الجمعة، مارس 03، 2017

تمهيد السيسي لإسرائيل الكبرى

حتى لحظة كتابة هذه السطور، لم يصدق السيسي في مشروع واحد أعلن عن إنشائه إلا مشروع "قناة السويس الجديدة"، فإنه المشروع الوحيد الذي أُنْجِز في وقته بغض النظر عن الكلفة الهائلة التي يدفعها اقتصاد متحطم دون عائد متوقع. وفي ذلك الوقت نشرنا عدة مقالات[1] تبيِّن بالأدلة التاريخية والعملية أن هذا المشروع لا يصب إلا في صالح إسرائيل، وأن هدفه جيوسياسي واستراتيجي ولا علاقة له بالعائد الاقتصادي الذي جرى تسويقه للاستهلاك المحلي الإعلامي في مصر.

أخطر ما في مشروع قناة السويس هو أنه يُضاعف العازل المائي الذي يقطع الصلة بين سيناء وبين مصر، ذلك أن قناة السويس –وهي مشروع استعماري رفضه سائر من حكموا مصر قبل سعيد باشا- تمثل منذ أن حُفِرت نكبة سياسية وكارثة عسكرية وأزمة اقتصادية، ولولا القناة لما استطاعت إسرائيل أن تحتل سيناء عام 1967، إذ وفرت لها القناة حماية جغرافية جعلها لا تحتاج إلا لإنشاء ساتر ترابي وخط دفاعي على شاطئ القناة الغربي، وكانت الإنجاز العسكري المطلوب هو "عبور القناة"!

وإذا حكم مصر نظام وطني فلن يكون أمامه سوى حل من اثنين، إما أن يضاعف الوجود البشري الاقتصادي حول القناة مع تكثير الطرق والأنفاق وتعمير سيناء (وهو مشروع مرسي)، أو ردم القناة وإزالتها بالكليِّة ليعود اتصال الأرض المصرية وتنتهي سلسلة الأزمات التي تسببت فيها القناة منذ حُفرِت على تلك اللحظة.

إلا أن النُظُم التي حكمت مصر منذ تلك اللحظة حتى الآن لا يتصف واحد فيها بصفة الوطنية[2]، بل هي الأنظمة التي مهَّدت لإقامة إسرائيل ولتوسعها، حتى اللحظة التي بدا فيها أن حربا نشبت بين مصر وإسرائيل لم تكن في الحقيقة سوى تمهيد لإدخال إسرائيل من بوابة السلام، أو كما اختصر القصة المؤرخ الأمريكي لابيدوس بقوله: "إنهاء الصراع مع إسرائيل تطلب حربا أخيرة لإضفاء الشرعية على نظام السادات في 1973، قامت مصر بمباغتة القوات الإسرائيلية عن طريق الهجوم عبر قناة السويس وكسب المعارك الأولى من الحرب. ردَّت إسرائيل بهجوم معاكس متوغلة في عمق الأراضي المصرية، ولكن الولايات المتحدة تدخلت لوقف التقدم الإسرائيلي وترتيب نوع من الهدنة. استطاع السادات كسر أسطورة استحالة قهر إسرائيل، وادعاء نوع من الانتصار المعنوي في الحرب، وصولا إلى تدبيج خطاب ملحمي في البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) في القدس، عارضا السلم على إسرائيل باسم مصر"[3]. وهكذا جرى الخروج العسكري من سيناء ليبدأ الدخول الكامل إلى قلب القاهرة.

قبل أيام سرَّبت إسرائيل خبر لقاء رباعي جرى بين نتنياهو والسيسي وعبد الله بن الحسين وجون كيري، ولم يُعرف ما الذي جرى فيه، إلا أن بعض المصادر[4] أشارت إلى ترتيب تطبيع عربي موسع، تُعطي فيه إسرائيل بوادر إيجابية تجاه مبادرة السلام العربية ليكون ذلك مدخلا لعلاقات علنية مع السعودية وباقي الدول العربية غير ذات العلاقة العلنية بإسرائيل، وهو أمر دُبِّر بليل قبل فترة وبدأ يظهر للعلن مع لقاءات مسؤولين سعوديين بإسرائيليين، ثم مع دخول السعودية –عبر شراء جزيرتي تيران وصنافير من نظام العسكر المصري- إلى نطاق كامب ديفيد وتفاهماته الأمنية في لقاء تسرَّب أيضا عن محمد بن سلمان ومسؤولين إسرائيليين برعاية أردنية، وقد تأكد الحضور الإسرائيلي في اتفاقية تيران وصنافير من خلال التسريب الصوتي لمكالمة وزير الخارجية المصري مع المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية وفيها كانا يراجعان بنود الاتفاقية لضمان حصولها على الموافقة الإسرائيلية.

وعلى الجهة المصرية، فنظام السيسي منذ بداية الانقلاب العسكري لا يبخل في اتخاذ الإجراءات التي تجعل من سيناء هدية مجانية تستلمها إسرائيل، ويبدو من متابعة خط سير القوانين والترتيبات أن التعامل مع سيناء يمثل مشروعا لدى النظام العسكري؛ فعلى المستوى الاقتصادي: قد صدرت العديد من القوانين التي تسمح للأجانب بالتملك والشراء في سيناء، فضلا عن معاملة شخصيات بعينها معاملة المصريين في نفس إطار التملك، وجرى منع الدخول إلى سيناء إلا عبر إذن مسبق ولشرائح بعينها تقيم أو تعمل في سيناء (مع العلم أن دخول سيناء بالنسبة للإسرائيليين يحصل بدون تأشيرة، أي أن سيناء في الواقع جزءا من الأرض الإسرائيلية أكثر منها جزءا من الأرض المصرية).

وعلى المستوى العسكري جرى إزالة مدينة رفح الملاصقة لقطاع غزة، وتهجير آلاف الأسر وهدم بيوتهم دون اتخاذ أي خطوات لتوفير بديل لهم، بالإضافة إلى شنِّ الحملة العسكرية الشاملة التي استعملت فيها سائر وسائل القمع والتنكيل والقتل والتعذيب والعقاب الجماعي، ومع ذلك جرى تتبع الأنفاق الواصلة بين قطاع غزة ورفح التي تمثل الشريان الوحيد للحياة مع الإغلاق المستمر لمعبر رفح. وخاضت القوات المصرية معارك بمساندة الطائرات الإسرائيلية، فضلا عن التدخل الإسرائيلي المباشر ضد المجموعات المسلحة. وهذا كله هو المُعلن الذي يمثل ذروة جبل الجليد.

وقد ترافق كل هذا مع حملات أمنية موسعة وحملات إعلامية شرسة وصلت إلى حد التحريض صراحة على جعل سيناء معسكر اعتقال كبير لا يدخل إليه ولا يخرج منه أحد!

وفي الأيام القليلة الماضية طرأ تحول جديد على الساحة، بالتحول اللافت للنظر الذي طرأ على "ولاية سيناء"، وهم مجموعات جهادية قديمة التواجد ولم يكن لها اتصال لا بفكر ولا تنظيم "الدولة الإسلامية" كما ظهر في العراق والشام، ثم بدأ التحول في خطابهم تدريجيا نحو هذا الفكر في إصداراتهم الإعلامية حيث وُصِف الإخوان المسلمون وبعض رموزهم بالمرتدين، ثم انتقل هذا إلى التصرف العملي بإجراءات مثل فرض النقاب والتعدي على الأقباط في سيناء ما دفع إلى نزوح بعض الأسر من هناك، وهو الأمر الذي عملت عليه الآلة الإعلامية مع النسيان التام لآلاف الأسر المهجرة من رفح!

وهكذا يكون التحول قد اكتمل نحو صورة تنظيم الدولة الإسلامية كما هو في العراق والشام، وهو ما يتجلَّى في صورة تكررت كثيرا من اختراق الحركات الجهادية وتحولها نحو خدمة أهداف العاملين على الساحة، فمنذ الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر مرورا بالعراق ثم بالعراق وسوريا، تحولت الطاقة الجهادية بعد الاختراق الاستخباري إلى أداة تنفيذية في رسم الخرائط الجديدة. ذلك أن تحول الطاقة الجهادية من حركة مقاومة استبداد أو احتلال إلى حركة إقامة ولاية تمارس أحكام الإمارة والإمامة كان دائما اللحظة التي يتحول فيها اتجاه الحركة من العدو المباشر إلى الأمة، ويجري التغطية على سائر الإشكالات الشرعية التي تشترط وجود تمكن قبل إجراء هذه الأحكام، بل حتى حين يوجد التمكن فلا بد في تطبيق هذا من التدرج. كذلك فإن مسألة إقامة الدولة من الأمور التي شهدت مراجعات قوية لدى منظري الحركات الجهادية، مع اتضاح عبء إدارة الشأن المدني مع إدارة المعركة العسكرية، وهي مراجعات مشهورة.

تكرار هذه التجربة بحذافيرها يحمل على التنبه لهذا العنصر الاختراقي، الذي يبدو أنه وصل إلى "ولاية سيناء"، وهو العنصر الذي سيعمل عمله نحو تصفية الحاضنة الشعبية، ومضاعفة الغلو، والذي سيترافق مع توسيع الهيمنة العسكرية والأمنية الإسرائيلية المباشرة والعلنية، فيكون هذا هو الحجر الأخير أو قبل الأخير في إعادة الاجتياح الإسرائيلي لسيناء مرة أخرى. وساعتئذ ستجد إسرائيل مضيقا خالصا لها في خليج العقبة، وتجد عازلا مائيا مضاعفا عند قناة السويس، فيكتمل بهذا مشروع السيسي ونظامه العسكري عبر مساعدة مهمة قدمتها له "ولاية سيناء"!

لقد سجل التاريخ أسماء كثيرة قدَّمت خدمات عظمى لقيام إسرائيل، طائفة كبيرة منهم محسوبين على العرب والمسلمين من الحكام والساسة والعسكر، إلا أن السيسي سيحظى إلى جوارهم بمكانة متميزة، فإنه قد غيَّر الخريطة الجغرافية لصالح حماية إسرائيل، وتغيير الجغرافيا هذا عملٌ تهلك أجيال قبل أن تتمكن من تصحيحه.

سيكتب التاريخ أن العسكر المصري كان أهم وسيلة لإقامة إسرائيل وتوسعها، منذ اللحظة التي دخل فيها الجنرال الإنجليزي ألنبي إلى القدس مع قوة عسكرية مصرية، إلى لحظة الفشل والهزيمة المرّة واعتقال المجاهدين في نكبة 48، إلى لحظة النكبة العظمى 1967 والتي توسعت فيها إسرائيل بأضعاف مساحتها في ساعات، إلى لحظة التطبيع وتسليم مفاتيح البلاد لإسرائيل، إلى لحظة السيسي وعمله الدائب في التمكين للهمينة الإسرائيلية.





[2] راجع مقال: قصة النفوذ الأجنبي في مصر الجزء الأول، الجزء الثاني
[3] إيرا م. لابيدوس، تاريخ المجتمعات الإسلامية، ترجمة: فاضل جكتر، (بيروت: دار الكتاب العربي، 2011م)، 2/859.
[4] تقرير محمد أبو سعدة، اجتماع العقبة السري: لماذا الإعلان الآن؟، المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، بتاريخ 26 فبراير 2017م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق