الثلاثاء، سبتمبر 27، 2016

فجر عصر سيطرة الأتراك في العصر العباسي

ذكرنا في المقالات الماضية كيفبدأ نفوذ الأتراك في بلاط الخلافة العباسية، وكيف كانت لهم إنجازات على الصعيد العسكري مثل القضاء على تمرد بابك الخرمي الخطير الذي ذهب ضحيته ربع مليون مسلم، وفتح عمورية الشهير، ثم ذكرنا كيف اكتشفت مؤامرة في قصر الخلافة العباسي هي أشبه ما يكون بمؤامرات التنظيم الموازي في تركيا المعاصرة، والتي أدت لنهاية القائد التركي اللامعالأفشين.

ثم انتهى عصر المعتصم بالله (الخليفة العباسي الثامن)، وبدأ عصر ابنه الخليفة الواثق بالله..

سار الواثق على خطى أبيه في تقديم الأتراك والاعتماد عليهم، ففي (رمضان 228هـ) خلع الواثق على أشناس الأمير التركي، لقب السلطان، وتَوَّجَه وألبسه وشاحين من جوهر[1]، وبذلك اعترف له بحقوق تعدو نطاق المهام العسكرية الخاصة؛ حتى إذا تُوُفِّيَ الواثق في سنٍّ مبكرة كان وصيف -خَلَف أشناس- قد أمسى من القوة بحيث يستطيع أن يرفع إلى العرش الرجل الذي يرتضيه[2].

والواثق هو الخليفة الذي يمكن للمؤرِّخ أن يحمله مسئولية ما آل إليه حال الأتراك، فإنه طوال فترته «لم يقم بفعاليات عسكرية تذكر، فكان حكمه فترة ركود جعل الترك يشعرون بأهمِّيَّتهم ويتدخَّلون في السياسة، وبدل أن يقف الخليفة ضد هذا الاتجاه ويقصر فعاليتهم على النواحي العسكرية -كما كان يفعل المعتصم- نراه يسهل الطريق لهم بتعيينهم في الإدارة، فاتَّسع مدى نفوذهم، ولعلَّ ضعفه وقلة إدراكه مسئولان عن خطئه الخطير، وهو عدم تعيين ولي عهده بعده، ففتح للترك باب التدخل في آخر مراحل السلطة وهي اختيار الخليفة، فلم يترددوا في استغلال الفرصة؛ بل كانت لهم اليد الطولى في انتخاب المتوكل فكانت هذه سابقة جرت الويلات على العباسيين»[3].

وكان عهد المتوكل كأنه رد فعل على الخلفاء الذين سبقوه، لا سيما المأمون والمعتصم والواثق، وقد كان رد فعل متطرفًا في الاتجاه الآخر.

كان نفوذ الجند الأتراك قد ازداد جدًّا حتى أصبحوا الآمر الناهي في شئون الدولة مهما كبرت؛ حتى مسألة الخلافة كان أمرها بيدهم، وحين مات الواثق كانت رغبة الأتراك في تولية ابنه محمد غير أن سنه الصغيرة وقفت حائلا دون تنفيذ مرادهم، ولعلَّهم خشوا أن يُثير هذا عامة العرب وأهل البلاد إذ سيصير واضحًا أن الخلافة في أيديهم فعليًّا، فربما تهيبوا من هذا الموقف وتداعياته، ومن ثم ذهبوا بالخلافة إلى جعفر المتوكل الذي كان في السادسة والعشرين من عمره مؤملين أن يكون الأمر فعليًّا بيدهم في وجود واجهة مقبولة[4].

وكان أول ما فعله المتوكل أن أمر بإعطاء الشاكرية[5] من الجند راتب ثمانية شهور، بينما أعطى للأتراك أربعة أشهر، وللمغاربة ثلاثة أشهر[6]. فيما يبدو أنها محاولة لتقريب عنصر غير الأتراك إليه.

وعلى عكس ما فعل الواثق من ترك أمر ولاية العهد -أو ربما تَعَلُّمًا من الدرس- فما هي لا شهور حتى ولى المتوكل ابنه محمد المنتصر الحجاز واليمن وعقد له على ذلك كله في رمضان (233هـ)[7]، في خطوة بدت تحاول ترسيخ سلطان العرب، ففي ذلك الوقت كان محمد يبلغ من العمر عشر سنوات فقط، فكأن المتوكل أراد منذ البداية حصار النفوذ غير العربي في الخلافة.

في العام التالي (234هـ)، وذات ليلة سمر وخمرٍ صدرت عن المتوكل إساءات للحاجب التركي إيتاخ[8]، الذي هو أقوى رجال الدولة وأكثرهم حرسًا ونفوذًا، فهمَّ إيتاخ أن يقتل الخليفة، ثم اعتذر إليه المتوكل مُذَكِّرًا إياه بأنه منه في مقام الأب من ابنه والمربي من ربيبه، غير أن هذا الاعتذار ما كان يكفي لطمأنة الخليفة فظل متوجسا من إيتاخ، فأوحى إلى أحد أتباعه أن يقنع إيتاخ بالذهاب إلى الحج هذا العام حتى اقتنع، وبهذا أبعده المتوكل عن حاضرة الخلافة وقتًا جيدًا، ولمزيد من إخفاء ما يدبره له بالغ في إكرامه وجعله الوالي على كل بلدة ينزل بها وأمر الولاة الذين يمر بهم إيتاخ بتعظيمه وإكرامه، وخرج إلى الحج في موكب عظيم، وتولى الحجابة (18 من ذي القعدة 234هـ) القائد التركي وصيف بدلًا عنه[9].

وما كاد يعود إيتاخ إلى سامراء (عاصمة الخلافة في ذلك الوقت) حتى استقبلته هدايا الخليفة في الطريق إليها، ثم وصلته رسالة من إسحاق بن إبراهيم (نائب بغداد) أن الخليفة رأى أن يأتي إلى بغداد أولًا؛ لكي يستقبله وجوه الهاشميين، فما إن دخل إلى بغداد حتى قبض عليه إسحاق بن إبراهيم فحبسه، ثم قُتل داخل سجنه (5 من جمادى الآخرة 235هـ)، وقد علَّق الطبري بعبارة تدل على نفوذ إيتاخ الواسع: "لو لم يؤخذ ببغداد ما قدروا على أخذه ولو دخل إلى سامرا فأراد بأصحابه قتل جميع من خالفه أمكنه ذلك"[10].

وفي آخر هذا العام، وتحديدا (27 من ذي الحجة 235هـ)، أخذ المتوكل العهد من بعده لأولاده الثلاثة وهم: محمد (المنتصر بالله)، ثم محمد (أو الزبير) المعتز (المعتز بالله)، ثم إبراهيم وأعطاه لقب (المؤيد بالله)، وجعل لكلِّ منهم الإشراف على البلاد التي تقع تحت سلطة الخلافة، فالمنتصر بالله كان له الإشراف على مصر والشمال الإفريقي وثغور الشام والعراق وبلاد اليمن والحجاز والعراق وفارس، والمعتز بالله كان له الإشراف على خراسان وما والاها وأرمينية والري وأذربيجان، وأما المؤيد بالله فكان له الإشراف على الجيوش في دمشق وحمص والأردن وفلسطين. فكان الواحد منهم يستنيب الولاة في حكم هذه البلاد ويرجعون إليه، وكانت تُضْرب السِّكَّة (العملة) في البلاد باسم المتولي عليها من أبناء الخليفة[11]. وفي مثل هذه الخطوة محاولة حصار مبكر لنفوذ الأتراك في السلطان على البلاد.
وكان من أهمِّ وأخطر ما قام به المتوكل للخروج بالخلافة من نفوذ الأتراك هو محاولته تغيير عاصمة الخلافة، وقد بدأ هذا بعد شهور قليلة من توليه حين استقرَّ في المدائن (جمادى الأولى 233هـ)، غير أن الأمر لم يكتمل، فكرره مرة أخرى بعدها بعشر سنين حين اتخذ القرار الأجرأ بنقل عاصمة الخلافة إلى دمشق (ذي القعدة 243هـ)، معقل العرب وحاضرة الخلافة الأموية السابقة، وقد وصلها (صفر 244هـ) في موكب عظيم فخم، وبدأ في نقل الدواوين (الوزارات) وبناء القصور له ولحاشيته، غير أن جوَّ دمشق لم يلائمه، فهي أكثر برودة من بغداد وأكثر أمطارا وثلوجا، ثم إن وجوده المفاجئ فيها هو وحاشيته الكبيرة سبب أزمة اقتصادية في دمشق، زاد من تفاقمها شح الغذاء بسبب انقطاع الطرق لما نزل بها من الأمطار والثلوج، فكان طبيعيًّا -والحال هذا- أن يراها غير مناسبة لمقام الخلافة، فعاد إلى سامراء بعد إقامته بدمشق شهرين وعشرة أيام، وعاد الفرح لأهل العراق بعد أن أصابهم خبر انتقال حاضرة الخلافة من بلادهم بحزن شديد[12].

لكن إجراءات المتوكل جميعها ستفشل، وستدخل الخلافة العباسية عصرها الثاني، وهو العصر الذي سماه المؤرخون "عصر سيطرة الترك"، وهو ما نبدأ به في المقالات القادمة إن شاء الله تعالى.

نشر في تركيا بوست



[1] الطبري: تاريخ الطبري 5/ 274.
[2] د. أحمد شلبي: موسوعة التاريخ الإسلامي 3/ 198.
[3] د. عبد العزيز الدوري: دراسات في العصور العباسية المتأخرة ص13.
[4] الطبري: تاريخ الطبري 5/ 293.
[5] الشاكري: الأجير المستخدم، وهو معرب من جاكر. انظر: الفيروزآبادي: القاموس المحيط ص538. والشاكرية هم أحد الفرق العسكرية للدولة العباسية.
[6] الطبري: تاريخ الطبري 5/ 293.
[7] الطبري: تاريخ الطبري 5/ 297، 298.
[8] وأصله عبدٌ من بلاد الخزر التحق بخدمة المعتصم ثم ظهرت منه مواهب القتال والفروسية فارتفعت مكانته في الدولة أيام المعتصم والواثق والمتوكل، وتولى كثيرًا من الأعمال الإدارية المهمة، فهو قائد جيش المغاربة والمسئول عن دار الخلافة، والمسئول عن تنفيذ عقوبات الأسر والحبس. الطبري: تاريخ الطبري 5/ 300.
[9] الطبري: تاريخ الطبري 5/ 300.
[10] الطبري: تاريخ الطبري 5/ 302، 303.
[11] الطبري: تاريخ الطبري 5/ 306 وما بعدها.
[12] الطبري: تاريخ الطبري 5/ 317، 326، 327.

السبت، سبتمبر 24، 2016

في مدح رمسيس الثالث قائد معركة حطين!

أكتب هذه الكلمات وأنا في انتظار الطائرة التي تتجه بي إلى مؤتمر علمي دولي عن "صلاح الدين الأيوبي" يضم ثمانين شخصية علمية عربية وأجنبية، وحين تكون في هذه الأجواء يكون أقسى ما ينزل بك من أحداث أن ينتشر مقطع فيديو للواء أركان حرب نجم الدين محمود، مدير إدارة المتاحف العسكرية المصرية، يفخر فيه بانتصارات الجيش المصري، ومنها (معركة حطين) التي قادها (رمسيس الثالث) وانتصر فيها على (الحيثيين)، ومنها (معركة عين جالوت) التي قادها (صلاح الدين) لتحرير القدس! ومنها (معركة نسيب البحرية) التي قادها إبراهيم باشا الابن الأكبر لمحمد علي![شاهد الفيديو]

هذا الكلام نطق به رجل مهنته تفرض عليه التخصص في التاريخ العسكري المصري، فإذا به يجهل العلم الذي يُدَرَّس للأطفال في المدارس الابتدائية!! وهذا فضلا عن الخطأ الظاهر في معركة نسيب التي لم تكن بحرية بأي حال، بل كانت برية عند على الحدود السورية التركية، مما لا يجعل الخطأ هنا مجرد زلة لسان بل هو جهل فاحش، ولكنه على كل حال أقل من الجهل في صلاح الدين وحطين وعين جالوت!!

وليس الرجل إلا واحدا من طبقة غريبة نكتشفها في مصر يوميا تحمل عنوان "خبير استراتيجي" من العسكريين المتقاعدين، ولهم في كل يوم جديد طريف مثير للسخرية والشفقة والحسرة معا كتصريحات شفيق قبل انتخابات الرئاسة ثم قصة عبد العاطي مخترع جهاز الكفتة ثم تصريحات اللواء محافظ السويس عن الرياح وعن مقاومة الفئران وغيرها مما يستحق أن يُفرد له دراسة خاصة، ثم يأتي على رأس الهرم عبد الفتاح السيسي الذي لم يخجل من أن يقدم نفسه كـ "طبيب الفلاسفة"، في حين أن حصيلته اللغوية وأسلوبه في التعبير يدلان على فقر وضحالة علمية فضلا عن تفكير بسيط محدود مؤسف.

(1) جيوش العدو

وضع المستشرق الأمريكي فيليب حتى (وهو لبناني الأصل) كتابا في تاريخ العرب، هو "تاريخ العرب المطول"، وهو كتاب قيِّم على ما فيه من ملاحظات، وفيليب هذا هو أحد أعمدة الاستشراق الأمريكي، وهو مؤسس قسم الدراسات الشرقية في جامعة برنستون التي هي كهف الاستشراق وقلعته الكبرى منذ نبغ العصر الأمريكي، ثم كلفته الجامعة بوضع مختصر له، فاختصره في "العرب.. تاريخ موجز".

ذكر فيليب حتي في مقدمة الترجمة العربية لكتابه هذا أنه طُبِع ست طبعات خلال عام ونيف، منها طبعة خاصة بالجيش الأمريكي[1]! فالجيوش هناك تقرأ خلاصة ما وصل إليه مفكروها وكبار خبرائها!

ومن يطالع في تاريخ الاستشراق سيجد جملة من المستشرقين الخبراء خدموا في الجيوش الأجنبية، فقدموا لها خلاصات علمية لا تقدر بثمن، (وهذا بخلاف المؤسسات والمجامع العلمية والجواسيس الذين كانت مهمتهم فقط تقديم المعلومات).

ومن بين أشهر هؤلاء المستشرقين: برنارد لويس المستشرق الصهيوني المعروف وصاحب خريطة تقسيم المنطقة العربية حسب الأعراق والطوائف، فقد خدم في الجيش البريطاني بعد أن صار محاضرا في جامعيا في الحرب العالمية الثانية. ومنهم: لوي ماسينيون وهو غني عن التعريف وقد كان مستشار وزارة المستعمرات الفرنسية في شؤون شمال أفريقيا، والراعي الروحي للجمعيَّات التبشيرية الفرنسية في مصر، وخدم بالجيش الفرنسي خمس سنوات في الحرب العالمية الأولى، واشتهر بكتابه عن الحلاج وبحوثه في الفلسفة الإسلامية والتصوف. ومنهم: المستشرق البريطاني أندرسون الذي التقاه الشيخ مصطفى السباعي وسجل أنه "رئيس قسم قوانين الأحوال الشخصية المعمول بها في العالم الإسلامي -في معهد الدراسات الشرقية في جامعة لندن- وهو متخرج من كلية اللاهوت في جامعة كمبردج، وكان من أركان حرب الجيش البريطاني في مصر خلال الحرب العالمية الثانية كما حَدَّثَنِي هو بذلك عن نفسه"[2].

ومنهم من هو أقل شهرة مثل: رونالد فيكتور بودلي، والذي كان برتبة كولونيل في الجيش البريطاني، وعمل في صفوفه في العراق وشرقي الأردن، ثم عمل مستشارا لسلطنة مسقط، وكان أوائل من عَبَروا الربع الخالي، وكشف عن أسراره المجهولة بين عامي (1930 - 1931م)، ولما ترك الخدمة عاش بين عرب الصحراء، وألف عدة كتب أشهرها (الرسول: حياة محمد)، و(رياح الصحراء)، و(صمت الصحراء) وغيرها. ومنهم: هنري دي كاستري، وكان مُقَدِّمًا في الجيش الفرنسي بالجزائر، وقضى زمنا في الشمال الإفريقي، ومن كتبه (الإسلام خواطر وسوانح)، و(مصادر غير منشورة عن تاريخ المغرب)، و(الأشراف السعديون)، و(رحلة هولندي إلى المغرب)، وغيرهما.

وقد ذكر د. مازن مطبقاني، وهو متخصص في الاستشراق وأعد رسالته للدكتوراة عن الاستشراق الأمريكي، أثناء وجوده في أمريكا أنه رأى طلابا مبتعثين من الجيش الأمريكي "لدراسة أحوال الشرق الأوسط الفكرية والسياسية والاجتماعية. وقد درس اللغة العربية مدة ثلاث سنوات"، وعرف بطالب آخر يعمل "في البحرية الأمريكية وقد كان بحثه لدرجة الماجستير حول التنصير في الخليج العربي" فأخذ نسخة منها وترجمها ونشرت بالعربية[3].

هذه مجرد أمثلة وشذرات لما تتعلمه جيوش العدو عنا نحن لا عن أقوامهم هم!

(2) صناعة الجهل في الجيش المصري

يمكننا توقع كيف نشأ جيل من الجهلة محدودي العقول في الجيش المصري عبر تلك الحكاية التي يرويها نورفيل دي أتكين، العقيد المتقاعد في الجيش الأمريكي، والذي قضى فترة في تدريب الجيش المصري ضمن برامج التعاون العسكري بين البلدين، يقول:

"في كل المجتمعات، تكون المعلومات وسيلة لكسب العيش أو امتلاك القوة، لكن العرب يدخرون المعلومات ويحتفظون بها بإحكام خاص. وغالبا ما يفاجأ المدربون الأميركيون على مر السنين بحقيقة أن المعلومات التي يقدمونها إلى المسئولين الكبار لا تتخطاهم. فبعد أن يتعلم أي فني عربي تنفيذ بعض الإجراءات المعقدة، فهو يعرف أنه الآن لا يقدر بثمن طالما أنه هو الوحيد في وحدته الذي يمتلك تلك المعرفة؛ وبمجرد أن يوزعها على الآخرين، لن يعد هو مركز المعلومة الوحيد، مما يبدد سلطته. وهذا ما يفسر اعتياد اكتناز الكتيبات والكتب والنشرات التدريبية، وغيرها من أدبيات التدريب أو الخدمات اللوجستية. في أحد المرات، تَسَلّم فريق تدريب متنقل من الجيش الأمريكي يعمل مع القوات المدرعة المصرية بعد طول انتظار آخر كتيبات التشغيل التي ترجمت إلى اللغة العربية بمشقة. أخذ المدربون الأمريكيون الكتيبات حديثة الطباعة مباشرة إلى ساحة الدبابات وقاموا بتوزيعها على طاقم جنود الدبابات. لحق بهم مباشرة قائد السرية- وهو خريج مدرسة المدرعات في فورت نوكس كما تلقى دورات متخصصة في مدرسة ذخائر ابردين- ليجمع الكتبيات من طواقم. وعندما سئل عن سبب أخذه  للكتبيات، قال القائد أنه لا فائدة من إعطائها للسائقين لأن المجندين لا يستطيعون القراءة. لكنه في الواقع لم يُرِد أن يجد المجندين مصدرًا مستقلًا للمعرفة. فكونه الشخص الوحيد الذي يمكنه شرح وسيلة إطلاق النيران أو تصويب أسلحة المدفعية يجلب الهيبة والاهتمام. ومن الناحية العسكرية، هذا يعني أن القليل جدًا من التدريبات التي تتلاقها تلك القوات تنتقل إلى غيرهم، فمثلًا بالنسبة لطاقم الدبابات، قد يكون جنود المدفعية، والحمالون، والسائقون بارعون في وظائفهم ولكنهم ليسوا على استعداد للقيام بدور آخر في حال وقوع الإصابات. ويقيد عدم فهم وظائف بعضهم البعض قيامهم بالعمل بسلاسة. كما يعني الأمر على مستوى أعلى عدم وجود عمق في البراعة التقنية"[4].

وهذه الرواية تفسر لنا من جهة أخرى كيف يستطيع أولئك "الخبراء الاستراتيجيون" من العسكريين المتقاعدين أن يتحدثوا في الإعلام وكلهم ثقة وافتخار بما هو مثير للسخرية والكوميديا، يبدو أنهم تعودوا السيطرة بهذه المعلومات على طبقات من الجهلة المحرومين من القراءة والاطلاع، حتى طال عليهم الأمد، فصدقوا أنهم خبراء وظنوا أنه يمكنهم مخاطبة سائر الناس بهذه الخرافات والتخريفات التي يلوكونها.

وهي تفسر أيضا كيف يستطيع أمثال عكاشة وأحمد موسى أن يكونوا مراجع فكرية لهذه الطبقة من العسكريين، وأن يكون كلامهم –بكل ما فيه من مضحكات وتناقضات- هو المصدر الثقافي المُكَوِّن لعقول ونفوس هذه الفئة.

وكنت ذات مرة مع واحد من أشهر الباحثين في شؤون العلاقات المدنية العسكرية، وطرح وجهة نظر في الملف المصري تقول بالحوار والتفاوض مع قادة الجيش، فسألته: أنت تتابع مستوى العقليات التي تتحدث في الجيش من محافظين و"خبراء استراتيجيين" وغيرهم، برأيك: هل يمكن إقامة حوار أو تفاوض مع شخصيات بهذا المستوى من الفهم؟ فابتسم وسكت!

ويالها من مأساة ومن مأزق!




[1] فيليب حتي، العرب: تاريخ موجز، ط6 (بيروت: دار العلم للملايين، 1991م)، ص7.
[2] مصطفى السباعي، الاستشراق والمستشرقون: ما لهم وما عليهم، (بيروت: المكتب الإسلامي ودار الوراق، بدون تاريخ)، ص66.
[3] مازن مطبقاني، بحوث في الاستشراق الأمريكي المعاصر، ص18 (نسخة إلكترونية خاصة من المؤلف).
[4] نورفيل دي أتكين، لماذا يخسر العرب الحروب، ورقة بحثية بتاريخ (1 ديسمبر 1999م) على موقع راقب، ويمكن مطالعة الأصل الإنجليزي على موقع ميدل إيست فورم.

الخميس، سبتمبر 22، 2016

درس في اختيار مكان الثورة

لا بد للثورة من فهم للجغرافيا السياسية والميول الاجتماعية للمناطق المختلفة لتختار من بينها المكان الذي يكون نواة بذرتها ومقر تخطيطها وكتلة حاضنتها الشعبية.. وهذا درس الثورة العباسية في هذا الموضوع.

ذكرنا في المقال الماضي كيف وصلت زعامة تنظيم سري علوي إلى محمد بن علي العباسي الذي نقله من مجرد دعوة إلى تنظيم حركي فعال، والنقطة الأهم التي تغيرت في هذا التنظيم السري أنها سارت بمحبي آل البيت وأنصارهم، بجانب كبير منهم، نحو العباسيين الذين لم يكونوا في هذا الوقت مصدر قلق بالنسبة إلى الأمويين كأبناء عمومتهم العلويين، فتأسَّست للعباسيين –بوصية أبي هاشم- شرعيةٌ جُمِع لهم فيها كل أنصار آل البيت، الذين ما جال ببال أكثرهم أن الإمام عباسي لا علوي، وهي الشرعية التي استمرَّت معهم حتى قامت الدولة بالفعل، وحينها سيكون لكلِّ حادث حديث.

بداية الحركة

تسلَّم محمد بن علي العباسي أمر أتباع أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، وكانت حلقة الوصل بينه وبينهم سلمة بن بجير، وكان أغلبهم من بني مسيلة؛ وهم قوم يُقيمون بالكوفة، وهؤلاء هم الذين سيُؤَسِّسون الدعامات الأولى والرئيسية للدعوة العباسية؛ فمنهم: بكير بن ماهان، وأبو سلمة الخلال، وميسرة الرحال، وأبو موسى السراج، وأبو عكرمة زياد بن درهم. إلَّا أنَّ عدد الكوفيين ظلَّ في الدعوة قليلًا لا يبلغ الثلاثين؛ لأن محمدًا العباسي كان حَذِرًا من الكوفيين، وأغلب الظن لما لهم من تاريخ في إفشال الثورات العلوية بقلة ثباتهم وسرعة انفضاضهم، وقد ورد عنه قوله لأتباعه: "ولا تُكْثِروا من أهل الكوفة، ولا تقبلوا منهم إلَّا أهل النيات الصحيحة"[1].

لكنَّ سلمة بن بجير لم يَطُلْ به العمر؛ فما إن خرج من عند محمد بن علي حتى مرض ومات في الطريق، وكأنما لم يتحمَّل الحياة بغير شيخه أبي هاشم، فما استطاع أن يرى الكوفة خالية منه، فكان القائم على الدعوة في الكوفة بعده أبو رباح ميسرة النبال، الذي صار بهذا أول كبير للدعاة في الكوفة، وثاني كبير للدعاة -بعد ابن بجير- العباسيين، لكنَّ أبا رباح لم يُكمل هو الآخر شهورًا معدودة حتى تُوُفِّيَ قبل انقضاء عام 100 هـ، وأوصى من بعده لسالم بن بجير، الذي سارع بالإرسال إلى محمد بن علي بما حدث من موت ابن بجير وأبي رباح مع بكير بن ماهان[2].

بكير بن ماهان

لم يكن رجلًا عاديًّا .. بل هو عمليًّا المؤسس الحقيقي للدعوة العباسية في العراق وخراسان، وبه دخلت الدعوة العباسية منعطفًا جديدًا؛ وذلك على مستوى الرؤية والتخطيط، وليس التنفيذ فحسب.

تعرف على دعوة بني العباس سنة (105هـ)[3]، والأرجح أنه تعرف عليها قبل هذا الوقت، وكان مولى لبني مسيلة؛ غير أنه كان بمنزلة أولادهم الذين من أصلابهم؛ فهو شخصية محبوبة طيبة الأخلاق والصفات، وما كان له أن يكون من مؤسسي الدعوة لو لم يكن كذلك؛ إضافة إلى امتلاكه مهارة الدعوة والتنظيم والاستيعاب، وكان إضافة إلى ذلك ذكيًّا ألمعيًّا ذا شخصية قوية مع نظرة فاحصة يعلم بها طبائع الناس، لا سيما وأنه كان من الجنود الذين شاركوا في الفتوحات، وغزا مع يزيد بن المهلب بن أبي صفرة في خراسان ودخل معه جرجان، وكان من أصحاب التجارب، وسافر كثيرًا من البلاد[4].

استعدَّ بكير بن ماهان للسفر بالرسالة إلى محمد بن علي، وقبل أن ينطلق إليه جاءه خبر بوفاة أخيه في السند، فأعفاه سالم بن بجير من مهمَّة الرسالة؛ لكي يُدرك أمر أخيه وميراثه منه، لكن بكيرًا رفض وفَضَّل الآخرة على الدنيا، وترك الميراث الكبير لحساب المهمَّة الدعوية، وانطلق إلى دمشق، فاشترى عطورًا، ولبس ثياب العطارين، واصطنع أنه تاجر يجوب البلاد؛ حتى وصل بعد بعض الاحتياطات والاحترازات إلى محمد بن علي بالرسالة، ولقد حزن محمد حزنًا شديدًا لموت ابن بجير، كما تأسَّف لموت أبي رباح؛ لكنه اطمأن لوضع الدعوة في الكوفة. وكان أول ما نصح به بكيرُ بن ماهان محمدَ بن علي أن يتخذ منزلًا بعيدًا عن إخوته (وهم أكثر من عشرين)؛ حتى لا ينتبه أحد منهم أو من جيرانه إلى مَنْ يقدم عليه ويذهب من عنده؛ فيفشو سرُّ الدعوة، فاتخذ محمد منزلًا أبعد عن الناس، كما نصحه بأن يجعل واحدًا من أهله في حكم «السكرتير» أو مدير الأعمال؛ حتى يكون الاجتماع بينهما طبيعيًا وغير لافت للأنظار، كما أن هذا يقلل لقاء الأتباع بالإمام محمد نفسه، فيظلّ بعيدًا عن الشبهات ما أمكن، فاختار محمدٌ فضالة بن معاذ مولاه لهذه المهمَّة، ثم نصح بكيرٌ محمدًا بأن يجعل أساس دعوته في خراسان لأنه -وهو الذي جال في البلاد- قد رأى بنفسه حبَّ هؤلاء القوم لآل البيت، واستغرابهم أن العرب لم يصرفوا الأمر لآل بيت نبيهم بعد موته[5]، وأنهم على أتمِّ استعداد أن ينصروا هذا الحق الضائع، وأن يُعيدوه إلى أهله، فقال محمد: إن خراسان هي أساس هذه الدعوة[6].

وبهذا انتهت المهمَّة العاجلة لبكير بن ماهان فعاد إلى الكوفة، وصارت الرسائل بينهم وبين محمد بن علي تكتب إلى فضالة بن معاذ، وانطلق إلى السند ليأتي بميراث أخيه، وليُؤَسِّس لأمر الدعوة في خراسان.

لماذا خراسان؟

كان محمد بن علي العباسي بصيرًا بالحال في عصره، فعندما قرَّر أن يجعل خراسان مركز دعوته شرح لأتباعه أسباب هذا القرار؛ قائلًا:

«أمَّا الكوفة وسوادهم فهناك شيعة عليّ بن أبي طالب. وأمَّا البصرة فعثمانية تدين بالكفِّ وتقول كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل. وأمَّا الجزيرة فحرورية مارقة، وأعراب كأعلاج، ومسلمون في أخلاق النصارى. وأمَّا أهل الشام فليس يعرفون إلَّا آل أبي سفيان وطاعة بني مروان، عداوة لنا راسخة وجهلًا متراكمًا. وأمَّا أهل مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر، ولكن عليكم بخراسان؛ فإن هناك العدد الكثير والجلد الظاهر، وصدورًا سليمة، وقلوبًا فارغة، لم تتقسمهم الأهواء، ولم تتوزَّعهم النِّحَل، ولم تشغلهم ديانة، ولم يتقدَّم فيهم فساد، وليست لهم اليوم همم العرب ولا فيهم؛ كتحازب الأتباع بالسادات، وكتحالف القبائل وعصبيَّة العشائر، ولم يزالوا يذلون ويمتهنون، ويظلمون ويكظمون، ويتمنّون الفرج ويؤمّلون «الدول»، وهم جند لهم أجسام وأبدان، ومناكب وكواهل وهامات، ولحىً وشوارب، وأصوات هائلة، ولغات فخمة، تخرج من أفواه منكرة، وبعدُ فكأني أتفأّل إلى المشرق وإلى مطلع سراج الدنيا ومصباح الخلق[7].

وهذه المقولة فوق أنها بيان لبصيرة محمد بن علي، ومعرفته بالبلاد، تكشف لنا أحوال هذه الحواضر الإسلامية:

·        فأمَّا الكوفة فهي علوية؛ ترى أن الحق في الخلافة لعلي وأبنائه من بعده، فلن تصلح للعباسيين.
·        وأمَّا البصرة فقومها ليسوا أهل فتن؛ بل هم أهل زهد وتصوف وتقشُّف، شعارهم: كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل.
·        وأما الجزيرة (أي: الجزيرة الفراتية) فتسودها أفكار الخوارج، وهم لا يرون أن الخلافة من حقِّ أحد بعينه لا من آل البيت ولا من خارجه.
·        وأما الشام فهو عصبة الأمويين وأهل الشام تعلَّقُوا بهم منذ كان معاوية واليًا عليهم أيام عمر بن الخطاب، وخاضوا معه الحروب الداخلية والخارجية، ولا يُفَضِّلُون على الأمويين أحدًا.
·        وأمَّا مكة والمدينة فأهلها ممن حَكَمَهم أبو بكر وعمر أرشد حكم؛ فهم يرون الأمر في قريش عامة ولا يضعونها في أحد بعينه من آل البيت.
·        وأمَّا خراسان فقد اجتمع فيها العديد من المزايا، ففيها المقاتلون العرب أو كما يقال - «جمجمة العرب وفرسانها»[8]- الأشداء، مع كثرة عددهم، وامتلاكهم الصبر والجلد والقوة، ثم إن خراسان لم تنتشر فيها فكرة أو دعوة أو ملة لا تناسب العباسيين، وهكذا يمكن الدخول إلى قلوب الخراسانيين عبر دعوة آل البيت ومحبتهم، وهي واجب على كل مسلم، كما أن خراسان قد انخفضت فيها عصبيات العرب القديمة بين القبائل، وصار من الممكن تجميعهم خلف فكرة دون الخشية من تكتل القبليات العربية الذي كان قديمًا، ثم إنهم ممن وقعت بهم المظالم، التي تجعلهم غاضبين متذمرين، يأملون تغير الحال وتقلب الدول.

إنها كلمات من عيون الحِكَم السياسية المثيرة للإعجاب بنفسها وقائلها.

إضافة إلى أن خراسان في مشرق الدولة الإسلامية؛ ومن ثَمَّ فهي أبعد عن يد سلطة الدولة الأموية، وكانت العلاقة بين محمد بن علي وأهل خراسان قد بدأت قديمًا في حلقة أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، التي كان يرتادها بعض من الخراسانيين، ولما سألوه ممن يأخذون العلم إن مات هو؟ قال: لا أعلم أحدًا أعلم من محمد بن علي ولا خيرًا منه، ثم صاروا يأخذون العلم منه[9].

وهكذا قررت الدعوة العباسية أن تنطلق من خراسان.

نشر في ساسة بوست



[1] مجهول: أخبار الدولة العباسية ص193، 194.
[2] مجهول: أخبار الدولة العباسية ص192 - 196.
[3] الطبري: تاريخ الطبري 4/ 111.
[4] مجهول: أخبار الدولة العباسية ص191، 196.
[5] وهذه هي التقاليد الفارسية التي شَكَّلت ثقافتهم، وما كان لهم أن يستوعبوا أن الإسلام يجعل الزعامة بالشورى لا بالنسب في ظلِّ العديد من الحركات الشيعية، التي تؤصل لمبدأ حق آل البيت بالخلافة.
[6] مجهول: أخبار الدولة العباسية ص196 - 199، والطبري: تاريخ الطبري 4/ 111.
[7] الجاحظ: رسائل الجاحظ 1/ 16 وما بعدها، وابن قتيبة: عيون الأخبار 1/ 303.
[8] مجهول: أخبار الدولة العباسية ص386.
[9] ابن عساكر: تاريخ دمشق 54/ 367، 368، والذهبي: تاريخ الإسلام 6/ 406.