الثلاثاء، مارس 10، 2015

لماذا علم الاستغراب؟ - الدعوة

اقرأ أولا:

إن الدعوة إلى الله من صميم واجبات الأمة الإسلامية، وإن القيام بهذا الواجب يقتضي العلم بأمة الدعوة وأحوالها وما هي عليه من أفكار وما لديها من نظم سياسية واقتصادية واجتماعية.

وهذا العلم هو البديل الإسلامي للوهم الغربي المسمى بـ "الحياد العلمي"، إذ ليس ثمة إنسان يمكنه أن يكون محايدا، لا سيما إن كان موضوع الدراسة موضوعا إنسانيا، فكيف إذا كان الموضوع مما قد يصطدم مباشرة بأفكار الباحث الذي تكونت نفسيته وشخصيته وثقافته في ظل مناخ حضاري وثقافي؟! كيف لمثل هذا أن يدعي أنه محايدٌ؟!

والعلم الذي يترتب عليه واجب الدعوة أقوى وأعمق حتى من فكرة "الموضوعية"، فهما وإن اشتركا في ضرورة التوثق من كل معلومة والفحص لكل ظاهرة، إلا أن العلم الذي يترتب عليه دعوة هو بحثٌ تلهبه روح الدعوة وتحركه حماسة الداعية، فهو أعمق من الرصد والفحص والتسجيل لأنه يبتغي الفهم والوصول إلى أعماق الظواهر ابتغاء الإمساك بمفاتيح الموضوع وأصوله لأنها ستكون ركائز عملية الدعوة في الخطوة التالية.

ولا ريب أن الفهم العميق لأمة الدعوة مع اتخاذ موقف من هذه الأفكار هو أمر ممكن إنسانيا، بخلاف محاولة الخروج من كل موقف مسبق والانسلاخ عن كل فكرة قبل الدخول إلى البحث لتحقيق هدف "الحيادية"، وسنأتي إلى هذه النقطة بمزيد تفصيل في الباب القادم.

إن مما يلفت النظر ويثير التأمل أن الجزء الأول من القرآن الكريم كان حديثا مطولا عن أعداء الأمة من المنافقين واليهود والمشركين، وذلك أن الدعوة تحتاج إلى هذه البصيرة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].

إنه لا مناص من دراسة معمقة للغرب نعرف منها مداخل الدعوة إليه، وما الذي يثير أشواق الناس، أو يكدر حياتهم، ما أحلامهم وما همومهم، وبهذا وحده نستطيع أن نقدم الإسلام بالوجه المناسب.

إن الدعوة إلى الزهد لها رنين خاص في مجتمع فوجئ بأنه لم يصل إلى الراحة مع التقدم التقني، بل على العكس وصل إلى اللهاث، "لم ينتج عن هذا زيادة التحكم في الذات الإنسانية أو في الواقع الموضوع بل على العكس، فمع ظهور الإنسان الطبيعي (المادي) وتحديد المنفعة واللذة باعتبارهما الهدف الأساسي للوجود الإنساني، ترجم هذا نفسه إلى الاستهلاكية، وتصور أن مزيدا من السلع فيه مزيد من المنفعة واللذة، وقد تسارعت وتائر هذه الاستهلاكية تسارعا مذهلا، وبعد أن كانت الحاجة هي أم الاختراع أصبح الاختراع هو الذي يولد الحاجة، فوجد الإنسان نفسه محاطا بسلع وأجهزة ليس متأكدا تماما أنه يريدها والسلعة مثل المادة شيء يتحرك بلا هدف أو غاية، وبدأ الإنسان يشعر أنه لم يعد يملك من أمره شيئا وأنه يدخل في بحث لا ينتهي عن هدف لم يحدده في عالم ليس من صنعه تتراكم فيه سلع لا يريدها"[1]، ويكاد كل من تكلم في تفسير انتشار البوذية في الغرب أن يُرجع هذا -في بعض وجوهه على الأقل- إلى الشوق إلى الروحانية التي تتألق تحت ضغط المادية العنيفة[2].

وإن بيان حال المرأة في الإسلام وما أوجبه على زوجها أو أبيها من النفقة عليها له رنين خاص في مجتمع يشهد عودة المرأة إلى بيتها وعزوفها عن المشاركة في الرأي العام، ومن ثَمَّ تراجع الإقبال على دور الحضانة، وقد علقت صحيفة التايم البريطانية على هذا بأن النساء استسلموا ودخلوا المطابخ[3].

إن أهل الإسلام يجب أن يكونوا حاضرين في لحظة تشهد موجة العودة إلى الدين في الغرب، وهي الظاهرة التي تشمل العالم كله[4] ويسميها المفكر الفرنسي جيل كيبل "ثأر الله"، إذ إن الصحوة الدينية قد "انتشرت في كل قارة وكل حضارة وكل دولة في الواقع"، وخلاصتها أن "التوجه نحو العلمنة ونحو تكييف الدين مع العلمانية أخذ وجهة معاكسة، ظهر توجه ديني جديد لم يعد يهدف إلى التكيف مع القيم العلمانية وإنما إلى استعادة أساس مقدس لتنظيم المجتمع، وعن طريق تغييره إذا لزم الأمر"[5]. وفي أمريكا نفسها -منذ ريجان وحتى الآن- ثمة اتفاق بين الكتاب على موجة الرجوع إلى الدين والنفور من الإلحاد والإباحية وتدني الأخلاق[6] وقد سجل د. مازن مطبقاني في كتابه "رحلاتي إلى بلاد الإنجليز"[7] عددا من الظواهر التي ينبغي ألا تفلت من صاحب رسالة، أهمها ما يُكتب في الصحافة البريطانية عن حاجة بريطانيا إلى الإسلام[8] أو المعاناة من شيوع الخمر[9]، ومنها النقاشات المطروحة على المجتمع الغربي عن عقوبة القصاص ودوافع تأييدها أو رفضها[10].

إن الوقت يبدو مناسبا لاستقبال الإسلام في ظل انطفاء بريق الفلسفات، إذ ليس ثمة فلسفة لها ذات البريق القديم، بل إن أزمة هوية تبدو واضحة في الكتابات الغربية، كما يبدو واضحا ذلك القلق والخوف من المستقبل، حتى لتشيع الكتب ذات العناوين الموحية "سقوط الغرب"، "انتحار الغرب"، "موت الغرب"... إلخ.

في كتاب "انتحار الغرب" لخص المؤلفان دوافع التأليف في هذه الفقرة التي تشير إلى عمق هذه الأزمة: "أطروحتنا هي أن الفرد الذي يحسن نفسه، والواثق، والمسؤول، والمتجذر تجذرا كاملا في مجتمع ليبرالي مع إحساس بالواجب نحو ذلك المجتمع، هو الفرد الذي يتلاشى الآن تدريجيا، وفي مكان الإيمان لدينا اللا أدرية أو النسبية، وفي مكان التفاؤل لدينا الجبرية، وفي مكان الإحساس بالتقدم لدينا التحذيرات المسبقة، وفي مكان الأحلام لدينا الكوابيس، وفي مكان التوفير لدينا الاستهلاك، وفي مكان الكفاح لدينا العاطفية، وفي مكان المسؤولية نحو الآخرين لدينا الإحساس بكونهم ضحية، وفي مكان المثالية لدينا الارتياب، وفي مكان المعنى والهدف لدينا المال، وفي مكان العقل لدينا العواطف، وفي مكان الجدية لدينا التفاهة والإفراط في اتباع شهوات النفس، وفي مكان نماذج الدور الأصيل لدينا المشاهير الـمُمِلُّون، وفي مكان المجتمع لدينا التشظي"[11].

وليس يتأثر بمثل هذه الحال كما ينبغي أن يتأثر لها صاحب رسالة، وإن أمة الإسلام التي تحمل رسالة إنقاذ الناس وإصلاح الأرض، ينتظرها حمل ثقيل!

وفي مقام الدعوة هذا ينبغي أن نشير إلى أمريْن مهميْن:

أولهما: أن دعوة أهل الغرب يجب أن تقوم على أسس من أهمها دراسة الأسلوب الأنسب في الدخول إلى العقلية والنفسية الغربية، وهنا سنجد أنفسنا ملزمين بالاطلاع على كتب المستشرقين المنصفين أو شبه المنصفين ممن أرادوا تغيير الصورة الذهنية السيئة لدى الغربيين عن الإسلام والمسلمين، فإن ثمة خيطا متينا واصل بين هؤلاء يدركه من أكثر القراءة لهم. فمن هذا نعلم ما يُقال وما حضر أهله وما حان وقته من سائر الكلام.

وثانيهما: أن الحرص على دعوة الغربيين وحب الخير لهم والحرص عليهم وبذل الدعوة لهم، لا ينافي اليقين في أن الغرب سيظل غربا وسيكون مركز العداء للإسلام وطرف الملاحم التي في آخر الزمان، استنادا على ما نعلمه من أحاديث النبي r.
نشر في نون بوست


[1] د. عبد الوهاب المسيري: العلمانية تحت المجهر ص133.
[2] كارين أرمسترونج: سيرة النبي محمد ص15.
[3] د. مازن مطبقاني: رحلاتي إلى بلاد الإنجليز ص78، 79، وهو ينقل عن: أليس مايلز Alice Miles في التايم 2/5/2007م.
[4] كارين أرمسترونج: سيرة النبي محمد ص15 وما بعدها.
[5] صمويل هنتنجتون: صدام الحضارات ص158.
[6] د. مازن مطبقاني: الغرب من الداخل ص65 وما بعدها، ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص81 وما بعدها، وتقدر معظم الاستطلاعات أن حوالي 85% من الأمريكيين يعتنقون عقيدة دينية، و55% يحضرون الطقوس الدينية بانتظام. العربية نت بتاريخ 2/5/2012م.
[7] وهو الكتاب الذي يعدُّ مثالا على الفارق بين عين صاحب الرسالة ويقظته وبين عين الباحث "المحايد" إن صحَّ وجود مثل هذا.
[8] د. مازن مطبقاني: رحلاتي إلى بلاد الإنجليز ص106 وما بعدها.
[9] د. مازن مطبقاني: رحلاتي إلى بلاد الإنجليز ص146 وما بعدها.
[10] د. مازن مطبقاني: رحلاتي إلى بلاد الإنجليز ص84 وما بعدها.
[11] ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص20، 21.

هناك تعليق واحد:

  1. بارك الله بجهودك،فكرة متجذرة ومتجددة

    ردحذف