الأربعاء، مايو 03، 2017

لذة الشفاء

جاء أمر النبي للمسلمين بالتجهز لغزو الروم في وقت شديد الحرج، في حر الصيف قُبيل موسم الحصاد، فكان اختبارا شديدا كشف معادن الناس ورسب فيه أغلب المنافقين، ورغَّب النبي في النفقة لتجهيز الجيش فكان يوما من أيام عثمان بن عفان، وفيه جاء عمر بنصف ماله، ثم جاء أبو بكر بماله كله.

ثمة فئة أخرى من المسلمين كشفت عنهم هذه الغزوة، أولئك الذين لا يملكون شيئا من المال، فكان الواحد منهم يأتي ببعض التمرات ليضعها في مؤونة الجيش، وبعضهم لم يجد شيئا تصدق به فدعا الله أنه قد تصدق بعرضه على المسلمين فعفا عمن أساء إليه يوما، وآخرون وقفوا أمام النبي ينتظرون أن يكونوا في الجيش فأخبرهم النبي أنه لا يجد من الخيل والإبل ما يحملهم عليه، فانهار بهذا أملهم في الجهاد، فعادوا (وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون).

بعد انتهاء الغزوة قال النبي لصحابته "إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا، إلا كانوا معكم، شاركوكم الأجر". قالوا: وهم بالمدينة؟! قال: "حبسهم العذر".

لكم مررتُ على مواقف في السيرة والتاريخ، إلا أني لم أفهمها بحق، إلا حين تكررت أمثالها أمامي في الواقع.. ما الذي دعا أولئك لهذا البكاء المرير؟ ربما أفهم أن يحزنوا أو يتأسفوا أو نحوا من هذا الشعور بالأسى، أما أن يكون وصفهم كما في القرآن (تولوا وأعينهم تفيض من الدمع)، فهذا الذي لم أفهمه إلا بعد المرور ببعض التجارب.. أضع بين أيديكم بعضها.

(1) الطلقة الأولى كالقبلة الأولى

حين انهار الجدار الفاصل بين رفح وغزة في مطلع عام 2008، استطاع صديقي أن يعبر إلى غزة ضمن أيام الارتباك التي وقعت هناك، وسجل في أوراقه هذه الذكريات التي أتيح لي الاطلاع عليها:

"رأيت الكلاشينكوف لأول مرة بيد أحد مجاهدي القسام، لاحظ الرجل عيني وهي تلتمع كأنني عطش الحلق أمام ماء بارد، ابتسم ودفع بها إلي لأحملها، كأم فقدت الأمل أن يكون لها ولد، حملت الرشاش بين ذراعي، سمعع الرجل دقات قلبي المتسارعة وقال بلهجة فلسطنية: "جاهز.. تضرب لك شي رصاصتين". ضغطت على الزناد وتخيلت كل الأعداء أمامي قد جسدتهم تلك العبوة الفارغة القائمة فوق الصخرة أمامنا، تخيلت عصابات إسرائيل واليهود وما استباحوا من أرضنا.. جيوش أمريكا وكتائب الروس وما سفكت من دمائنا.. الصرب وما هتكوا من أعراضنا.. تخيلت الإنجليز والفرنسيين وما شوهوا من مجتمعاتنا... أطلقت الرصاصة الأولى.. رجعت لأصدقائي وأخبرتهم أن الطلقة الأولى كانت أشبه بالقبلة الأولى".

صديقي هذا لم يكن متزوجا، وإنما جرى في هذا التشبيه على عادة العرب في التشبيه بالمجهول، كتشبيه امرئ القيس بأنياب الغول، ومنه قول الله تعالى عن شجرة الزقوم (طلعها كأنه رؤوس الشياطين).

وإنما كان الشوق لإفراغ ما في الصدر من كبت وغيظ وألم طويل كشوق الشاب الفتى لإفراغ شوقه الطويل عند ثغر محبوبته!

هنا انتبهت لمعنى أدركه لأول مرة، أن الله تعالى لم يذكر (شفاء الصدور) إلا في موضعين فقط من كتابه، الأولى في شأن الجهاد عند قوله تعالى (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويُخْزِهم وينصركم عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم). والثانية في شأن القرآن نفسه (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور).

(2) غاز الدموع في مصر وغاز السارين في سوريا

غداة قصف بشار خان شيخون بغاز السارين، كتب أبو الفتح الفرغلي، وهو من الشرعيين بحركة أحرار الشام سابقا ثم الآن بهيئة تحرير الشام، هذه الأسطر تحت عنوان "بين سبيليْن"، قال:

"أي مقارنة بسيطة بين مجزرتي  فض رابعة والنهضة في مصر وما سبقهما وتلاهما من مجازر، وبين مجزرة خان شيخون أمس يتضح مباشرة الفارق بين السبيلين:

بعد مجزرة  أمس التي قتل فيها قرابة المئة من أطفال ونساء المسلمين انتقم المجاهدون وشفوا صدور قوم مؤمنين بقتل أكثر من 160 من جنود وشبيحة أعداء الدين (الأرقام وثقتها بنفسي من شهود العيان) وبفتح ضيعة استراتيجية وبمغانم كثيرة فعادت العزة والرفعة لأنفس المسلمين.

في مجازر مصر لم يكن الرد إلا مزيدا من السلمية وكانت النتيجة مزيدا من الذل والمهانة والضحايا والخسارة على جميع الأصعدة، حتى قُضِيَ (أو كاد) على روح الجهاد تماما. وكنت أرى الذل والانكسار في وجوه المسلمين بعد كل مجزرة، وانتشاء أعداء الدين. أما في خان شيخون فأرى العز وشفاء الصدور وانكسار أعداء الدين.

لقد أصبت بالغازات المسيلة للدموع في مجازر مصر وكان أثرها بسيطا ينتهي بعد حوالي ساعة من استنشاقها لكن كانت تترك في القلب آثارا مضاعفة من الحزن والهم وضيق النفس تستمر أسابيع حتى تتجدد بمجزرة أخرى. أما هنا فمازلت أعاني من آثار غاز السارين بعد 24 ساعة من التعرض له، لكن في نفسي من العزة والبشر والسرور ما لا يعلم به إلا الله، عزة رأيتها بعيني في وجود المجاهدين الأبطال الذين نكلوا بأعداء الدين في معردس" انتهى كلامه!

والواقع أن الجرح المفتوح في رابعة والنهضة ورمسيس وغيرها من المذابح ليس جرح القتل فقط! بل هو جرح العجز والهوان، وهو والله أكثر مرارة وقسوة.. فأقسى من منظر الدماء المسفوحة من الأجساد الطاهرة أن تشاهد إعلاميا يشمت في الدماء ويتلمظ متلذذا لسفك وشرب المزيد، أو مطالعة صورة لضابط يستعرض عضلاته وسلاحه فوق الجثة الساكنة أو أمام المسجد المحروق، أو رؤية منشور على الفيس بوك لشرطي يفخر بالقتل وهتك عرض النساء!
هو شعور لا يوصف، لكن حسبي أن كثيرا من قراء هذه السطور يعرفونه ويذوقونه!

(3)

ربما لهذا قال سيد فرسان المسلمين خالد بن الوليد: "ما ليلة يهدي إليّ فيها عروس أنا لها محب، أو أُبَشّر فيها بغلام أحبَ إلي من ليلة شديدة الجليد في سريّة من المهاجرين أُصَبِّح بها العدو".

فالواقع أن شفاء الصدور لا تعدلها لذة..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق