الخميس، مارس 09، 2017

صدمة الغربيين من فروسية صلاح الدين

ذكرنا في مقالات سابقة (انظر: هنا، وهنا) أنه ما من شخصية استأثرت بإعجاب الأعداء كما كانت شخصية السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي، وقد تنوعت جوانب الإعجاب به، إلا أن فروسية صلاح الدين كانت الصفة التي بلغت بها شهرته الكبرى ووضعته في ذلك المحل الأرفع، وأثارت حوله الأساطير والخرافات في الآداب الأوروبية، يقول الباحث الأمريكي مايكل مورجان: "فترة الاضطراب هذه سوف تساعد على ظهور قائد مسلم، وهو رجل شديد التدين لن يتمتع بفكر مثل هارون الرشيد والمأمون، ولا الحاكم في القاهرة، أو عبد الرحمن الثالث [الناصر] في قرطبة، إلا أنه سيجسد نوعا من شرف الفروسية الإسلامية سيكون مثار انبهار الأوربيين، بل وسيدفعهم نبله هذا إلى العديد من المواقف المحرجة، فما كان منهم إلا التماس أن السبب وراء أخلاقه الرفيعة والكريمة ما هو إلا لأن لديه دماء أوربية تجري في عروقه، هذا الرجل هو صلاح الدين، ومثل هارون الرشيد، تجد القصص التي تحيط به لها طابع رومانسي وأسطوري، لكن رقيه الأساسي وحكمه الإنساني في الأمور المستفزة هو حقيقي ويقتدى به"[1].

لقد مثلت أخلاق صلاح الدين مثالا عاليا ونموذجا فارقا حوكمت إليه أخلاق الفرسان العرب والأوروبيين على نحو سواء في كل زمن الحروب الصليبية. يقول ول ديورانت: "لقد أجمعت الآراء على أن صلاح الدين كان أنبل من اشترك في الحروب الصليبية"[2].

ولهذا يسوق المؤرخون الغربيون مشهده بعد تحريره القدس فيتفننون في وصفه على هذا النحو:

1. يقول الكولونيل البريطاني الذي اتجه في نهاية عمره لدراسة الإسلام وتأثر بالمسلمين وأعجب بأسلوب حياتهم وقيمهم، يقول واصفا هذا المشهد: "لما غزا الصليبيون الأرض المقدسة سنة (1099م)، خلفوا وراءهم في كل مكان الموت والدمار، بيد أنه لما رد صلاح الدين الصليبيين على أعقابهم، لم يلجأ إلى وسائل الانتقام، ولم يخرب المسلمون الأماكن التي فتحوها، كما فعل المقاتلون الدينيون السابقون لهم من الممالك الأخرى، فأينما وضعوا أرجلهم نشأ شيء جديد أسمى وأفضل مما كان قبلا"[3].

2. ويقول المستشرق الفرنسي المشهور جوستاف لوبون: "لم يشأ السلطان صلاح الدين أن يفعل في الصليبيين مثل ما فعله الصليبيون الأولون من ضروب التوحش، فيبيد النصارى عن بكرة أبيهم؛ فقد اكتفى بفرض جزية طفيفة عليهم مانعا سلب شيء منهم"[4].

3. وتقول المستشرقة الألمانية المعروفة زيجريد هونكه: "حين تمكن صلاح الدين الأيوبي من استرداد بيت المقدس (583هـ = 1187م) -التي كان الصليبيون قد انتزعوها من قبل (492هـ = 1099م) بعد أن سفكوا دماء أهلها في مذبحة لا تدانيها مذبحة وحشية وقسوة- فإنه لم يسفك دم سكانها من النصارى انتقاما لسفك دم المسلمين، بل إنه شملهم بمروءته، وأسبغ عليهم من جوده ورحمته، ضاربا المثل في التخلق بروح الفروسية العالية، وعلى العكس من المسلمين، لم تعرف الفروسية النصرانية أي التزام خلقي تجاه كلمة الشرف أو الأسرى"[5].

4. ويقول "إن الصليبيين ادعوا أن العرب المسلمين المشارقة كانوا قساة متوحشين في جوهرهم على نحو لا مثيل له، حتى على الرغم من أن المجازر الرهيبة التي ارتكبت في القدس والقسطنطينية وجزيرة قبرص، ما فتئت تشكل نقيضا صارخا لتاريخ الفتوحات الإسلامية في تلك الحقبة. فقبل أربعمائة سنة من إغراق الصليبيين القدس في الدماء، لم يأمر الخليفة عمر بقتل أحد عندما تولى أمر المدينة...  وفي وقت لاحق، عندما استرد القائد الإسلامي الشهير صلاح الدين القدس من الصليبيين في عام 1187، اقتدى بعمر وحذا حذوه، فلم يكتف بالسماح للبطريرك المسيحي بمغادرة المدينة مع أتباعه، بل سمح لهم إلى ذلك بحمل ثرواتهم معهم"[6].

وقد آتت أخلاق صلاح الدين ثمارها في حياته منذ وقت مبكر، يرصدها المستشرق الإنجليزي الكبير توماس أرنولد في قوله: "يظهر أن أخلاق صلاح الدين الأيوبي وحياته التي انطوت على البطولة، قد أحدثت في أذهان المسيحيين في عصره تأثيرا سحريا خاصا، حتى إن نفرا من الفرسان المسيحيين قد بلغ من قوة انجذابهم إليه أن هجروا ديانتهم المسيحية، وهجروا قومهم وانضموا إلى المسلمين"[7].

وقد شهد وليم الصوري –رئيس أساقفة صور وهو معاصر لزمن صلاح الدين- أنه كان "رجلا حاد الذكاء نشيطا وشجاعا في الحرب وفي غاية الشهامة والكرم"[8]. وفي الحقيقة إن رواية الصوري حافلة بالأخطاء عما يقع بالجانب الإسلامي، ولكنه برغم هذا فإن وصفه لصلاح الدين دليل على ما تمتع به السلطان من سمعة رفيعة.




[1] مايكل ه مورجان، تاريخ ضائع: التراث الخالد لعلماء الإسلام ومفكريه وفنانيه، ترجمة: أميرة نبيه بدوي، ط3 (القاهرة: مكتبة نهضة مصر، 2008م)، ص268.
[2] ول ديورانت، قصة الحضارة، مرجع سابق، 13/141
[3] رونالد ف بودلي، الرسول: حياة محمد، ترجمة محمد محمد فرج وعبد الحميد جودة السحار، (القاهرة: مكتبة مصر، بدون تاريخ)، ص147.
[4] جوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000م)، ص329.
[5] زيجريد هونكه، الله ليس كذلك، ترجمة د. غريب محمد غريب، ط2 (القاهرة: دار الشروق، 1996م)، ص34.
[6] جون فيفر، الحرب الصليبية الثانية: حرب الغرب المستعرة مجددا ضد الإسلام، ترجمة: محمد هيثم نشواتي، (الدوحة: منتدى العلاقات العربية والدولية، 2015م)، ص43.
[7] توماس أرنولد، الدعوة إلى الإسلام، مرجع سابق، ص111.
[8] وليم الصوري، تاريخ الأعمال المنجزة فيما وراء البحار، ضمن: سهيل زكار، الموسوعة الشاملة في الحروب الصليبية، (دمشق: دار الفكر، 1995م)، 7/327.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق