الأربعاء، سبتمبر 21، 2016

نهاية قائد تركي في البلاط العباسي

لا يمرُّ أحد على التاريخ العباسي إلا ويتذكر اسم القائد التركي اللامع حيدر بن كاوس الأشروسني، الملقب بـ «الأفشين».. فلهذا الرجل قصة غريبة عجيبة لا تزال تختلف فيها الآراء.

كانت بداية القصة كما حكيناها في المقال السابق (الأتراك في بلاط الخلافة العباسية)، ثم ما لبث أن لمع اسم الأفشين كقائد عسكري موهوب منذ أيام المأمون، وذلك أنه تصدى لتمرد قوي نشب في مصر (شارك فيه الأقباط) بسبب سوء سياسة الوالي على مصر عيسى بن منصور، واستطاع أن يخمد حركة الثورة هذه في سائر مصر إلا الإسكندرية، وقضى ثمانية أشهر في تتبعها (من جمادى الأولى 216هـ وإلى نهاية العام)، حتى وصل المأمون بنفسه إلى مصر، فقضى تماما على هذه الحركة[1].

ثم توفي المأمون، وصار الأفشين القائد الأعلى للجيش لدى الخليفة المعتصم، وبلغ غاية ما يبلغه قائد عسكري من الشهرة والقوة والنفوذ والمكانة، فقد انتصر في حربين كبيرتيْن من أهم معارك التاريخ العباسي بل والتاريخ الإسلامي كله، الأولى كانت: القضاء على تمرد بابك الخرمي وهو من أخطر التمردات التي واجهت الخلافة العباسية، والذي بلغ عدد ضحاياه من المسلمين ربع المليون مسلم. والثانية كانت: معركة فتح عمورية المشهورة التي اقتحم فيها المعتصم مدينة عمورية وهزم جيش الإمبراطورية البيزنطية هزيمة قاسية.. ومن المفارقات أن كلا هذين النصرين كانا في شهر رمضان المبارك.

وهكذا ضحكت الأيام للأفشين، وسار السعد في ركابه، حتى وقعت حادثة خطيرة: تمرد المازيار بن قارن في طبرستان:
وأصل القصة أن جد المازيار اسمه ونداد هرمزد، وكان يحكم طبرستان في عهد الرشيد ويلتزم بدفع مبلغ سنوي لوالي طبرستان، وكان ابنه قارن موجودًا في بغداد كرهينة عند الرشيد لضمان عدم التمرد والإخلال بدفع الأموال، وبعد هذا بسنين ساعد قارن بن ونداد الخليفة المأمون في حروبه ضد الروم حتى تمنى المأمون أن يدخل قارن في الإسلام، وبعد وفاة قارن تغلب زعيم قبلي على ملكه وانتزعه من ابنه المازيار فلجأ المازيار إلى بغداد وساعدته الخلافة على استرجاع ملكه والتمس منه المأمون أن يدخل في الإسلام فأسلم وسمى «محمد مولى أمير المؤمنين» وتكنى بـ «أبي الحسن».

ولطبيعة هذا القرب بين المازيار والمأمون كان يرفض أن يدفع الأموال المقررة إلى نائب المشرق عبد الله بن طاهر بل كان يرسلها مباشرة إلى الخلافة، لكنه لم يلبث كثيرًا حتى أعلن العصيان على الخلافة (218هـ) بعد مناورات، وارتد عن الإسلام واعتنق المزدكية.

ولم يستطع المأمون مواجهة المازيار إذ تُوُفِّيَ في العام ذاته، فوقع عاتق المواجهة على المعتصم.

وكانت وفاة المأمون فرصة لاتِّساع ظلمه وبطشه وفساده، فقد امتنع عن إرسال الخراج وأخذ في اضطهاد المسلمين ممن هم تحت ولايته حتى لقد هرب كثير منهم من أرضه، ولجأ إلى خراسان، وأرسلوا إلى المعتصم يشكون إليه الحال الذي هم فيه فأرسل إليهم يطمئنهم ويخبرهم أن عبد الله بن طاهر سيتولى هذا الأمر وقد قيل إن الأفشين كان يحبُّ أن يتولَّى نيابة الشرق مكان عبد الله بن طاهر، وأنه لذلك حرض المازيار على التمرد متوقعا فشل عبد الله بن طاهر في التصدي له، ومن ثَمَّ يعهد الخليفة إليه بمواجهة هذه الثورة وبالولاية على المشرق، وقد استند هذا التوقع لما سيظهر بعد ذلك من الأفشين!

راسل عبد الله بن طاهر المزيار فكان الرد عنيفًا، إذ طالبه المازيار بدفع خراج عامين له، فبدأت خطَّة عبد الله بن طاهر في حربه، وكان يخطط لحصاره من ثلاث جهات بثلاثة جيوش، جيشان من خراسان أحدهما بقيادة عمه الحسن بن الحسين لحصاره من ناحية جرجان، والثاني بقيادة حيان بن جبلة لحصاره من ناحية قومس، واستدعى جيشًا من نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم فأرسل جيشًا يقوده محمد بن إسحاق الطاهري، فجرت بين هذه الجيوش وبين المازيار حروب طويلة مُجْهِدة استطاع فيها عبد الله بن طاهر أن يوقع بين المازيار وبين قادته ومنهم ابن أخيه، ثم انتهت إلى أسر المازيار وإرساله إلى ابن طاهر، وهناك اعترف المازيار بخطَّة كبيرة شاركه فيها الأفشين -القائد التركي الكبير الذي أنهى تمرد بابك- لإسقاط الدولة العباسية، وكانت مهمَّة الأفشين هي قتل المعتصم وأبنائه، فكان أول هَمِّ عبد الله بن طاهر أن يحصل على رسائل الأفشين إليه، ثم أرسله أسيرًا إلى المعتصم فوصل بغداد في (225هـ)، ومعه كثير من الغنائم النفيسة من الجواهر والذهب والثياب.

وفي هذه الأثناء وقبل أن يصل المازيار أسيرًا إلى الخليفة، كان نائب الأفشين في أذربيجان وهو من قرابته -أيضًا- واسمه منكجور الأشروسني قد وجد أموالًا كثيرة ونفائس كانت مكنوزة من تراث بابك الخرمي فأغراه كثرتها، فلم يخبر بها الخليفة، فوصل الخبر إلى المعتصم عن طريق شاهد عيان، فكتب الخليفة إلى منكجور بهذا فأنكر أن يكون قد حدث وعزم على قتل من أبلغ الخليفة لولا أنه هرب منه واحتمى بأهل أردبيل، ثم تأكد للمعتصم كذب منكجور فأرسل إليه جيشًا يقوده بغا الكبير (وهو قائد تركي كبير أيضا في جيش الخلافة العباسية) فقاتله حتى ألجأه إلى طلب الأمان فعاد به إلى الخليفة (225هـ).

ثم وصل المازيار أسيرًا إلى المعتصم فأنكر عنده ما اعترف به لعبد الله بن طاهر من أن يكون الأفشين قد كتب إليه شيئًا، وعاقبه المعتصم بالجلد أربعمائة وخمسين سوطا، فأقر بأن الأفشين كان يراسله ويحرضه على التمرد، ثم لم يتحمل المازيار ما نزل به من الضرب فمات فيه، ثم صُلب إلى جوار جثة بابك الخرمي على جسر بغداد، وقَتَل المعتصم أهمَّ قواده ورجاله.

ومن ناحية أخرى تحقق المعتصم بما كان من خيانة الأفشين، وقد كانت تلوح الشبهات حول الأفشين من عدة أمور: فهو يرسل أموالًا جزيلة إلى أشروسنة -من معاقل الأتراك فيما وراء النهر- بغير علم الخليفة أو عماله، فوقع هذا في يد عبد الله بن طاهر -والي خراسان- الذي تعبر هذه الأموال في ولايته، وأبلغ المعتصم بهذا فأرسل إليه المعتصم أن يتابع مراقبة الأمر، ثم هذا الاعتراف الخطير الذي صرح به مازيار عند القبض عليه بأن الأفشين هو مَنْ كان يحرضه على الخروج فأمر بحبسه.

وسبحان المعز المذل! فقبل هذا الحبس بشهور كان الأفشين في أعظم مكانة لدى المعتصم بل إن زواج ابنه الحسن بن الأفشين (جمادى الآخرة 224هـ) تم في قصر المعتصم بسامراء، وكان المعتصم بنفسه يتفقد الحضور، وكان توزع على الناس أطيب أنواع العطور «الغالية» فتُدهن بها لحاهم.

نهاية الأفشين

بعدما تكشف من أمر الأفشين ما سبق أحس بالخطر وعزم على الهروب، ولم يكن بإمكانه أن يهرب شرقًا، فإنه لا محالة سيقع في أيدي ولاة الخلافة في العراق وفارس وخراسان -التي يتولاها خصمه عبد الله بن طاهر- حتى يصل إلى مراده في بلاد الترك فيما وراء النهر، لذا كانت خطته الهرب في النهر شمالًا حتى بلاد الجزيرة الفراتية، ثم شمالًا إلى أرمينية، ثم شمالًا إلى بلاد الخزر، ثم يدور من حول بحر قزوين حتى يصل إلى مراده في بلاد الترك، ثم يُثير من هناك -وبالاستعانة بالخزر- تمرده الكبير الذي يدبر له.

وكان من خطته إقامة وليمة للمعتصم وقادته وأن يضع لهم سُمًّا فيها، فإن لم يستجب المعتصم فحسبه هؤلاء القادة، إلَّا أنَّ أحد الأتراك أفضى بما يعلم إلى المعتصم، فدبر المعتصم حبسه في قصر الجوسق وبنى له سجنا مرتفعا سمي باللؤلؤة وعُرِف فيما بعد بسجن الأفشين.

وفي الوقت ذاته أرسل المعتصم سريعًا إلى عبد الله بن طاهر ليحتال حتى يحبس الحسن بن الأفشين، وقد كان في بلاد ما وراء النهر، قبل أن يصل إليه خبر أبيه، فتعاون عبد الله بن طاهر مع نوح بن أسد الساماني حتى خدعوه وقبضوا عليه وأرسلوا به إلى المعتصم في سامراء.

وكعادة رجال السياسة إذا سقطوا تكشفت الكثير من أفعاله التي كانت خافية!!

أقيمت محاكمة للأفشين، كان قاضيها أحمد بن أبي دؤاد المعتزلي، وممثل الاتهام هو الوزير محمد بن عبد الملك الزيات، وحضرها نائب بغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، وقد اتهم فيها بما يدل على بقائه على دين الفرس:

·         أنه غير مختتن.
·         أنه ضرب رجلين إمامًا ومؤذنًا كل واحد ألف سوط لأنهما هدما بيت أصنام فاتخذاه مسجدًا.
·         أن لديه كتاب كليلة ودمنة مصورًا فيه الكفر وهو محلى بالجواهر والذهب.
·         أن الأعاجم يكتبون في رسائلهم إليه: أنت إله الآلهة من العبيد. دون أن يعترض عليهم.
·         أنه كان يكاتب المازيار بأن يخرج عن الطاعة وأنه في ضيق حتى ينصر دين المجوس الذي كان قديما ويظهره على دين العرب.
·         أنه يستطيب المنخنقة على المذبوحة.
·         أنه كان في كل يوم أربعاء يستدعي بشاة سوداء فيضربها بالسيف نصفين ويمشي بينهما ثم يأكلها (وهي عادة مجوسية).

وقد رد الأفشين على بعض هذه الاتهامات، فقال بأنه لم يختتن لأنه يخاف الألم، ولم يبد هذا مقنعا فقال له الوزير: أنت تطاعن بالرماح في الحروب ولا تخاف من طعنها وتخاف من قطع قلفة ببدنك؟ وبأنه إنما ورث كتاب كليلة ودمنة الفارسي من آبائه، وبأن سكوته على تلقيبه بالإله، إنما لكي لا ينحط من نظر الأعاجم الذين كانوا يكاتبون آباءه وأجداده بهذا.

وظل الأفشين محبوسا بعد العزة الكاملة والمكانة الرفيعة حتى مات في حبسه (شعبان 226هـ)، فأمر به المعتصم فصُلِب ثم أحرق وذُرِّي رماده في دجلة، وصودرت أمواله فوجدوا في أملاكه أصناما مكللة بذهب وجواهر، وكتبا في فضل دين المجوس وأشياء كثيرة كان يتهم بها، تدل على كفره وزندقته، وتحقق بسببها ما ذكر عنه من الانتماء إلى دين آبائه المجوس.

وهذه النهاية غير المتوقعة للقائد الأكبر للدولة الإسلامية، وثبوت انتمائه لغير الإسلام جعلت بعض المؤرِّخين يتشككون في كثير من أعماله وقد ذهب بعضهم[2] إلى أن من سيئاته أنه تثاقل عن قتال بابك وأنه كان يضمر موافقته على ضلالاته، فهذا ما ساهم في تعاظم قوة بابك وتجرئه، وهو ما جعل المعتصم يصلبه بجوار بابك على جسر بغداد، كذلك لم نعدم بعض من نفى التهمة بالكلية وقال[3] بأن الأفشين إنما كان ضحية مؤامرات الحاسدين والوشاة على المكانة التي وصل إليها ببطولته وأنه لم يكن كافرا ولا منافقا.

نشر في تركيا بوست



[1] اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي 3/ 192، 193، والطبري: تاريخ الطبري 5/ 182، 184، والكندي: الولاة والقضاة ص142 وما بعدها.
[2] عبد القاهر البغدادي: الفرق بين الفرق ص268، والغزالي: فضائح الباطنية ص14.
[3] أبو تمام: ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي 2/ 199، 200.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق