الثلاثاء، مارس 29، 2016

خلاصة تجربة نجم الدين أربكان

اقرأ أولا:

من بين كثير من الإنجازات للحركة الإسلامية بزعامة أربكان، يعد الإنجاز الرئيسي لها هو نقل الكتلة الإسلامية من ساحة المقهور المغلوب الذي غاية أمله دعم وتأييد الأقل سوءا بين الساسة إلى ساحة الفاعل المتحرك الموجود في خريطة السياسة كبديل وخيار[1]، وهو ما فتح طريقا أمام سائر طاقات المتدينين –والشباب خصوصا- للبحث في مسائل الإسلام والسلطة والدولة، وتجارب الجماعات الإسلامية في العالم، وترجمة أدبياتهم، مما جعل فترة السبعينات فترة ازدهارٍ فكريٍّ إسلاميٍّ[2]، وهو ما أثمر تأسيسا لحالة إسلامية تعيد اكتشاف ذاتها وتسعى لإعادة المجد القديم وتنظر للحقبة العلمانية في تاريخ تركيا على أنها حقبة انحدار وانهيار لا حقبة بعث جديد، وأن هذا الوضع يحتاج إلى تصحيح[3].

حفلت حياة نجم الدين بأنواع المعاناة، وأولها معاناته من داخل الوسط الإسلامي، أول الأمر، إذ ووجه بذات الإشكاليات المتعلقة بشرعية تأسيس حزب والدخول في الساحة السياسية تحت ظل نظام غير إسلامي وانتهاج وسيلة الديمقراطية سبيلا للتغيير[4]، كما انقسمت قاعدة حزبه من النقشبنديين والنورسيين بعد تحالفه مع اليسار واليمين إذ اعتبروا التحالف مع الكماليين خيانة لمبادئ الإسلام[5]، مرورا بما تعرض له في مسيرته الطويلة من حصار وتضييق وإغلاق أحزابه ومحاكماته التي قضت عليه بالسجن أو بالإقامة الجبرية، وفي آخر حياته التي قضاها بين سجن وإقامة جبرية لم يستطع تلاميذه وإن كانوا في موقع السلطة أن يرفعوا عنه شيئا، إلا عفوا صحيا (2008م) وما كاد يتحرر من الحظر والسجن حتى عاد بجلد عجيب وصبر دؤوب لرئاسة حزبه "السعادة" مرة أخرى (2010م) وهو في الرابعة والثمانين من عمره، لكنه لم يقض سوى ستة أشهر حتى وافاه الأجل (27 فبراير 2011م).

ورغم مجيئ وفاته في لحظة من أكثر لحظات العالم العربي ارتباكا، وهي مطلع الثورات العربية، إلا أن اسطنبول قد ارتجت بجنازة هائلة حاشدة مهيبة، قصدها زعماء الحركات الإسلامية من كافة أنحاء العالم، وقطع  أردوغان زيارته لأوروبا ليشارك فيها وحمل نعش أستاذه، ومعه عبد الله جُل رئيس تركيا وقتها، فكان يوما مشهودا، يشهد لصاحبه بالمكانة التي تربع عليها في قلوب الجماهير.

لقد انتهت المسيرة السياسية لأربكان إلى السجن والحظر ولم يفلح حزبه الجديد في أن يجدد مسيرته ولا أن ينافس على السلطة ولا أن يكون رقما في معادلة السياسة، إلا أن أربكان نفسه ظل يحظى بتقدير عظيم داخل العالم الإسلامي جميعا، ولم تمنع طريقته الصوفية ولا دخوله العملية السياسية رموزا سلفية من الثناء عليه، بل لقد توسط له الشيخ ابن باز عندما سجن بعد الانقلاب العسكري لئلا يُعدم فاتخذ لدى الأتراك سبيلا عبر الرئيس الباكستاني الجنرال ضياء الحق[6]، ولقد أثنى عليه الشيخ حازم أبو إسماعيل عند وفاته ثناء حارا واعتبره من "علم كبير من أعلام الأمة"[7]، وظل نجم الدين الشخصية الإسلامية التركية الأشهر في العالم الإسلامي، وذلك حتى بروز المواقف الإسلامية لأردوغان، فعندئذ سطع نجم أردوغان وسرق العيون من نجم الدين أربكان.

ولا يمكن فهم تجربة أربكان بغير فهم الساحة التركية، وافتراقها عن الساحات العربية[8]، وأهم هذه الفوارق في سياقنا الآن هو أن الدولة التركية هي دولة حديثة حقيقية، بمعنى أنها ليست الدولة التي يتغير شأنها بتغير حاكمها ولا هي الدولة التي يمثل الحاكم فيها ثقل السلطة، بل إنها سلطة تنظيم المجال –بتعبير فوكو- حيث ينبثق سلطان الدولة من روح كل شيء فيها. ولذلك فإن كثيرا ممن يحبون أربكان من أبناء العالم العربي لم يقرأوا تجربته، فهم يظنونه فارسا على نمط المصلحين في العالم العربي من حيث مفاصلة الدولة ومقاومتها، والأمر بخلاف ذلك تماما.

إن الدولة في العالم العربي أخذت أسوأ ما في النظاميْن: النظام السلطاني القديم ونظام الدولة الحديثة، فصارت تنتج فراعين مستبدين يمتلكون من الصلاحيات التي أتاحها نظام الدولة الحديثة ما لم يمتلكه فرعون نفسه، بينما كانت الدولة التركية برغم كل شيء هيكل نظام دولة حديثة حقيقي، لا تمتلك جهة بعينها تسيير كل الأمور أو التحكم في كل السلطات، كما أن موقع تركيا الجغرافي يجعلها دائما جزءا من معادلة السياسة الدولية، ما يجعل قرارها الداخلي غير خالص لها. ثم إن قسمة تركيا –بالحدود الحديثة التي أسفرت عنها معاهدة لوزان، وبالفكر الكمالي الذي سيطر عليها لزمن طويل- جعلتها دولة حافلة بالقلاقل والأزمات. كل هذا وغيره كثير يجعل السياسي التركي محاطا بعدد هائل من التعقيدات ومراكز القوى، يحتاج فيها إلى ذكاء وصبر وجلد لا يتأتى إلا لأفذاذ الناس.

إن النظر السطحي لتاريخ أربكان سيسفر عن أنه رجل بدأ قويا ثم ظل يتدرج في التنازل تلو التنازل حتى مات وليس بيده شيء ولا حقق نجاحا، بينما الدخول خطوة واحدة إلى ما تحت هذا النظر السطحي يكشف كم كان هذا الرجل ذكيا وجلدا وصبورا ومثابرا، وهو وإن لم ينجح –لأسباب تحتاج إلى الدراسة وقد نتعرض لها في مقالات قادمة- إلا أنه أول خطوة إسلامية قوية في حقبة الدولة التركية العلمانية.

يرى الكثيرون أن أردوغان كان نقيضا أو انقلابا على أربكان، وهذا صحيح إلى حد ما، ولكن تجربة أردوغان ما كان لها أن تبدأ بحال بغير التمهيد الأربكاني، ويشبه هذا المشهد –بوجه من الوجوه- ما كان بين الرجلين الكبيرين: نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي، فالثاني من ثمرات الأول لكنه لا يشبهه، وحقق ما لم يستطع أستاذه تحقيقه، إلا أنه لولا نور الدين ما كان صلاح الدين ولا كان الأيوبيون جميعا، ولقد كان الخلاف بين الرجلين في آخر أيامهما مما سمح للثاني بمساحة استقلال مكنته فيما بعد من الحفاظ على إنجاز أستاذه وتطويره.

وهكذا تدور ساقية التاريخ، فالمستبد الذي يحرص أن يكون أتباعه ضعفاء معدومي المواهب يدورون في فلكه تنتهي تجربته بنهاية أمره، أما من يصطنع الرجال الأقوياء فثماره تنتهي مع نهاية آخر ثمرات رجاله، إلا أنه كثيرا ما يقع بين الأستاذ القوي وتلميذه القوى خلاف وتضاد، إلا أن التاريخ يغطي على هذا الخلاف لصالح الإنجاز الذي أثمرته مرحلة الأستاذ والتلميذ، فتذهب أخبار الخلاف في بطن الكتب حيث لا يعرفها إلا المتخصصون في التاريخ ويبقى الإنجاز تستفيد به الأمة كلها.

وتلك هي الصورة الآن، يرى معظم الناس أن أردوغان تلميذ أربكان وامتداد له وإكمال لعمله، وقليل منهم من يعرف ما كان بينهما من الخلاف والتضاد، وكلما سارت أيام التاريخ كلما ترسخ الإنجاز وضعف ذكر الخلاف.

نشر في تركيا بوست




[1] Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 31.
[2] بسلي وأوزباي: قصة زعيم ص42، 43.
[3] Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 40.
[4] بسلي وأوزباي: قصة زعيم ص41.
[5] منال الصالح: نجم الدين أربكان ص98، 118.
[6] د. عبد المحسن الزكري، مقطع فيديو، الرابط: https://goo.gl/2NLPnP
[7] حازم أبو إسماعيل، مقطع فيديو، الرابط: https://goo.gl/w3P163
[8] انظر: فوارق رئيسية بين التجربتين التركية والعربية (الجزء الأول، الجزء الثاني)

الجمعة، مارس 25، 2016

إشكاليات الجماعات التقليدية والصاعدة في مصر

يمكن تقسيم القوى الإسلامية المناهضة للانقلاب العسكري في مصر إلى قسمين: القوى التقليدية، والقوى الجديدة أو الصاعدة.

وإلى لحظة كتابة هذه السطور لا يبدو أن ثمة تعاونا، أو حتى تحالفا حقيقيا قويا، بين هذين القسمين، إلا أن الحالة العامة تشهد موجة أخرى من السيولة التي تعيد تشكيل الخريطة الحالية، لا سيما في الوقت الذي تكثر فيه المناطق الساخنة المحيطة بمصر، وخصوصا ليبيا وسوريا، مع ما استجد على الساحة نفسها من عاصفة مواقع التواصل الاجتماعي التي تصنع حالة فكرية إسلامية عامة تجعل احتكاك الأفكار الإسلامية في أشد حالاته ربما منذ نشأة الجماعات الإسلامية كلها في مطلع القرن العشرين.

ومما يجدر قوله قبل البدء، أن رصد هذه الحالة يكاد يختفي تماما من الأبحاث والدراسات العربية بينما تهتم مراكز الأبحاث والصحافة الغربية برصده والتعرض له، ويعد تقرير كارنيجي –الصادر في 21 أكتوبر 2015- أفضل ما نُشِر في رصد هذه الحالة في حدود ما نعلم.

***
أولا: القوى التقليدية

1. الإخوان المسلمون

وهي الأكثر أموالا وأولادا، والأوسع انتشارا في الساحة المصرية كما هو معروف، ومنذ بدأت الثورة المصرية والجماعة تمثل طليعة الحالة الإسلامية في كافة مراحل الثورة، وكانت تُعَلَّق عليها الآمال في تحقيق أوضاع أفضل بكثير إن في سنة الحكم أو بعد الانقلاب على د. محمد مرسي والذي كان عضوا بمكتب الإرشاد (هيئتها العليا) ورئيس الحزب السياسي المنبثق عنها.

لكن الجماعة الآن تشهد حالة ضخمة من الانقسام الداخلي، هو في أحد أهمّ وجوهه اختلاف بين مقاومة الانقلاب أو الالتزام بالسلمية، وتبدو الحالة الراهنة كأن فريق المقاومة يضم غالبية الشباب –الذين هاجر بعض منهم إلى جماعات جهادية أخرى لتأخر قيادة الجماعة في اتخاذ قرار المقاومة- بالإضافة إلى المنافذ الإعلامية الرسمية للجماعة، بينما يضم فريق الالتزام بالسلمية من بقي من القيادات التاريخية وهم في نفس الوقت من يحتكرون أموال الجماعة. وقد صار هذا الانقسام علنيا في الأشهر الستة الأخيرة وبلغ مستويات غير مسبوقة في تاريخ الجماعة المصرية. وقد رُصِد هذا الانقسام منذ وقت كبير من قبل عدد من المراكز البحثية الغربية، وبعضها صارت تعطي التوصيات علانية للقيادات التاريخية بأن تلتزم السملية وتكبح جماح الشباب وتضغط عليهم بورقة التمويل والشرعية التاريخية.

ويبدو أن هذه التوصية قد تحققت بالفعل، فقد نشرت بعض المكاتب الإدارية للمحافظات التي أبدت دخولا على طريق مقاومة الانقلاب، نشرت بيانات تعلن فيها توقف الأموال المستحقة الوصول لها عن طريق الجماعة بما في ذلك الأموال المرصودة للإنفاق على عائلات الشهداء والمعتقلين، وهذا بخلاف الروايات الشخصية المتواترة التي تتسرب بين صفوف الشباب وبعضها صار ينشر على صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، كما شهدت المنافذ الإعلامية الرسمية وغير الرسمية والسرية حربا من البيانات المتبادلة بين الفريقيْن التي عملت على "شرعنة" موقفها لائحيا في سجال مستمر أشبه أن يدور في أورقة قسم الفتوى بمجلس قضايا الدولة المختص بتفسير اللوائح.

كذلك لم تفلح عدد من مبادرات المصالحة التي قادتها أطراف داخلية (البرلمانيون) وخارجية (قيادات تحالف دعم الشرعية) وعلمائية (الشيخ القرضاوي ومجموعة من الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين) في تخفيف هذا الانقسام.

وقد عاد هذا كله بالضعف على الحراك الثوري، وظهر هذا بأوضح صوره في مرور ذكرى 25 يناير الخامسة بحراك هو الأضعف منذ الانقلاب العسكري.

2. الجماعة الإسلامية

انكمش تأثير الجماعة الإسلامية على الساحة المصرية منذ الضربات الأمنية القاسية التي انتهت في منتصف التسعينات، ولا تملك الجماعة الآن على الحقيقة تنظيما قويا في مصر، وإنما تملك رموزا لها احترامها في الوسط الإسلامي كما تملك شرعية تاريخية ونضالية كبيرة. صحيح أن الجماعة من حيث وجود تنظيم تعد الثانية بعد جماعة الإخوان المسلمين إلا أن الفارق كبير للغاية في كل شيء: الأعداد وقوة التنظيم والكوادر المؤهلة ونسبة الشباب. وتظل قيمة الجماعة في قدرتها على التوجيه والتجييش أكثر من قدرتها على العمل المنظم على الأرض، لطول ما انقطع ما بينها وبين العمل في الواقع المصري، ولأن معظم كوادرها لم يعودوا من الشباب، كما أنهم –إن لم يكونوا من المطاردين خارج مصر- فإنهم من المعروفين لأجهزة الأمن المصرية مما يعطل قدرتهم على العمل المؤثر، لكنهم يستطيعون أن يكونوا في صفوف الدعم المعنوي واللوجيستي أفضل.

ومنذ بداية الانقلاب العسكري تمسكت الجماعة بموقفها الرافض لأن تتصدر لمسألة مقاومة الانقلاب، وحجتهم في هذا أنهم لن يكرروا الخطأ القديم في التقدم على الصف الإسلامي (الإخوان في هذه الحالة) مما يترتب عليه تبرؤ الآخرين من "العنف والإرهاب" كما كان سابقا، وتدفع الجماعة وحدها هذا الثمن.

يجادل آخرون بأن هذا العذر وإن كان صحيحا في نفسه إلا أنه نظري أكثر منه عمليا، وذلك لافتقاد الجماعة القدرة في هذه المرحلة على إعادة التسعينات من جديد، إن على المستوى النفسي (تقدم القيادات والكوادر في السن) والفكري (بعد زمن المراجعات وتوقف ظهور إنتاج فكري جديد) أو على مستوى التسلح والانتشار وقوة التنظيم (بعد الضربات الأمنية وانكشاف التنظيم وانقسامات القيادة).

والمآل العملي أن الجماعة الإسلامية ظلت حريصة على تبني الموقف العلني بمناهضة الانقلاب، والالتزام بالمعارضة السلمية، فظلت –رغم ضغوط أمنية متصلة- طرفا في تحالف دعم الشرعية وفي الظهور على القنوات الإعلامية المناهضة للانقلاب، ونالت بعض قياداتها حظا من الاعتقال والتعذيب أسفرت عن استشهاد زعيم الجماعة الإسلامية عصام الدين دربالة.

3. الجماعات الجهادية

ولا يختلف الحال كثيرا بالنسبة للجماعات الجهادية القديمة في مصر عن حال الجماعة الإسلامية، ولئن كان بعض كوادر الجماعة الإسلامية يستطيعون العمل في المجال الدعوي أو الخيري فإن هذا الباب لا يناسب كوادر الجماعات الجهادية لا فِكْرًا ولا إمكانية، لكل هذا فإن أغلب الكوادر الجهادية القديمة إما صارت منعزلة ومنطوية على نفسها في مصر، وإما صارت في المهجر أو في ساحات الجهاد التي مثَّلت قوة جذب جديدة للكوادر التي استطاعت الخروج من مصر.

وبشكل عام فإن الجماعات التقليدية التاريخية تعاني الآن من عدة أمور أهمها:
-       جمود الأفكار وعدم القدرة على التطور وملاحقة الواقع المعاصر.
-       ندرة أو انعدام القيادات المؤثرة التي تستطيع تحريك الأتباع.
-       الفقر في عنصر الشباب الذي صار الآن يسبق الشيوخ والقيادات أو حتى لا يعرفهم أو صارت معرفته بهم على نحو غامض وتاريخي ينتمي إلى الماضي المثير للإعجاب أكثر منه انتماءً يثير القدوة والاتباع.

إلا أن هذه الجماعات ذاتها إذا ما أتيح لها دعم سياسي مطمئن فإنهم يستطيعون أن يُحدثوا حالة من الحراك الفكري والمعنوي والإعلامي، إذ لا تزال رموزهم التاريخية قادرة على إثارة الكثير من الشباب إذا ظهروا ولو لمجرد سرد تاريخهم وحكاية تجربتهم. وإذا ما أتيح لهم هذا الدعم السياسي فإنه يمكنهم اتخاذ خطوات أكثر جرأة وتحقيق بعض النجاحات الملموسة ولكنها ستكون أقل من المتوقع لمن يحوز على هذا الدعم لما تقدم من الأسباب. كذلك فإن المأزق الفكري الذي تعيشه هذه الجماعات يسهل من إمكانية توجيههم سياسيا.

***
ثانيا: القوى الصاعدة

تشهد مصر كما تشير العديد من التقارير البحثية الأجنبية انفجارا في الحركات الثورية الصاعدة، ولا يستطيع أحد أن يحصي على وجه التحديد أو التقريب عدد هذه الحركات ولا تأثيرها المستقبلي، لأن انفجار الأوضاع في مصر وما تبعه من حالة قهر عام بعد حالة ثورية يؤدي إلى نمو مجموعات لم تكن معروفة وليس لها سجل سابق في الثورية.

وقد كشفت التحقيقات الأمنية في المعتقلات، وبعضها أتيح لمراكز بحثية واستفادت منه في نشر تقاريرها، أن مجموعات من الشباب ينظمون أنفسهم ويبدؤون من الصفر بطريقة التجربة والخطأ، وفي كثير من الأحيانات انفجرت بعض القنابل البدائية الصنع فيمن يصنعونها لضعف خبرتهم، وأحيانا انفجرت في سيارتهم قبيل تنفيذهم لعملية في قسم الشرطة بمدينة 6 أكتوبر غرب القاهرة، وبعض هذه المجموعات أوقع بها لضعف قدرتهم على التخطيط أو السرية.. وحتى لحظة كتابة هذه السطور لا تزال قوات الأمن تعتقل مزيدا من الشباب الذين يُعلن عن تكوينهم مجموعات "إرهابية". وتعد هذه المجموعات هي الخطر الحقيقي في المستقبل لأنها تظهر فجأة وبغير توقع مسبق، كما أن كونهم من الشباب يتيح لهم استعمال الانترنت والتواصل فيما بينهم بطرق حديثة ومبتكرة لم تدخل بعد تحت السيطرة الأمنية.

أما المجموعات الكبرى التي ظهرت وبدأت في مواجهة السلطة المصرية فتنقسم إلى:

1. تنظيم الدولة الإسلامية (سيناء، مصر)

وهم في الأصل جماعات جهادية معتدلة، وكانت عملياتها تتوجه حصريا إلى إسرائيل، حتى وقع الانقلاب العسكري وشنت السلطة المصرية حملة أمنية في غاية الشراسة على أهل سيناء بدعم كامل وعلني من الإسرائيليين، فحولوا هدفهم إلى السلطة المصرية، وقد وفرت لهم السياسة الأمنية حاضنة شعبية قوية في ظل الطبيعة القبلية لأهل هذه المنطقة مع الجغرافيا الوعرة ومع كونها منطقة حدودية تنتشر فيها عصابات التهريب وتجارة الأسلحة والمخدرات والأعضاء البشرية واللاجئين كذلك. فأنتجت هذه الظروف وغيرها شبكة من العلاقات القبلية والاقتصادية دعمت جماعة أنصار بيت المقدس فاستطاعت القيام بأقوى العمليات على الإطلاق ضد الجيش المصري ومعسكراته في سيناء.

ويمثل نمو القدرة القتالية لقوات غير نظامية مصرية تطورا غير مسبوق في التاريخ المعاصر المصري، فالعمليات في سيناء تجمع بين ثلاثة أنواع معا؛ الأول: إرهاب المدن كما يسمى في الدراسات الأمنية، ويعني ضرب أهداف مدنيَّة سهلة داخل المدن عبر العبوات والمفخخات والانتحاريين وعمليات الاغتيال. والثاني: تكتيكات العمليات الميدانية لحروب العصابات والتي تشمل عمليات الكر والفر مع محاولة السيطرة على الأرض لفترة محدودة بتشكيلات قليلة العدد وخفيفة التسليح وتجنُّب المواجهة المباشرة طويلة أو متوسطة المدى. أما النوع الثالث -وهو جديد في الحالة المصرية- فهو أشبه بتكتيكات وعمليات ميدانية للقوات النظامية الخاصة؛ حيث يتم استخدام خليط من المدفعية الثقيلة والخفيفة والصواريخ الموجهة وغير الموجهة والقنّاصة؛ لدعم تقدم أو انسحاب تشكيلات مشاة من عشرات أو مئات المسلحين، وبهذا تكون هذه الجماعة هي "أقوى تنظيم عسكري غير تابع للدولة في تاريخ مصر المعاصر"[1].

في ديسمبر 2014 أعلنت جماعة بيت المقدس أنها بايعت أبا بكر البغدادي وصارت جزءا من "الدولة الإسلامية" واتخذت اسم "ولاية سيناء"، والمرجح أن هذه الخطوة إنما كانت للحصول على مزيد من الشعبية في مصر وللحصول على ما يمكن من التمويل الذي قد توفره "الدولة الإسلامية" من الأموال أو الرجال أو السلاح أو الخبرة. وذلك أن شعبية "الدولة الإسلامية" تتصاعد في مصر بين الشباب، في ظل ما هم فيه من ضغط أمني كبير وانتفاء وجود حركة قوية تتصدر للمقاومة، وقد تزامن هذا مع الصعود والتمدد الكبير الذي حققه تنظيم "الدولة" في العراق وسوريا، والذي دعمه بإصدارات فنية عالية المستوى تؤثر في الشباب تأثيرا ملموسا.

إلا أن خطاب "ولاية سيناء" ما زال خطابا "معتدلا" بالنسبة إلى خطاب تنظيم "الدولة الإسلامية" وهو لا يتوجه بالتكفير إلا إلى العاملين في السلطة والجيش المصري، ولا يتعرض بالتكفير للفصائل الإسلامية الأخرى، وليس في خطابه ما يستعديهم أو يشوه صورتهم، ولذلك ينقسم الشباب الإسلامي حوله في مصر، فالمؤيدون لتنظيم الدولة يرونه جزءا منهم لا فرق بينه وبين قيادته في العراق والشام، والذين يعارضون تنظيم الدولة يلمسون الفارق في الخطاب والسياسة ويركزون عليها، ويؤيدونه في مواجهته للسلطة المصرية.

وبالعموم فإن "ولاية سيناء" مهما تعاظمت قوتها في سيناء لكنها تظل بعيدة عن التأثير في مجرى السياسة المصرية، لأن الدولة المصرية شديدة المركزية وتكاد تُخْتَزَل في القاهرة، ولهذا فإن عملية صغيرة في القاهرة تحدث من التأثير ما لا تحدثه عملية كبيرة في سيناء أو في الأطراف البعيدة.

2. مجموعات تابعة لتنظيم القاعدة (أجناد مصر، المرابطون)

وأهم هذه المجموعات التي ظهرت للعلن مجموعتان: تنظيم أجناد مصر، وكان يقوده همام عطية إلى أن قُتِل في اقتحام للأمن المصري، ومن بعدها خفت شأن التنظيم لكنه كان يقدم خطابا جهاديا معتدلا وهو أول تنظيم ينفذ عمليات في قلب القاهرة وفي قلب المناطق السكنية، ولكنها كانت عمليات نوعية تقتصر على الشرطة ولا يُصاب فيها المدنيون، وأعلن التنظيم في أكثر من بيان أنه ألغى بعض عملياته لتواجد مدنيين في موقع العملية، وخرج لقائده حوار وحيد قبل أن يُقتل، وكان طرحه فيه هادئا ومتماسكا ومعتدلا.

ثم ظهر بعد وفاته تنظيم آخر "المرابطون"، ويقوده ضابط صاعقة مصري سابق اسمه "هشام عشماوي"، ويوصف عشماوي بأنه من المتميزين في صفوف الصاعقة المصرية، والأنباء المتداولة التي يصعب التحقق منها بشكل مؤكد تفيد أنه انشق عن جماعة أنصار بيت المقدس حين أعلنت البيعة لتنظيم الدولة الإسلامية واتخذت اسم "ولاية سيناء"، وقد أصدر عشماوي حتى الآن نداءيْن أفاد فيهما أنه يمثل تنظيم القاعدة في مصر، ودعا الشباب للانصمام إلى المقاومة بتنفيذ عمليات وإرسالها إلى عنوان بريدي على الانترنت، وصرح بأن هذا سيكون أسلوب العمل الجديد في مقتبل الأيام.

وبشكل عام فإن هذه الجماعات الجهادية تعيش فترة انتعاش إعلامي ومعنوي، وقد رصدت مراكز الأبحاث وحتى تحقيقات الأجهزة الأمنية إقبالا عليها وهجرة إليها من صفوف شباب التيارات التقليدية التي لم تزل تراوح مكانها. كما تمثل الحالة الثورية السائلة التي تتعاظم وتكثر مددا مستمرا لهذه الحركات التي يتوقع أنها ستستطيع في قابل الأيام تنظيم صفوفها وتأمين الانضمام إليها وسهولة الوصول إلى الشباب الموجودين في منطقة الحالة الثورية السائلة. وقد شهدت الشهور الأخيرة في مصر تمدد "تنظيم الدولة الإسلامية" ليتبنى عمليات في القاهرة، مما يؤكد هذه الفرضية المطروحة بأن الأيام القادمة ستشهد مزيدا من الحركة النوعية الأكثر خبرة وتنظيما، وأن تيار الحالة الثورية سيؤول إلى صفوف التنظيمات الجهادية.

وبالعموم فإن الحالة الجهادية "المصرية" أكثر اعتدالا من التجارب الجهادية الأخرى لطبيعة الشعب المصري نفسه وطبيعة الجغرافيا المصرية، ومن المشهور في تحليلات الجنسيات في صفوف الحركات الجهادية أن المصريين يكونون الأقل غلوا.

إن كلا من الجماعات التقليدية والقوى الصاعدة يمكن أن تحقق بالدعم السياسي وغيره تغييرا في المشهد المصري، وهذه بشكل عام تمثل فرصة لمن يريد الدخول على خط الملف المصري.

لكن القوى الصاعدة تبدو الأفضل من حيث وفرة كوادرها من الشباب، ومرونتهم الفكرية والحركية التي تمكنهم من اتخاذ خطوات جريئة، ولم تزل ضعيفة التأثر بالنمط شديد التطرف كما في حالة "تنظيم الدولة" في الشام والعراق، إلا أن طول الوقت قد يحملها على هذا التشدد لا سيما مع استمرار الضغط الأمني العسكري المتصاعد في سيناء، ونستطيع أن نلمح بعض بوادر هذا في دفع جماعة أنصار بيت المقدس إلى استعمال راية "تنظيم الدولة" والذي ستسرب لها –مهما تأخر الوقت- ما لدى التنظيم من غلو وتطرف شديد. ولا يخفي عدد من المحللين الأمريكان أن الأمور قد تصل إلى هذا المسار، إذ أن من أهداف "داعش" دفع مصر إلى الفوضى لكسب المزيد من الأعضاء والكوادر[2]، وهذا الوضع يوفره لها نظام السيسي كأفضل ما يكون، بسياسته التي لا تفرق بين الإخوان أو داعش بل تتعامل مع كل الإسلاميين كأنهم شيء واحد، فيدفع الجميع نحو تأجيج التمرد والمواجهة[3].

فماذا تحتاج الكيانات الجديدة؟

تحتاج أمريْن بشكل أساسي: الدعم السياسي، والدعم المالي.

وهكذا تبدو مصر في هذه اللحظة، وربما أكثر من أي وقت مضى، رهينة بنتائج معادلات التفاعل بين الإرادات المختلفة في الحالة الإقليمية، والتي ربما تكون دولا أو حتى فواعل تحت الدولة.



[1] د. عمر عاشور: تنظيم ولاية سيناء الصعود العسكري والآثار السياسية، (الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، 29 يوليو 2015م).
[2] Noah Feldman: How Islamic State Pushes Egypt Toward Chaos, (Bloomberg View, 20 Aug 2015).
[3] Shadi Hamid: Sisi’s Regime Is a Gift to the Islamic State, (Foreign Policy, 6 Aug 2015).

أسطورة المجاهدين .. أحمد ياسين

كان كُثَيِّر بن عبد الرحمن الخزاعي شاعر فحل، وهو من أشهر شعراء العرب لما أنشده في محبوبته عزة حتى لقد عُرِف باسم "كُثَيِّر عزة"، وكان ضعيفا نحيفا قصيرا حتى وصفته كتب التراجم بأن طوله لا يتعدى ثلاثة أشبار، إلا أنه كان من صلابة النفس وقوة القلب بمكان يعرفه كل من قرأ قصة حبه.

دخل كثير يوما على عبد الملك بن مروان فاندهش لما رآه على هذه الحال، فأنشد كثير يقول:

ترى الرجل النحيف فتزدريه .. وفي أثوابه أسد هصور
ويعجبك الطرير إذا تراه .. فيخلف ظنك الرجل الطرير
بغاث الطير أطولها رقابا .. ولم تطل البزاة ولا الصقور
خشاش الأرض أكثرها فراخا .. وأمُّ الصقر مِقْلاةٌ نزور
وقد عَظُمَ البعير بغير لبٍّ .. فلم يَسْتَغْنِ بالعِظَمِ البعير
يُنَوَّخ ثم يُضرب بالهراوى .. فلا عرفٌ لديه ولا نكير[1]

ولئن كان كثير أجاد تصوير الأمر بموهبة شعره، فإن حديثنا اليوم عن رجل جعل الصورة حقيقة حية، كتبها بدمه، فجدد مسيرة المجاهدين الكبار الذين كان أولهم عند عبد الله بن أم مكتوم، ذلك الذي حمل الراية يوم اليرموك وهو أعمى ليكثر سواد المسلمين.

(1) أمة كالغيث.. يتتابع ولا ينقطع!

تلك أمة لا تموت.. بل يجدد المجاهدون فيها سيرة بعضهم، فلا يسقط مجاهد شهيدا إلا ويولد مجاهد ينتظر أن يكون شهيدا..

وُلِد أحمد ياسين بعد شهور من اغتيال الشيخ عز الدين القسام، أهم مقاوم للاحتلال الإنجليزي في فلسطين، وقد عايش وهو في الثانية عشرة من عمره ذروة النكبة الإسلامية الحديثة، التي هي سقوط فلسطين بيد اليهود المدعومين بالقوة الصليبية والمحاطة بالدعم الصليبي في البلاد العربية المحتلة المحيطة بها: مصر والأردن وسوريا، وبهذا يكون وعيه قد تفتح في لحظة من أقسى اللحظات التي مرت على الأمة الإسلامية.

وعلى الرغم من أنه أصيب بحادث أثناء ممارسته للرياضة أسفرت عن شلل كلي وهو في الرابعة والعشرين من عمره؛ فإنه أكمل تعليمه وعمله بالتدريس؛ بل صار أشهر خطيب في غزة، فكان شوكة في حلق الاحتلال ودعمًا وسندًا لأهالي الشهداء والمعتقلين؛ بجمع التبرعات التي تحولت إلى أكبر جمعية خيرية في غزة، إلا أن الأهم في مسيرته هو تأسيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس).

وإذن، فلقد كانت حياة أحمد ياسين هي ذاتها عصر العسكر في العالم العربي، أو هو عصر استيلاء عملاء الاحتلال على السلطة، وهي أسوأ لحظة مرت على الأمة الإسلامية عبر تاريخها، أسوأ من زمن الاحتلال نفسه.

ولئن كان كثير ممن أحيوا ذكراه قد سردوا قصة حياته، فقد آثرت أن أكتب ما قد يغيب عن كثيرين تذكُّره، وهو: خلاصة تجربة وأفكار الشيخ الشهيد أحمد ياسين، معتمدين في ذلك على الاقتباس من مجموعة حلقات "شاهد على العصر" التي بثتها قناة الجزيرة، والتي طبعت بعد ذلك في كتاب "أحمد ياسين شاهد على عصر الانتفاضة".

(2) الجيوش العربية وحكم العسكر

روى الشيخ أن الجيوش العربية كانت هي السبب في نكبة فلسطين، وذلك أنهم لما دخلوا إلى فلسطين كانوا يسحبون السلاح من الناس لئلا تكون في البلاد قوة غيرهم، فإذا جدَّ الجدّ وجاء وقت القتال مع اليهود انسحبوا وترك الناس وراءهم عزَّل من السلاح يواجهون مصيرهم، فكان اليهود يرتكبون مذبحة في قرية (صارت بلا سلاح) فيخيف هذا أهل القرى التي حولهم فينسحبون منها، وهكذا تمَّ لهم الاستيلاء على فلسطين بطريقة لم يكن ليتوقعها أحد.

لقد كانت المعارك سجالا بين الفلسطينيين واليهود، ينتصرون وينهزمون رغم الفارق الكبير في الأسلحة، ولكنهم يستعملون أسلحتهم في الدفاع عن أنفسهم أو في تنظيم هجمات على المستوطنات، أما بعد دخول الجيوش العربية فلم يكن إلا الهزائم.. والهزائم فقط.

ولهذا لم يعقد الشيخ أمله أبدا على الجيوش العربية في تحرير فلسطين، وإنما تركزت فكرته على تسليح المجاهدين، وهو يجزم بأن الجيوش العربية لو لم تدخل إلى فلسطين واكتفت بتقديم السلاح لتغير وجه المعركة تماما.

وروى الشيخ عددا من مشاهد بسالة المجاهدين المتطوعين من الإخوان المسلمين وغيرهم، وكيف أن أوامر الانسحاب لم تكن تأتي من قيادة المعارك بل كانت تأتي من قيادة الجيوش –وهي قيادة بريطانية- حتى لو كان الوضع على الأرض هو وضع انتصار صنعه المجاهدون المتطوعون!

كما روى عددا من مشاهد بسالة الجنود المقاتلين الذين قتلتهم قرارات السياسة في أرض المعركة، فذكر أن قائد سفينة حربية استطاع مناورة طائرة إسرائيلية حتى نجا بسفينته، وذكر أن من المشاهد المتكررة في نكبة 1967 أن ترى اثنين من الجنود يقاتلون ويصمدون في موقعهم أمام هجوم الدبابات والطائرات حتى ينالون الشهادة ولا يستسلمون!

إلا أن هذه الطاقات أبيدت وانتهت بسبب السياسة، فعبد الناصر الذي دفع بالأمور إلى حرب 1967 هو نفسه الذي قال –كما روى الشيخ أحمد ياسين- في خطبة أمام المجلس التشريعي الفلسطيني في مصر: "اللي بيقول لكم عنده مخطط لتحرير فلسطين بيكذب عليكم، وأنا قلت.. وأنا بأقول لكم.. إن قلت لكم عندي مخطط لتحرير فلسطين بأكذب عليكم"، وكان يرد بهذا على الملك حسين الذي قال: "لابد من مخطط عربي شامل ومدروس لتحرير فلسطين".

ثم يعَلِّق الشيخ على هذا بقوله: "طيب أنت اليوم قبل سنتين بتقول ما عنديش مخطط، وبعد سنتين صار مخطط وتواجه إسرائيل وبتجيب جيشك في سيناء، هو مش مستعد للمعركة، فالحقيقة يعني كان دخول غير مرتب، غير مستعد، غير مهيأ للمواجهة، وكانت النكبة زي ما أنت شفت يعني فادحة خالص، شفت في ست أيام تنتهي كل القوات اللي دخلت سيناء، كل الدبابات كل الإمكانات مش موجود، يعني يمكن كان عندنا من مقاتلينا اتنين تلاتة في بيت.. بيت!! بيهاجموه بالدبابات وبالصواريخ، بيقعدوا 24 ساعة.. و 48 ساعة مش مِسَلِّمين إلهم".

(3) مواجهة الاحتلال

يروي الشيخ أن الاحتلال يبدأ في محاربة الناس بالحرب النفسية، وذكر أن الإسرائيليين قبل دخولهم إلى مكان يطلقون المنشورات التي تقول "سلِّم تسلم"، وقال بأنهم جمعوا الناس يوما في الساحة وقالوا: "سلموا أسلحتكم، ونحن سنفتش البيوت، والبيت الذي نجد فيه سلاحا سنهدمه". ثم دخلوا بيتين وفجروا فيهما قنبلتين صغيرتين، ففجروهما، فهدموهما، فلما رأى الناس هذا خافوا وأحضروا أسلحتهم وسلموها.

ويشير الشيخ إلى أن الاحتلال يريد أن يعامل الناس فرادى لا جماعات ولا في كُتَل، وبهذا يسهل له السيطرة عليهم.
وكان من عبقرية الشيخ رحمه الله أنه يحول المطاردين إلى عبء على المحتل، فيذكر أن واحدا من تلاميذه كان مطاردا فكان يقول له: أنت مطارد لم لا تعمل كل يوم عملية؟! فقال الشاب: ليس معي إلا هذه القنبلة! وفعلا حاصروه في مستشفى الشفا وجرت بينهما مواجهة فألقاها عليهم فقتلوه ومنعوا الإسعاف حتى استشهد نزفًا!

السؤال الآن: ترى لو كنا فقهنا دروس الشيخ هذه، هل كان ليحدث الانقلاب في مصر بهذه الصورة، وهل كان بالإمكان أن يحدث في رابعة ما جرى؟!

على كل حال، انتهت مساحة المقال ولم تنته الدروس، وإن شاء الله تعالى نكمل في المقال القادم خلاصة الشيخ في تأسيس حركة المقاومة وفي التعامل مع السلطة العميلة وفي التعامل مع عملاء الاحتلال.

نشر في ساسة بوست




[1] الطرير: عظيم الجسم، بُغاث الطير: أي الطيور الأليفة، البُزاة: جمع بازي من طائفة الطيور الجارحة، مقلاة نزور: قليلة البيض.
والمعنى: أن عظمة النفوس لا علاقة لها بالأجساد، فقد يحتوي النحيف على قلب أسد هصور، ويحتوي السمين على قلب جبان ضعيف، كما تطول أعناق البط والأوز فيما تقصر أعناق الصقور، وكما تكثر فراخ الدجاج والحشرات وتقل فراخ الصقور، وهذه الجمال عظيمة الأجساد لكن يتحكم فيها الإنسان البسيط فيقيمها ويقعدها بالضرب وهي لا تستنكر ولا تقاوم.