكام قِيَمه ومعتقداته وعاداته وتقاليده باعتبارها خميرة الثقافة السياسية لهذه التجربة الديمقراطية"، وعندئذ تخرج الديمقراطية من كونها ثرثرة نخبوية بل ووسيلة من وسائل الاستبداد والتسلط النخبوي على المجتمع لتكون روحا حقيقية يؤديها المجتمع كواجبات يومية، ويغذي بها قناعاته الثقافية[3]، أما اختزال حق الإنسان في مجرد شكل وهيكل الانتخابات فمآله إلى أن ينتج "نظاما ديكتاتوريا متسترا خلف مظهر ديمقراطي"[4].

نحن هنا أمام تحليل أعمق لمسألة حقوق الإنسان، إنه في جوهره نقد للنموذج الغربي الذي يصطنع شكلا آخر من العبودية والتحكم ثم يلبسها ثوب الحرية ولافتة الديمقراطية وعنوان الانتخابات، وهو نقدٌ يُبنى عليه رؤية أخرى مفادها علاقة صحيحة سوية بين الدولة والأمة، أو بين "عمق الدولة وعمق الأمة" بتعبير داود أوغلو. وهذا المعنى يتردد كثيرا في خطابات وكلمات أردوغان، لكننا نكتفي هنا بأقواها في الدلالة:

1.    "لا يمكن لدولة إنسانها ضعيف أن تكون قوية"
ديار بكر – 24 يونيو 2007

2.    "بالنسبة لنا كل إنسان خاص، وكل إنسان غال وقيّم. لكل إنسا الحق في امتلاك الفرص والحقوق التي يستحقها"
اجتماع الكتلة البرلمانية – 13 مايو 2008

3.    "الإنسان أساس كل شيء. ولذلك يجب أن تصنع السياسة من أجل سعادة الإنسان وراحته، سلامته وطمأنينته"
مؤتمر حزب العدالة والتنمية – 3 أكتوبر 2009

4.    "الإنسان أولا، ومن ثَمَّ تأتي الدولة. وليست الدولة هي الأولى ليأتي الإنسان بعدها"
الاجتماع الاستشاري - 22 نوفمبر 2009

5.    "في هذا البلد ستنهار البنية الإقطاعية بالتأكيد، ويجب عليها أن تنهار وأن تنحط، لأننا لا نقبل عبودية الإنسان للإنسان. وخصوصا في قيمنا الحضارية، لا عبودية لدينا لغير الخالق. ولهذا السبب: إن السيادة للأمة دون قيد أو شرط"
سيرت – 6 مايو 2005

6.    "الحقائق، الحقوق والحريات لا تتغير وفقا للأشخاص. الحقيقة هي حقيقة في كل زمان ومكان"
اجتماع رؤساء المقاطعات – 21 مارس 2008

7.    "يجب علينا جميعا أن نعلم أننا متساوون كأسنان المشط في القاسم المشترك بيننا وهو الإنسانية، سواء منا الشرقي والغربي، المسلم والمسيحي، المتدين والعلماني، الغني والفقير، الأبيض والأسود"
أمريكا – 7 ديسمبر 2009

بقيت نقطة، وقد أجلتها إلى نهاية الورقة لأنها ذات دلالة في منهج التعامل الغربي مع حقوق الإنسان في تركيا، وهي: القضية الكردية.

إن القضية الكردية حاضرة في كل دراسة أو تقرير عن الحالة التركية، وكثيرا ما حضرت في الماضي من بوابة حقوق الإنسان، وبغير شك فإن الأكراد عانوا كثيرا لنحو قرن من الزمن، وكانوا من الفئات التي سحقتها السياسات القديمة، إلا أن السياسات الجديدة مثلت تحولا كبيرا في التعامل مع الملف الكردي، غير أن التقارير الحقوقية لا تأبه كثيرا لما تحقق وتركز على ما لم يتحقق بعد، وبالعموم، فإن الدراسات الغربية عن تركيا تنظر إلى القضية الكردية كمدخل لعدم استقرار تركيا لا كمدخل لاستقرارها بتعديل الأوضاع السيئة الموروثة. ولذلك فهي تمر على التحسن بعبارة أو بضع عبارة، بينما تفرد باقي الصفحات لرصد المخالفات مع مساحة من التعنت والتعسف ظاهرة وواضحة.
إن مسألة حقوق الإنسان في تركيا هي من الحقائق الواضحة التي يعد البحث عن أدلة وجودها تعسف، كقول الشاعر:
وليس يصح في الأذهان شيء .. إذا احتاج النهار إلى دليل
أو كقول الآخر:
فقد تنكر العين نور الشمس من رمد .. وينكر الفم طعم الماء من سقم

فالدليل هو ملايين المهاجرين المتدفقين على تركيا من سائر أنحاء العالم الإسلامي، فكلٌ منهم دليلٌ على الواقع، فضلا عما لقيه هؤلاء من ضيافة وحسن ترحاب من إخوانهم الأتراك، وليس يعرف طعم الأمن إلا من ذاق الخوف. والحق أن منح الخائفين الأمان لا يقل بحال عن منح الجائعين الطعام ومنح الظامئين الشراب، بل لربما يزيد، إذ جوهر تميز الإنسان عن الحيوان هو شعوره بهذا الأمن الذي يعيد إليه شعوره بإنسانيته التي ما هاجر وترك بلده إلا لأنها سُحقِت أو كادت تُسْحق وتموت!

ولهذا أردد مع جميع إخواني: شكرا تركيا..  

نشر في تركيا بوست 




[1] العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية ص130.
[2] العمق الاستراتيجي ص58.
[3] حسين بسلي وعمر أوزباي: رجب طيب أردوغان.. قصة زعيم ص231.
[4] المصدر السابق ص241.

الأحد، أبريل 24، 2016

رفع الملام عن المماليك العظام

يثير غيظي كثيرا أن أجد من يصف العسكر الحاليين بالمماليك في الزمن القديم، رغم أني أعذر صاحب هذا التشبيه وأتفهم أن حركة التجهيل بتاريخنا وتشويهه قد تدفع إلى أكثر من هذا، ذلك أن المماليك بالنسبة إلى عسكر هذا العصر كالجنة بالنسبة إلى الجحيم، كالفارق بين العزة والذلة، بين المجد والهزائم، بين النور والظلام.

أينما وجهنا وجهنا في تاريخ المماليك لمقارنته بأحوال عصرنا ارتد إلينا البصر والعقل وهو حسير، ففي كل مجال لا مجال للمقارنة، وهاك بعض إشارات سريعة:

1.    حدود البلاد
كان المماليك يحكمون مصر والشام والحجاز وأجزاء واسعة من ليبيا ونصف السودان وأحيانا اليمن وأحيانا جزءا من شمال العراق، بل وفي آخر عصورهم حكموا قبرص وكادوا يحكمون جزيرة رودس في البحر المتوسط، حتى ليقول الجغرافي الفذ والمؤرخ ابن فضل الله العمري في وصفها "هي مملكة كبيرة، وأموالها كثيرة، وقاعدة الملك بها قلعة الجبل (قلعة صلاح الدين) ثم دمشق وهي من أجل ممالك الأرض لما حوت من الجهات المعظمة، والأرض المقدسة، والجهات والمساجد التي هي على التقوى مؤسسة، بها المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها وقبور الأنبياء صلوات الله عليهم والطور والنيل والفرات"[1]، وهو نفسه حين وصف مصر قال عنها: "عمود الإسلام وفسطاط الدين"[2].

أما عسكر مصر الآن فقد استلموا مصر والسودان وغزة ثم جاءتهم سوريا تسعى، ففصلوا السودان وأسلموا غزة للصهاينة وتركوا سيناء، وها هم أولاء بعد ستين سنة يواصلون التفريط والتقطيع والتقزيم في حدود البلاد!!

2.    الولاء للأمة
أقسى المؤرخين حكما على المماليك وبغضا لهم لا يجرؤ على مجرد التفكير في اتهام ولاء المماليك لأمة الإسلام، حتى ولو في أضعف حالاتهم وأسوأها، وليس في تاريخ المماليك هزيمة أو اتفاقية أو هدنة إلا وتفسر في ظل موازين القوة والسياسة والتدبير ولم يفكر مؤرخ في أن يبحث لها عن أصل خيانة.

أما عسكرنا الآن فلم يأت بهم سوى الاحتلال ولا ولاء لهم سوى للعدو الأجنبي، بداية من انقلاب يوليو الذي صارت تدابيره الأمريكية منشورة بالوثائق وبمذكرات صانعيه من الأجانب وباعترافات المنفذين من المصريين، وانتهاءا بعصرنا هذا الذي هو عصر الاعترافات والتسريبات والذي لا يخجل فيه زعماء العساكر أن يتحدثوا عن فخرهم بكونهم جزءا من الأمن القومي الأمريكي، ولا يتردد زعماء العدو في إظهار فرحهم بالاستثمار في الجيش المصري المطيع ولا في تنسيقاته غير المسبوقة في مجال مكافحة الإرهاب! إن ولاءهم للأجانب ليس محل شكٍّ، بل هو عين اليقين، حتى إن تفسيرات أصولهم اليهودية تروج وتجد قبولا عاما لدى الناس بل ولدى كثير من الباحثين!!

ولم يُنسب إلى المماليك كفر، بل كان العلماء يجاهدون تحت رايتهم وكانت لهم مكانة في دولتهم، ولم يفتحوا البلاد للأجانب فيكون لهم فيها نفوذ واسع أو ممالك مصغرة محمية، أما عساكرنا الآن فيختلف الناس في إسلامهم، ولا يجدون سبيلا أصلا ليجاهدوا عدوا تحت رايتهم، والعلماء في عصرهم عند أحط منزلة إن لم يكونوا في الزنازين أو فوق المشانق، والبلاد في عصرهم مفتوحة للأجانب بل هم السادة الحقيقيون الذين لا تردُّ لهم كلمة.

3.    الحرب والجهاد
كانت مأثرة المماليك العظمى هي حملهم لواء الجهاد، وكسرهم عاصفة المغول العاتية التي اجتاحت آسيا منذ الصين حتى وصلت البحر المتوسط، ثم انساحت في الشمال حتى اخترقت شرق أوروبا، لكنها توقفت في الجنوب عند سواحل البحر المتوسط على يد السلطان المملوكي سيف الدين قطز. ثم استكمل بيبرس وقلاوون وأبناؤه الجهاد من بعدهم حتى انتهى خطر المغول، ثم بدأوا في تصفية الوجود الصليبي في الساحل الشامي حتى قضوا تماما على بقايا الحملات الصليبية، ثم هاجموا وكر الهجمات الصليبية في قبرص حتى حرروها ثم هددوا الوكر الثاني في جزيرة رودس. وتاريخ المماليك حافل بالجهاد وبأسماء السلاطين المجاهدين: قطز، بيبرس، سيف الدين قلاوون، المنصور بن قلاوون، الأشرف خليل، الأشرف برسباي، سيف الدين جقمق.

لقد تولى المماليك حكم البلاد وهي تعاني تهديد الصليبيين والمغول ثم تركوها مسلمة مؤمنة وهُزِموا أمام العثمانيين المسلمين، تولوها والبحر المتوسط يسيطر عليه الصليبيون ثم تركوها وهم سادة البحر المتوسط وأصحاب أقوى أسطول بحري في شرقه يستمد قوته من موانئ طرابلس ودمياط والإسكندرية، وكانت جيوشهم أحسن الجيوش والنظم حتى ليقول المؤرخ العباسي الصفدي في فضائل مصر: "فمن ذلك أنّ ملكها أكبر الملوك قدرا، وأعظمهم منزلة، وجميع ملوك البرّ والبحر يخافونه، ويهادونه، ويهادنونه، لحسن جيشه وقوّتهم وخيولهم وعددهم وعددهم، ولا سيما في زماننا هذا، فإنهم أحسن أجناد الدنيا، وعسكره وموكبه أفخر العساكر والمواكب وأحشمهم، وفيهم الصلحاء، والرجال، وفرسان الخيل، ومن مرّت به التجارب، وحضر الحصارات والمصافّات، وقد أيّده الله تعالى بالنصر"[3].

أما عساكرنا الآن فليس لهم ولا نصر واحد على عدو من أعداء الأمة، وغاية ما يفرحون به (حرب أكتوبر) إنما هي هزيمة يتبادل أطرافها تحميل بعضهم المسؤولية عنها، وأحسن ما يقال فيها أنها نصف نصر في الأيام الأولى آل إلى هزيمة كاملة وشاملة، وما سوى ذلك فلا تجد حتى نصرا مشكوكا فيه. إلا أنهم يتلقون الهزائم التاريخية، وتستطيع دولة صغيرة أن تبتلع ضعف حجمها في ساعات، وتصدر الأوامر بالانسحاب قبل أن ينشب قتال، ويعرف زعيمهم خبر احتلال بلاده من الوكالات الصحفية التي نقلت البيان الإسرائيلي الرسمي[4]!!!

انتصاراتهم الوحيدة إنما هي على الشعوب التي يستعملون فيها أنواع الأسلحة، فينصبون لها المجازر والمذابح، ويفتحون لها السجون والمعتقلات، بل هم يتآمرون على حركات المقاومة التي تجاهد العدو، ويحفظون أمن إسرائيل، ولم يفكر الجيش المصري منذ انقلاب يوليو في تهديد إسرائيل، ولعل عسكر الحاضر أول جيوش في التاريخ يكون زوالها خيرا من بقائها، ويكون وجودها سببا في احتلال البلاد وتشريد العباد وضرب حركات المقاومة، بل وتكون الأراضي المحررة وحدها هي التي لم توجد فيها هذه الجيوش (قطاع غزة مثالا)! وتكون عصورهم أسوأ من عصور الاحتلال نفسه!

فأين المماليك من العسكر؟!

لئن اطلع مؤرخو المماليك على عصرنا الآن لهتفوا مع القائل: رب يوم بكيتُ فيه، فلما صِرْتُ في غيره بكيتُ عليه!

على أن هذا ليس كل شيء، بل لا بد أن نقارن أيضا بين حكم المماليك وحكم عساكرنا في مجال الحالة العلمية والآثار العمرانية والمآثر الحضارية، بل وفي المظالم والمفاسد أيضا، فيكون هذا حديثنا في المقال القادم إن شاء الله تعالى.




[1] ابن فضل الله العمري، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، ط1 (أبو ظبي: المجمع الثقافي، 1423هـ)، 3/415.
[2] ابن فضل الله العمري، مسالك الأبصار، مرجع سابق 3/28.
[3] العباسي الصفدي، نزهة المالك والمملوك في مختصر سيرة من ولي مصر من الملوك، تحقيق: د. عمر عبد السلام تدمري، ط1 (بيروت: المكتبة العصرية، 2003م)، ص33.
[4] بشهادة هيكل، لم يعرف عبد الناصر دخول إسرائيل في حرب 1956 إلى بلاده إلا من برقية وكالة يونايتد برس التي نقلت البيان الرسمي الإسرائيلي من تل أبيب، وكان في حفل عيد ميلاد ابنه عبد الحميد ثم انسل هو وعبد الحكيم عامر إلى مكتب عبد الناصر، وحاول عبد الحكيم الاتصال بمقر القيادة العسكرية ولكن لم يكن لديها خبر لأن وحدات سيناء لم تبلغ عن شيء. انظر: محمد حسنين هيكل، قصة السويس، ط2 (بيروت: شركة المطبوعات، 1982م.) ص227.

الجمعة، أبريل 22، 2016

تبسيط تاريخ مصر الحديث (3)

كاتب مشارك: د. عمرو عادل

اقرأ أولا:

(9)
ثورة 25 يناير

شاخ نظام يوليو وبدت آثاره السلبية مع الشيخوخة الطويلة لحسني مبارك (ثمانون عاما)، وصارت مصر مرتعا للفساد، وقد اجتمعت عوامل إزالة نظام مبارك وإن لم تجتمع عوامل حدوث ثورة. على هذا النحو الآتي:

1. ظل السلاح محتكرا بيد السلطة، الجيش والأجهزة الأمنية، ومن فوقهما القوة الخارجية (أمريكا) صاحبة النفوذ الفعلي الأكبر على الساحة المصرية. وقد التقت الرغبة الأمريكية مع رغبة الجيش في إزاحة نظام مبارك. أما الجيش فلأنه لا يؤيد انتقال السلطة لمدني (جمال مبارك الغلام الصغير معدوم المواهب)، وأما أمريكا فلظنها أنها تستطيع إقامة حكم ديمقراطي في مصر يجنبها مشكلة الإرهاب ويحتوي التيارات الإسلامية فيدجنها ويخضعها لمنظومة الديمقراطية. فلما اجتمعت هاتان الرغبتان، حسم أمر نظام مبارك وجرى انقلاب عسكري –متقنع بقناع الثورة وإرادة الشعب- عليه في 11 فبراير.

2. شهد الوعي طفرة كبرى في السنوات الست الأخيرة من حكم مبارك، وذلك لأكثر من سبب أهمها: (أ) الانترنت الذي مثل كسرا لاحتكار المعلومة وبيئة للمقاومة والتقاء الشباب وأفكارهم الثورية وسبل تطبيقها عمليا. (ب) الإعلام الذي شهد موجة حرية غير مسبوقة كانت مدعومة خارجيا، إذ غلت يد سلطة مبارك عن التعامل العنيف مع الفضائيات والصحافة التي شهدت تكاثرا وجرأة مدهشة ضد نظام مبارك، كما اجتمعت هذه الصحف –على اختلاف أطيافها- على تلميع شخصية محمد البرادعي كقائد للتغيير. (جـ) المنظمات الحقوقية والشبابية والتي شهدت تكاثرا أيضا واستقطابا للشباب الذي يتمخض عن ثورة، وصارت تعقد المؤتمرات والندوات وورش العمل عن التغيير والنظام المنشود (الليبرالي). وقد استفاد الإسلاميون من هذه الحرية عبر الانترنت والصحافة، بل وسمح بقنوات فضائية دينية مثلت ركنا قويا في رفع الوعي بالإسلام وإن تجنبت الحديث في السياسة مباشرة أغلب الوقت.

3. وظلت مؤسسات إدارة الثروة والنفوذ محتكرة بيد الدولة بشكل كامل، إلا أن ظهور الانترنت ودخول مصر في اتفاقيات التجارة الحرة مكَّن كثيرا من المشروعات الصغيرة أن تنشأ عبر الانترنت متجاوزة لسلطان الدولة، كما جعل كثيرا من المشروعات الكبيرة ذات امتدادات فوق الدولة، فلم تعد سيطرة الدولة على كل المشروعات داخل أرضها كما كانت في السابق.

4. كذلك ظلت مؤسسات التشريع والقضاء محتكرة بيد السلطة، وللسلطة نفوذ كامل عليها، إلا أنها تأثرت أيضا بالمناخ الثوري والقوة الخارجية المطالبة بالإصلاحات الديمقراطية، فشهدت أعوام 2005 حركة نادي القضاة المطالبة بالإصلاح، وغلت يد السلطة جزئيا عن انتخابات البرلمان 2005 مما أوصل أكبر نسبة معارضة في تاريخ حقبة العسكر، وصارت هذه الحركات القضائية التي تفاعلت معها معارضة البرلمان –بالإضافة لحركات الشباب والعمال- مصدر إزعاج للسلطة ومصدرا آخر للوعي والتثوير.

أفضى كل هذا، مع شرارة نجاح الثورة التونسية في إسقاط نظام بن علي، إلى احتشاد شعبي واسع وغير مسبوق في 25 يناير تحول إلى احتجاج عنيف كسرت فيه جهاز الشرطة يوم 28 يناير، ومع امتناع الجيش عن مواجهة الثورة، لم يكن أمام مبارك مفر إلا الرحيل.

وهنا بدأت المعركة بين أجنحة إزالة النظام؛ الشعب الذي لم يصدق أنه بهذه القوة أن إزالة مبارك بهذه السهولة. والعسكر الذين فوجئوا أن الشعب يطلب أكثر من إزالة مبارك نفسه.. وجرى الأمر بين شد وجذب ومعارك دموية، وفوق الجميع كانت أمريكا تفضل حكما مدنيا علمانيا تسنده القوة العسكرية من الخلف. وأسفر كل هذا عن نجاح محمد مرسي (القيادي بالإخوان المسلمين) رئيسا للجمهورية، كان فيها أفضل المتاح بالنسبة للجميع، فهو أفضل للإسلاميين من نظام مبارك، وأفضل للجيش وأمريكا من تشدد حازم أبو إسماعيل أو خيرت الشاطر ومن اضطراب شعبي إسلامي في مصر التي أسفرت عن قوة غير متوقعة للتيار الإسلامي، ولكل طرف أهداف أخرى.

وكما هو المتوقع، سعت الثورة إلى تمكين المجتمع (وإن أخطأ ممثلوها فاعتمدوا النهج الإصلاحي البطيئ الذي لا يصلح للثورات) فخرج دستور يغل من سلطات الشرطة والعسكر ويعيد العمل بنظام الوقف، وكان لدى مرسي مشروع عنوان "تمكين المجتمع". بينما قضى النظام عاما يجمع نفسه ويلملم شتاته ويحارب من خلال مؤسسات القوة (الجيش والشرطة) ومؤسسات النفوذ والثروة، ومؤسسة القضاء في القضاء على هذه الثورة. حتى تم له الأمر بانقلاب 3 يوليو 2013.

وكما هو المتوقع أيضا، فقد ألغى الدستور القديم وألغى البرلمان المنتخب، ووضع دستورا تسلطيا أزال فيه كل أثر لتمكين المجتمع، ولم ينتخب حتى بعد عامين برلمانا وظل يحكم بالقرار المنفرد المتسلط الذي يخترق حتى الدستور الذي وضعه هو.

وتشهد المرحلة الحالية نموا في أمرين وإخفاقا في أمرين:

1. نمو في الوعي الذي ألهبته مجازر الانقلاب الكاشفة عن طبيعة الدولة الحديثة ومؤسساتها.
2. ونمو بطيئ ضعيف في استعمال السلاح ومقاومة السلطة الحاكمة.

ويبقى أمران لا بد من حسمهما على مستوى الوعي ومستوى التصرف فعليا:

3. مؤسسات التشريع والقضاء، إذ يحتاج الإسلاميون لتعميم مسائل وطرق ومناهج "أهل الحل والعقد" و"القضاء العرفي" لتكون بديلا حاضرا ونموذجا مطروحا في مرحلة الفوضى.

4. مؤسسات الثروة والنفوذ، إذ يحتاج الإسلاميون لتحديد أهم المؤسسات وكيف يجب التعامل مع كل منها، إما بالتفكيك الكلي أو الجزئي أو تركها على حالها. مع العلم بأن تفتيت مؤسسات الدولة وإعادة بنائها أحد أهم مظاهر الثورات الحقيقية؛ ولن ينكسر الفاصل الصلب بين الطبقة الحاكمة والمجتمع دون الثورة الشاملة وإعادة السلطة للمجتمع وتفتيت الطبقة الحاكمة؛ وينبغي ذكر أن محاولة إصلاح النظام لن ينتج عنها إلا إحلال طبقة حاكمة محل الأخري ما دامت بنية النظام واحدة مهما كانت تتمتع الطبقة الجديدة بالنزاهه حيث أن قوة النظام وقدرته علي احتواء أي قوي تدخله أقوي من أي محاولات.

(10)
ملاحظات وخلاصات

من خلال استعراض وتحليل عوامل القوة نلاحظ الآتي:

1)    لحظات قوة الأمة هي اللحظات التي تتوازن فيها قوة الدولة مع قوة المجتمع (رسوم تداخل المنحنيات)، بينما لحظات الضعف والنكبة هي التي تتغول فيها الدولة على حساب المجتمع، فيكون منحنى قوة السلطة أعلى من منحنى قوة المجتمع، وأسوأ الفترات هي حين تنفصل المنحنيات تماما، فساعتها تكون قوة السلطة في أعلى مراحلها وتكون قوة المجتمع في أضعف حالاتها.

2)    المنحنى في عهد الاحتلال الإنجليزي يشبه المنحنى في عهد الأسرة العلوية ويشبه حقبة العسكر، ما يعني أن الاستبداد هو الوجه الآخر للاحتلال. هذا مع العلم مع أن الاستبداد وقت الأسرة العلوية كان "استبدادا وطنيا" بخلاف الواقع الآن الذي هو مزيج من "الاحتلال والاستبداد".

3)    بالرغم من عدد المحاولات الثورية ولحظات النهوض إلا أن أيها لم ينجح، إما بنزول الاحتلال بنفسه (الاحتلال الإنجليزي) أو باستباق الثورة بانقلاب عسكري (يوليو، وفبراير 2011) أو بخدعة الديمقراطية (ثورة 19، انتخابات 2012). وهو ما ينبغي أن ينتبه له صناع القرار في المرحلة الثورية الحالية وأن يحسبوا حسابه.

4)    امتلاك الشعب للسلاح هو أحد أهم موانع الاستبداد والاحتلال.. وفوق امتلاك السلاح الوعي بالحق في امتلاكه والحق في استعماله ضد أي ظلم أو قهر أو سلطة مستبدة. إن حالة التخويف من انتشار السلاح أو منعه تصطدم بثوابت الدين وقواعد التاريخ وتحاصر المفكرين والعاملين والميدانيين، فضلا عن خطورتها في تزييف الوعي.

5)    الوعي أحد أهم أسلحة المعركة، وهو مهمة المجتمع، ويرتبط بوجود قيادات مجتمعية فاعلة ومجتمع متماسك مترابط، وتدمير الوعي أحد أهم أهداف الاستبداد والاحتلال.

6)    ضرورة إلغاء نظام التجنيد الإجباري الذي يدجن الشعب، والعودة للمزاوجة بين نظام الإلزام ونظام التطوع، وفي تراثنا الفقهي والتاريخي مخزون ضخم من قيم الجهاد وضوابطه، ثم في الأنظمة المعاصرة بدائل كثيرة تعصم من كوارث التجنيد الإجباري والقيم العسكرية المسيطرة عليه.

7)    لا بديل عن كسر احتكار الدولة للوعي والتعليم من خلال سيطرتها على المؤسسات التعليمية وعلى الصحافة والإعلام، فالعودة للكتاتيب والتعليم التقليدي ومؤسسات التعليم الموازي والتعليم المنزلي والتعليم الحر والتعليم المفتوح.. كل هذا ضرورة في إنشاء الجيل القادم ومنع خضوعه لمنظومة فكرية صادرة عن السلطة.

8)    زيادة الاستثمار في مجال صناعة الميديا بوسائل متعددة وتدريب كوادر في كافة مجالات الميديا السنيما الإذاعة التليفزيون وغيرها ومنازعة الطبقة الحاكمة في كل مجالات الإعلام وعدم ترك أي مساحة منفردة لهم.

9)    الأوقاف أحد أهم روافد قوة المجتمع، ومسألة الأوقاف (كجزء من مسألة استقلال المجتمع) هي مسألة حياة أو موت. والأوقاف قادرة على حل مشكلات احتكار السلطة للتعليم والإعلام والمؤسسات جميعا: التشريعية والتنفيذية والقضائية، بل وتستطيع قضية الوقف حل مشكلة احتكار السلاح أيضا.

10)            لا بد من دراسات متخصصة في أمر النظام النقدي والمالي المنشود للوقوف على الشكل الأمثل له في الواقع المعاصر، في ظل الهيمنة العالمية على مجال المال والنقد.

11)            نزع مهمة التشريع من السلطة واستقلال المؤسسات النيبابية والقانونية هو من صميم النظام الإسلامي، وهو إجراء مستقر يتخذه المستبد والمحتل للسيطرة عليه، ولهذا فلا مناص من العودة والمناداة بهذا النظام وتبيين فضائله في معركة المواجهة.

12)            تنظيم القضاء الشرعي والعرفي فهو البديل المجتمعي الناجز والأسرع والأقوى للقضاء المدني (العلماني)، مع تعظيم شأن الشريعة وجعلها أمرا لا يقبل النقاش فتكون سلطة فوق المحاكم المدنية وسبيلا إلى إصلاحها تدريجيا.دد

13)            ضرورة وجود قيادة للثورة، فقد سرق الإنجليز ثورة 1919 بتسليمها لزعيم مضمون الولاء، وسرقوا ثورة 52 بتلميع شخصية ضابط صغير في الثلاثينات من عمره، وهذا ما فعلوه في ثورة 2011 مع شخصية السيسي، وما يزال بقاء مرسي حيا يمثل لهم إشكالا في الشرعية. ولا بد من أن تتمتع القيادة بالنزاهة والكفاءة، فمشكلة النزاهة هي ما أودت بثورات 19 و52، ومشكلة الكفاءة كانت ضمن مشكلات الثورة العرابية وثورة يناير.

14)            وضوح وقوة الخطاب الثوري، فالثورات الناجحة هي التي كان لها خطاب حاسم صريح، والجماهير لا يحركها إلا الوضوح والقوة.

15)            السعي نحو امتلاك أدوات القوة، فهذه الدراسة تثبت أن غياب أحد أدوات القوة يكون دائما في صالح الاستبداد أو الاحتلال.

***

وبالإجمال فهذه هي صورة تطور ميزان القوة في المجتمع المصري منذ ما قبل الحملة الفرنسية وحتى ثورة يناير، ويبدو فيها واضحا وجليا كيف كان المجتمع أقوى من السلطة في مجمل ميزان القوى، ثم تدرج الأمر لتكون السلطة أكثر تغولا وانفصالا عن المجتمع.

كما يبدو واضحا أن الحالات الثورية وحالات المقاومة هي النقاط التي يقترب فيها المجتمع من الحصول علي السلطة والتي تواجه بالقوة الباطشة للحفاظ علي السلطة بعيدا عن المجتمع. وهذا الأمر  يفسر لم كانت هذه الفترة هي فترة ضعفنا ونكباتنا وهزائمنا الطويلة.



والشكل التالي يبين منحني القوة للمجتمع والسلطة عبر القرنين الماضيين، في التسع مراحل المتتابعة



نشر في ساسة بوست