الأحد، يوليو 03، 2016

محمد بن أبي عامر.. دروس في الحكم والسياسة

في مثل هذا اليوم (27 رمضان 393هـ) توفي رجل من أعظم رجال الإسلام في كل تاريخه، الرجل الذي كان عهده هو ذروة التاريخ الأندلسي وقمته، ذلك هو: الحاجب المنصور: محمد بن أبي عامر المعافري، رجل السياسة والحرب، ورجل العلم والحضارة، والفاتح الذي بلغت فتوحاته حيث لم يصل أحد قبله من الفاتحين، والبطل الذي استمرت هيبته بعد موته في قبره تثير رعدة أعدائه!

مات وهو عائد من الجهاد، عند مدينة سالم، وكانت عادته أنه إذا عاد من معركة نفض تراب ثيابه، ثم جعله في قارورة، لكي تدفن معه فتشهد له بالجهاد في قبره وعند ربه، ولما دُفِن كتبوا على قبره بيتان من الشعر فيهما خلاصة حياته:

آثاره تُنبيك عن أخباره .. حتى كأنك بالعِيان تراه
تالله لا يأتي الزمان بمثله .. أبدا، ولا يحمي الثغور سواه

ولعل الشاعر الذي أنشد البيتين كان ذا نظر سياسي ثاقب، فما هي إلا سنوات سبع بعد موت المنصور بن أبي عامر إلا وبدأت الأندلس رحلة انحدارها وهبوطها من القمة، ولم يتكرر المنصور منذ ذلك الوقت وحتى هذه اللحظة، ولستُ أعرف شبيها للمنصور في مواهبه في كل التاريخ الإسلامي من بعد عصر الأمويين!

وقد بلغ المنصور هذه المكانة، رغم أن بدايته كانت غاية البساطة، فقد نشأ شابا عاديا في ريف الجزيرة الخضراء أقصى جنوب غربي الأندلس، لذا فإن قصة نجاحه هي قصة ملهمة لكل شاب طموح، ولكل سياسي في مقتبل العمر.. ونحن في هذه السطور نقتبس بعضا من دروس سيرته الثرية.

(1) المنفرد بنفسه

ينحدر محمد بن أبي عامر من قبيلة معافر، وهي من القبائل التي اعتزلت السياسة منذ وقت طويل، فلم يكن له عشيرة قوية ترفعه، ولا ظهر يستند إليه في قرطبة، لكنه بالرغم من هذا خرج من ريف الجزيرة الخضراء حتى قصد إلى قرطبة، وهناك أقبل على العلم والدروس، ثم اتخذ دكانا قريبا من قصر الزهراء (قصر الحكم الأموي) يكتب فيه العرائض لذوي الحاجات، ثم ما لبث أن لفت الأنظار ببلاغته وفصاحته، فأنشأ علاقة مع الفتيان الصقالبة (كأنهم: الحرس الجمهوري الآن)، وأحيا علاقة قديمة مع وزير كان صديقا لأبيه، وبهذين الطريقين استطاع أن يدخل في سلك القضاء معاونا لقاضي قرطبة، فلفت إليه النظر بذكائه وقوة علمه، فأوصى به هذا عند الحاجب المصحفي (رئيس الوزراء في النظم الرئاسية)، فاتخذه عاملا عنده مشرفا على أملاك ولي العهد الصغير، ومن هنا نشأت علاقاته داخل قصر الحكم في قرطبة!

أعجب به الخليفة الحكم المستنصر لقوة علمه وذكائه وفطنته وتعدد مواهبه، ولم تزل الأيام تكشف عن مجهوده في الأعمال التي تولاها وبرع فيها حتى أنسى بها من كان قبله ممن هم أكبر سنا وأوسع خبرة، فتولى القضاء والحسبة وإدارة الشرطة الوسطى (الأمن العام) والعليا (الأمن القومي) ودار السكة (وزارة المالية) ثم بعث في سفارة ومهمة دبلوماسية، وما إن مات الخليفة الحكم المستنصر حتى كان محمد بن أبي عامر هو المؤتمن على ولده الصغير ولي العهد والقائم بشؤونه.

وهنا قام بالمناورات السياسية الكبرى التي أسفرت عن تفوقه جميعا ضد مراكز القوى الكبرى في قصر الحكم، فلعب على التناقضات بينهم، وخاض معاركه المتتالية معهم رغم خطورة كل منها ولم يخسر واحدة منها؛ فاستعان أولا بالمصحفيين (أتباع الحاجب المصحفي) على الصقالبة، ثم بغالب الناصري (فارس الأندلس وشيخ الموالي) على الصقالبة، ثم بجعفر بن حمدون (شيخ المقاتلين المغاربة) على غالب، ثم بأبي يحيى التجيبي (والي سرقسطة وشيخ التجيبيين) على جعفر، حتى اختتم المشهد وليس في الأندلس إلا المنصور.

وتلك سيرة كل من ارتقى إلى الحكم بمواهبه، بغير اعتماد على عشيرة، وهي سيرة حري بكل طارئ على نظام حكم أن يفقهها ويستوعبها ويهضمها كي لا يأكله النظام القديم!

والمنصور في كل معاركه هذه، صاحب حجة قوية، ومنطق سديد، ويقظة تامة، وليس فيها معركة يمكن أن يُطعن بها عليه دون خلاف ونظر وأخذ وردّ!! فياله من داهية عجيب فعل كل هذا وليس ثمة ما يُسلم لخصمه فيه!

(2) اصطناع الأتباع

في كل مرحلة ارتقاء كان المنصور يصطنع الأتباع ويتألف القلوب، وهو ذو فراسة يعرف بها من أن يُدخل على المرء، فمنهم من بهرهم بعلمه، ومنهم من بهره بحضور ذهنه، ومنهم من بهره بسداد رأيه وحسن مشورته، ومنهم من بهره بالأموال والكرم، ومنهم من بهره بالشجاعة والإقدام!

لا يتسع المقام هنا لذكر التفاصيل، ولكن ابن أبي عامر كان في مجلس العلم حاضر الذهن، وفي ساحة الحرب مقداما، وفي مجال السياسة حكيما، وعند الشدائد والحاجات كريما معطاء، فالتقت عليه القلوب وتعلقت به، ونفرت عن غيره.

وما كان يمكن له أن يفعل هذا لولا ذكاء بالغ، وفهم للنفوس، وحسن إدارة للأموال، وقد اتُّهِم ذات يوم عند الخليفة بالسرقة من بيت المال، وتعرض لمحاسبة ظهر فيها كذب الاتهام ووفور ما في الخزانة من أموال، فزادت مكانته وزاد حسد حاسديه.

وقد بلغ اصطناعه للأتباع أن تنقسم الفئة الواحدة، فيكون منها قسم معه على فئتهم، فلقد صار له قسم من الصقالبة ضد قسم آخر، ثم ظل معه جل المغاربة رغم نكبة شيخهم جعفر بن حمدون، وبعد أن انتهت دولته صار له أتباع يُعرفون بالعامريين كان لهم شأن في سياسة الأندلس من بعده!

(3) امتلاك القوة

لكنه لم يكتف بهذا، بل نفذ إلى رؤوس قبائل العرب التي كانت قوة مهملة فأعاد إحياء آمالهم وتجميعهم خلفه ليكونوا قوته ومركز ثقله، ثم التفت إلى جيش الحضرة (القسم العسكري المخصص للدفاع عن قرطبة من الجيش الأندلسي) فأعاد إحياءه وتجهيزه ليكون قوته العسكرية، ثم استقدم من المغرب فرقا من الأمازيغ في إطار تفاهمات السياسة لكنه استفاد من وجودهم في تعديل الميزان العسكري المائل لصالح الصقالبة (الحرس الجمهوري) وجيش الثغور (قوات الحدود)، فصار له بهؤلاء شوكة عسكرية، إذ رفعهم من الخمول والنسيان إلى المكانة والأثر وحسَّن أوضاعهم المالية والمعنوية!

وبهذه الشوكة العسكرية التي تكونت تحت سمع وبصر الجميع، ودون اعتراض لا من الخليفة ولا من حاجبه المصحفي ولا من الصقالبة، تمكن شأنه في بلاط الحكم وصار مركز قوة جديد، وبها نفسها انتهى من الصقالبة ثم من المصحفيين ثم نافس بها القادة العسكريين الذين توانوا في صد جيوش الجلالقة رجاء تحسين وضعهم في مراتب الدولة، فلما ثبت أنه يمكن الاستغناء عنهم تغير حالهم كي لا يتغير الحال عليهم.

ومن قبل هذا وكله كان يعتمد على ثقة الخليفة، وثقة أم ولده صبح البشكنسية، فيثبت نفسه بالإنجازات عند الأول، وبحسن إدارة الأملاك والهدايا عند الثانية. وما يُثار عن قصة حب بينه وبين البشكنسية لا دليل عليه!

(4) المغامرة في مواطن الشرف

ليس شيء يصنع حب الناس كالبطولة، حتى إن الطغاة التافهين الفاشلين يحاولون اصطناع الإنجازات واختراعها ليحوزوا مثل هذا، وقد قال المتنبي:
لولا المشقة ساد الناس كلهمُ .. الجود يفقر والإقدام قتّال

فأما محمد بن أبي عامر فقد فخر بنفسه ذات يوم فقال قصيدة عصماء نلتقط منها قوله:
رميتُ بنفسي هول كل عظيمة .. وغامرتُ، والحر الكريم يغامر
وما صاحبي إلا جنان مشيع .. وأسمر خطي، وأبيض باتر
فسُدْتُ بنفسي أهل كل سيادة .. وفاخرت حتى لم أجد من أفاخر

ومن ذلك نعرف كيف كان صنع ابن أبي عامر كل تلك المحبة التي نراها حتى الآن في كتب المؤرخين، ولقد غزا بنفسه أكثر من خمسين غزوة (بمعدل غزوتين في السنة الواحدة) لم يُكسر له جيش ولم تُهزم له راية، وبلغ في الفتح ما لم يبلغه أحد قبله، واقتحم ليون عاصمة الصليبيين، وشانت ياقب (سانت يعقوب) في أقصى غرب شبه الجزيرة.. والكلام في بطولته يطول!

لكن القصد أن السياسي لا بد له من بطولة وإقدام، والتاريخ يُقدر البطل وإن هُزِم ولا يقدر الخامل المتردد وإن سلم، وقليل من أبطال حركات المقاومة من انتصروا لكنهم جميعا يسكنون القلوب ويُكتبون في صفحات الشرف، بينما المتمسكين بالواقعية والبراجماتية والمترددون والمتهيبون قليل منهم من يسكن القلوب ويثير الخيال ويلهم الطموح!
وليس أولى بهذا من أمة منكوبة تشتاق للبطولة.. وها نحن نرى كيف تستثير الحركة مهما كانت متطرفة أحلام الشباب (داعش مثالا).. بل لا يزال هتلر في قبره مثيرا وملهما برغم ما أنزله من نكبة بألمانيا بينما لا يكاد يتذكر أحد أسماء من خلفوه.

(5) اليقظة التامة

لا يستقيم السياسي بغير اليقظة التامة، ولقد سبق عبد الرحمن الداخل في وصف هذا فقال:

إن الملوك مع الزمان كواكبٌ .. نجم يطالعنا ونجم آفل
والحزم كل الحزم ألا يأفلوا .. أيروم تدبيرَ البرية غافل؟!

إن رجلا صعد من ريف الجزيرة الخضراء ليحكم الأندلس قد مرَّ في رحلته بمئات التحديات التي تستوجب منه يقظة وانتباها تاما، يعرف بها عدوه من صديقه ويحدد به خطوته القادمة، ثم إن رجلا قضى على مراكز القوى وصار في منصب الملك قد واجه من المؤامرات التي حاولت أن تزيله ما لا يمكن التغلب عليه إلا بيقظة تامة.. وهكذا كان المنصور بن أبي عامر!

لم يسبق إليه عدو ثم لا يجده قد سبق هو إليه، ولم تكتمل عليه مؤامرة إلا وكان قد أحبطها، ولم يرتب أحد ضده أمرا إلا وجد ترتيبه قد قضى عليه، ولقد وصفه الحاجب المصحفي بالثعلب بعدما نُكب على يديه، وقال في ذلك بيته المشهور:
لا تأمنن من الزمان تقلبا .. إن الزمان بأهله يتقلب
ولقد رآني والليوث تهابني .. وأخافني من بعد ذاك الثعلب

(6) احترام الشرعية

برغم كل ما صنع محمد بن أبي عامر للأندلس وأهلها، إلا أنه كان يعرف حدَّه، ولما فكَّر يوما في تنحية الخليفة الصغير الضعيف والتسمي بالخلافة نهاه أهل مشورته فانتهى ولم يعد إلى ذلك، إن للشرعية قوة معنوية في النفوس لا يمكن اختراقها وانتهاكها، حتى لو كان المنصور وحتى لو كان الخليفة صغيرا ضعيفا.. فالخليفة أموي، وتلك هي شرعية الوقت!


والمؤرخون رغم اتفاقهم على عظمة ابن أبي عامر وحسن أثره يختلفون في موقفهم من سياسته مع الخليفة الأموي، وهذا يعطيك معنى الشرعية كقوة معنوية في الصراع السياسي!

ومن المثير للانتباه أن الدولة العامرية انتهت وانهارت حين حاول ابنه الصغير "عبد الرحمن بن المنصور" أن يحمل الخليفة على التنازل له عن الخلافة، وهو الأمر الذي تردد فيه أبوه ثم أعرض عنه، فكانت تلك بداية الاضطرابات التي ذهبت بالدولة العامرية، وأدخلت الأندلس في عصرها البائس: عصر ملوك الطوائف!

هذه ستة دروس في السياسة التقطناها من سيرة المنصور بن أبي عامر، نحسب أننا نحتاج إليها في مسيرتنا الثورية الحاضرة.. والله المستعان.

هناك 3 تعليقات:

  1. جزاك الله خير

    ردحذف
  2. غير معرف11:34 ص

    جزاك الله خير الجزاء وزادك علما ونفع بك ورزقك إخلاص النية
    فقليل ممن حاز علمك ثبت على الإخلاص
    اللهم ارزق عبدك محمد إلهامي الثبات

    ردحذف
  3. غير معرف9:22 م

    لكن مع ذلك تقول بعض الآراء أنه كان السبب في بداية ضياع الأندلس وتفكك الحكم فيها نظرا لقوته الشديدة واضعافه لكل من حوله وانقلابه على الحاكم السابق والذي كان طفلا صغيرا على ما اذكر، فهل ترى لمثل هذا الرأي مجالا؟!

    ردحذف