الجمعة، ديسمبر 23، 2016

محنة الفقه السياسي

اشتعل الجدل في الساحة الإسلامية عقب قتل السفير الروسي في تركيا، وكان النصيب الأكبر من هذا الجدل في نقاش ما إن كان قتله جائزا أم لا، وفاضت الأقلام، ثم فاضت الاتهامات، وبقي أن نرصد بعض الدلالات في هذا الجدل.

1. لقد فشلت عصور التحديث والعلمانية في إنهاء ارتباط المسلمين بتراثهم الفقهي، ربما أجلتها وعطلتها، وبالرغم من تغييب الدين عن المجال العام، إلا أن حركات المقاومة عبر هذين القرنين من هيمنة العلمانية انبعثت من هذا الدين واسترشدت دائما بأصولها الدينية، حتى بدا واضحا أن تمنيات "تجاوز الأيديولوجيا" لم تكن إلا أوهاما وخرافات، وبدا أن العصر القادم هو "ثأر الله" كما يسميه جيل كيبل، إذ العودة إلى الدين يمثل ظاهرة في حركة المجتمعات المعاصرة.

2. لكن عصور العلمانية والتحديث طرحت العديد من التحديات التي لا تزال تمثل عقبة كبيرة في طريق الاجتهاد الفقهي المعاصر، وهذه التحديات لها ثلاثة مستويات كلها متشابك مع الآخر أخذ بعنانه متحد به اتحادا لا ينفك عنه، على هذا النحو:

§       لقد غيَّر نمط الدولة الحديثة كثيرا من الأحوال التي بنى عليها الفقهاء قديما أحكامهم واجتهاداتهم، لا سيما في مسائل العلاقة بين السلطة والمجتمع، وما صارت تملكه السلطة من احتكار القوة، وما تتمتع به من فارق قوة هائل بينها وبني عموم الناس، وما تهيمن عليه من مساحات كانت متروكة للمجتمع فيما مضى.

§       ثم إن زيادة الترابط الحاصل الآن بين الدول بعد ثورة الاتصالات والمواصلات حتى وصل إلى نظام عالمي ذي مؤسسات متحكمة طرح مزيدا من الحوادث والنوازل والعلاقات والتوازنات التي لم تكن متصورة في ذهن الفقيه قديما (وليس هذا بقادح فيه، فلا يُطلب من أحد أن يفكر في مسائل لم يعرفها).

§       ثم هذا الحال المعروف من الاستضعاف العام في الأمة كلها، حتى لا توجد فيها سلطة مستقلة ولا عاصمة آمنة وليس من بلد إسلامي يملك قراره منفردا، بل عامة الدول بين محتل مباشرة أو محتل بالوكالة، أو في حال من الضعف تجعله عاجزا عن القيام بواجبات الإمامة قديما، وعامة كتب الفقه ومصادره كُتبت في أزمان ليس فيها هذا الضعف والعجز العام، ولا هذا التفتت الكبير، ولذلك فكثير من المسائل التي تبدو مشتبهة هي في حقيقتها مختلفة عند التعمق في فهم آراء الفقهاء وتصورهم لها في أزمانهم.

وكل واحد من هذه الثلاثة، فضلا عن اجتماعها معا مؤثر في تنزيل الحكم على الواقع المعاصر.

3. وتزيد المأساة في أن العلماء صاروا معزولين عن عالم السياسة، وهذه العزلة التي طالت لنحو القرنين من الزمن أثمرت ضعفا عاما في العلم بالواقع الذي لا بد منه لتنزيل حكم الشرع عليه، ولذا فالفقهاء في باب السياسة هم أندر أهل الفقه في زماننا هذا، وحتى الحركات الإسلامية التي نهضت لمقاومة العلمانية لم تُخرج من يسد هذه الثغرة.

وقبل ثمانية قرون كتب ابن خلدون في مقدمته فصلا بعنوان "في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها" ذكر فيه أن العالِم المنعزل بعلمه عن شأن السياسة يتعامل مع المسألة تعاملا رياضيا نظريا، لأنه تمرَّن أن يجرد المسألة في صورة نظرية عامة ثم يُفرِّع منها الفروع، وهو إذا فعل ذلك فإنه يشتبه عنده ما ظاهره التشابه بينما يغفل عن الفروق التي يدركها السياسي، بل ربما أدركها العامي الذي لم يتكوَّن عقله على هذه الصورة الرياضية الهندسية التي تنحو إلى التجريد والتأصيل.

كتب ابن خلدون هذا، وهو الفقيه المالكي الذي تولى القضاء وعمل بالسياسة ومارس السفارة، في زمن لم يكن تعقيد شأن السياسة فيه شيئا من واقع هذا الشأن.. فكيف يمكن أن نقول الآن؟!

والقصد: أن العلم المعزول عن السياسة يفسد العلم والسياسة معا!

4. وإذا افترضنا أننا استطعنا ردم هذه الفجوات الهائلة فيظل الأمر في شأن النوازل غير مقتصر على الوصول إلى حكم فقهي صحيح في نفسه، بل الفتوى لا بد لها من اعتبار المآلات وحسابات المصالح والمفاسد، وهي أمور تقديرية لا ينفرد بها الساسة وحدهم ولا العلماء وحدهم، بل لا بد قبل هذا من عمل المتخصصين الذي يشرح الحال ويتوقع المآل ويعطي البدائل.

5. كل الذي سبق لا يعني بحال إهمال المدونة الفقهية الإسلامية، فالإيمان بأن الإسلام دين الله وأنه صالح لكل زمان ومكان وأن الله قد أتم دينه، كل هذا يقتضي بطبيعة الحال الانطلاق من أصول هذا الدين، ولا يمكن بناء اجتهاد على هذه الأصول إلا بالتشبع من المدونة الفقهية وتراثها الغني الواسع الثري، وإن الشهادة بثراء الفقه واشتماله على الحلول للمشكلات المعاصرة أمرٌ نطق به حتى المستشرقون وسُجِّل في مؤتمرات قانونية دولية، والكلام في هذا طويل وهو معروف مشهور.

والقصد أنه لا يمكن إنشاء اجتهاد معاصر إلا باستيعاب النهر الكبير من الفقه القديم حيث عملت ملايين العقول على تحقيق النصوص وتمحيصها والموازنة بينها وإقامة النظريات الفقهية في ضبط الأصول والمقاصد والمراتب والفروق. ومجرد التفكير في إهمال هذا التراث العريض يعني القبول بالذوبان في الحضارة المعاصرة المهيمنة.

إن هذا التراث الفقهي هو القاعدة الصلبة التي يتأسس عليها بناء النموذج الحضاري الإسلامي المعاصر، ويمكننا –بنظرة تبسيطية- أن نقسم الفقهاء إلى نوعين: نوعٌ يحاول تطويع الفقه للواقع، ونوع يحاول تطويع الواقع للفقه، وبقدر ما يبدو الأول من أهل التيسير بقدر ما يُخشى من منهجه الاستسلام والذوبان في النظام المعاصر المخالف للإسلام، ثم بقدر ما يبدو الثاني من أهل التشدد بقدر ما يُخشى منه العزلة عن واقعه، إلا أن الثاني أثبت من الأول في سياق التأسيس للنموذج الحضاري الإسلامي، والأول أثبت من الثاني في إيجاد الوسائل المعاصرة لهذا النموذج الإسلامي، والمنطقة بينهما رمادية ودقيقة ولا يقف فيها إلا الجهابذة ونادرٌ ما هم.

6.  إن الفقه كائن حيٌّ، ينمو بمخالطة الواقع والتصدي لمسائله، وبقدر ما استطاعت الأنظمة إبعاد الفقيه عن المجال العام بقدر ما ركد الفقه في الكتب والزوايا ولم يعد يُنتج الجديد، والبلاد التي انتهى فيها القضاء الشرعي غاب عن الفقهاء فيها ما هو من أخصِّ خصائص البيوت، فكيف بأمر السياسة الذي ما إن يتناوله الفقيه حتى تُفتح له أفواه السجون أو تنصب له أعواد المشانق؟!

إلا أن هذا لم يحل المسألة، إذ انسداد الباب أمام الفقه السياسي يفجر الموقف ولا يحله، إذ أن إبعاد العلماء عن الاجتهاد المعاصر يفتح الباب للحركيين والعمليين، ولو كانوا شبابا صغير السن قليل التجربة ضعيف العلم لا يمتلك سوى بندقية ولا يرى أبعد من فوهتها.

إن الثورة على الظلم طبيعة بشرية، وإغلاق أبواب الإصلاح يدفع بالناس إلى كسرها، ولا تزال السلطة تظلم وتتحرى الظلم حتى لا يبقى إلا أن تنفجر الأمور وتنفلت، وساعتئذ لا يجدي في المسألة قول عالم يراه الثائر عالم سلطة أو جبان أو عاجز عن فهم الواقع.

ومن هذا الواقع مسائل كثيرة تختص بأهل الذمة وأهل الحرب والمعاهَدين والمستأمنين وتولي غير المسلمين المناصب العليا، والمشاركة في ظل هذه الأنظمة بالانتخاب أو الترشح وأحكام العاملين في الإدارات والمؤسسات الحكومية، وغيرها الكثير.


وهذه المسائل إن لم يفتح العلماء بابها باجتهاد معاصر فإن الواقع سيكسره ثم يهرع العلماء لمحاولة ترقيع ما كُسِر أو حتى الاكتفاء بإدانته.

هناك تعليق واحد: