الأربعاء، مايو 31، 2017

القرآن يعلمنا كيف ننجز المهمات الكبرى

لعلك لا بد سمعت في الأيام الماضي كثيرا قول الله تعالى (كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون * أياما معدودات).

قال بعض مشايخنا: وإنما قال الله "أياما معدودات" للتسهيل على عباده، فلعله لو قال "شهرا" لاستصعبها المسلمون، فاختار اللفظ الموحي بالسهولة تيسيرا على عباده وتحفيزا لهم! وعند أهل اللغة أن اختيار جمع المؤنث السالم (معدودات) دليل على القلة. (انتهى)

وإن كنت من أهل قراءة جزء كل يوم فستمرّ بعد أيام على قصة معركة بدر كما رواها القرآن الكريم، وسيذكر القرآن مشهدا لن تراه في كتب السيرة والتاريخ، رغم كونه المشهد الأكثر تأثيرا.. لقد دبَّر الله لالتقاء المسلمين بالمشركين رغم أن المسلمين لم يكونوا يحبون هذا اللقاء، (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم)، فكيف دبَّر الله هذا؟!

لقد قذف في قلوب الفريقين أن كليهما قادر على النصر، وأن عدوه ليس إلا قلة قليلة، قال ربنا القدير المدبر (إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر، ولكنَّ الله سلَّم، إن الله عليم بذات الصدور * وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويُقلِّلكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وإلى الله ترجع الأمور). تأمل في أن خيرة المسلمين، أصحاب بدر، لو كانوا قد تصوروا الأمر على حقيقته، وتحققت أعينهم انهيار ميزان القوى لدبَّ فيهم التنازع والاختلاف!

لمثل هذا يقولون: الفلاسفة لا يغيرون التاريخ، لأن أهل القياسات المنطقية الباردة أقرب دائما إلى الإحجام والتردد، إنما يغير التاريخ الأبطال المتحمسون، وأصلا لا يكون البطل بطلا إلا لأنه أقدم في موطن تقول الحسابات المنطقية أن التراجع أولى فيه، فلو أن البطل لا يقدم على الخطر ولا يتقدم إلا وهو يتحقق من النصر لما كان بذلك بطلا!

لولا المشقة ساد الناس كلهم .. الجود يُفْقِر والإقدام قَتَّال

والروح العامة في القرآن الكريم إنما تريد أن تغرس في روح الإنسان أن ما يقوم به في الدنيا هو قليل، وسيجزيه الله عن هذا القليل بالكثير في الآخرة.. (مَثَل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء)، (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض؟ أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة؟ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل). ثم إن قليل الدنيا زائل على كل حال.. هذه قصة الدنيا كلها في سطر واحد (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح)، وهذه قصة الكافرين في نصف سطر (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد * متاع قليل، ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد).

وقد ذكرنا في مقال سابق أن نفوس البشر تهرب من المشقة، حتى إن الله تعالى لما أنزل الإذن بالجهاد رغبت بعض النفوس أن لو كان الأمر تأجل قليلا، قال تعالى (فلما كُتِب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية، وقالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال؟ لولا أخَّرتنا إلى أجل قريب؟ قل: متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى، ولا تُظلمون فتيلا).. فهنا كذلك حفَّز الله عباده المؤمنين وهم في إطار الجهاد الذي سيغيرون به وجه التاريخ بطريق تذكيرهم أن متاع الدنيا هو القليل، وأن الآخرة هي الكثير!

كيف نستفيد من هذا؟

لو أننا نرتوي من كتاب ربنا لتعلمنا منه قبل تعلمنا من كتب التنمية البشرية أن النفس تحتاج إلى المخادعة والمحايلة والمثابرة كي تنجز الأعمال!

تحتاج أن تقنع نفسك ما استطعت بأن المهمة التي أمامها بسيطة وممكنة وليست بالعظيمة المُعجزة، بعض التغيير الطفيف في طريقة العرض تفلح مع النفس، نعم.. النفس تحب أن تُخدع أحيانا! ويحب أصحاب التنمية البشرية أن يستدلوا بما رواه أهل الأدب عن الملك الذي رأى رؤيا فطلب من يُعبِّرها فجاءه فقال له: سيموت أهلك جميعا أمام عينيك، فلم يملك نفسه من الحزن والغضب فقتله! ثم طلب غيره فجاءه فقال له: أبشر يا مولاي، أنت أطول أهلك عمرا، فاستبشر وكافأه.. والمعنى في الحالين واحد!

هكذا: "أياما معدودات"، وليس "شهرا".. والمعنى واحد!

وهكذا: يمكنك أن توصف الواجبات والأعمال التي ينبغي عليك إنجازها بأيسر توصيف وأسهل تعبير، فتنشط النفس لأدائها!

يخبرنا أهل التنمية البشرية كذلك بحيلة الخمس دقائق، يقولون: إذا استصعبت النفس مهمة ما فحايلها بأن تعمل خمس دقائق فقط، فقط خمس دقائق ثم لتفعل ما تشاء. وذلك أن التجربة أثبتت أن النفس إذا بدأت في العمل استمرت فيه، وإنما المشكلة كامنة في "إرادة البدء" هذه!

لو أننا نرتوي من كتاب ربنا وسنة نبينا لتبيَّنَّا مثل هذه الأمور من قوله تعالى (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره)، (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين)، ومن قوله تعالى في الحديث القدسي "من تقرب إلىَّ شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة"، ومن قول نبيه "لا تحقرن من المعروف شيئا"، "فاتقوا النار ولو بشق تمرة"، "من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة (كعش عصفور) بنى الله له بيتا في الجنة".

وفي إطار محايلة النفس ومناورتها، جاءت التنمية البشرية بنصائحها: تقسيم المهمة الكبيرة إلى مهمات صغيرة، تقوية الثقة في النفس وإقناعها بالقدرة على الإنجاز، تحفيز النفس ووعدها بالمكافأة إذا أنجزت عملا ما، إقناع النفس بأن تحب ما تعمل... إلخ!

والواقع أيضا أن الشيطان يستدرج الواحد فينا بمثل هذا البطء والتحايل، ولذلك قال ربنا (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان)، فلو قال (لا تتبعوا الشيطان) لكان المعنى واضحا ومفهوما، ولكن لفظ "خطوات" أضاف معنى الخفاء والتسلل والاستدراج!

في رمضان فرصة لمعايشة القرآن.. والقرآن يفتح لك أبوابه بقدر ما اقتربت منه وتدبرت فيه، ولقد استند أجدادنا إلى القرآن فغيروا وجه التاريخ، وأنجزوا المهمات العظمى، ولولا القرآن المغروس في النفوس لما بقي في الأمة من يجاهد، إن مجرد الحسابات المادية وحدها تدفع بالمجاهدين إلى الانتحار، لكن القوم الذين يحملون القرآن في صدورهم، ويرتوون من معانيه يعرفون أنهم على عهد وعلى وعد، وهو عهد ووعد تطيش أمامه كل الحسابات المنطقية الباردة.

(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله، فيقتلون ويُقتلون، وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله؟! فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم).


(وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات، ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا).

الأربعاء، مايو 24، 2017

معجزة الفتوحات الإسلامية

يطلق لفظ "الإعجاز التاريخي" في دراسات الإعجاز العلمي فينصرف معناه إلى واحد من هذه المعاني الثلاثة:
الأول: أن يأتي في القرآن خبر في التاريخ القديم، ثم تسفر الآثار والنقوش والبحوث العلمية الحديثة عن صحة هذا الخبر الذي كان يستحيل معرفته على بشر مثل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا أمثلة عديدة؛ كما في قصص نوح وعاد وثمود وموسى عليهم السلام، لا سيما إن كانت الرواية القرآنية مخالفة لما جاء في التوراة والإنجيل، هذا مع قيام الاستحالة الأصلية لكون محمد [صلى الله عليه وسلم] أخذ علما عنهما.

والثاني: أن يذكر القرآن أمرا لم يقع لحظة نزول الآية مخبرا أنه سيقع، فيكون كما ذكر، فيكون هذا إعجازا تاريخيا بمعنى التنبؤ بالحدث التاريخي، وأشهر الأمثلة في هذا الوعد بعودة الانتصار إلى الروم بعد بضع سنين كما في قوله تعالى {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1 - 4]، أو الإخبار باجتماع اليهود قبل يوم القيامة {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء: 104] وغير ذلك كثير.

والثالث: أن يقع في تاريخ هذه الأمة من الظواهر والأحداث العظيمة ما لا يكون عادة في تاريخ الأمم، فيثير الدهشة والفخر، وهنا يكون وصف هذه الظاهرة بأنها "إعجاز تاريخي" من قبيل خرقها للعادة التاريخية لا للسنة الكونية الطبيعية.

وموضوع حديثنا في هذه المقالة، والمقالات التي ستليها بإذن الله، ينتمي لهذا المعنى الثالث، وقد اخترنا أن نرصد فيه موضوع "الفتوحات الإسلامية" باعتبارها ظاهرة تاريخية متفردة ومثيرة للدهشة وتخالف عادة الأمم في التوسع والانتشار. وقد اخترنا في هذه الورقة أن نسكت عن الكلام كله، مكتفين بالنقل عن المستشرقين والمؤرخين الغربيين وصفهم لظاهرة الفتوحات الإسلامية، لتكون الدلالة أبلغ، على طريقة (وشهد شاهد من أهلها)، والموضوع التاريخي وإن كان لا يحتاج بذاته النقل عن الغربيين فالحقائق ظاهرة والتاريخ فوق الجميع، إلا أن شهادة غير المسلم في هذا المقام أولى وأحسن أثرا.

الاستثناء التاريخي
يعد كتاب "دراسة التاريخ" للمؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي[1] من أعظم ما كُتب في بابه على الإطلاق، وقد قضى في تأليفه نحو أربعين سنة (1921 – 1961م)، وصدر أول الأمر في اثني عشر مجلدات، ثم اختصرت تعميما للفائدة، ونُشر المختصر مترجما إلى العربية في أربعة مجلدات.

وقد ابتكر توينبي في هذه الدراسة –ضمن كثير من نظرياته ونظراته العميقة- قاعدة تاريخية تفيد بأن الغزاة يستطيعون تأسيس إمبراطوريات كبرى ويظفرون برضا ومحبة الشعوب المحكومة إن هم كانوا من ذات ثقافتهم أو اعتنقوها دون شوائب دخيلة، فأما إن اعتنقوا ثقافة أخرى أو كانوا ممثلين لحضارة أخرى فإنهم يصيرون مكروهين منبوذين من الشعوب المحكومة مهما طال زمن سيطرتهم ولا بد سيأتي يوم يتدمر سلطانهم على يد هذه الشعوب، يقول: "وفي وسعنا في الواقع أن نقدم على صياغة شيء يماثل قانونا اجتماعيا عاما مداره:

إن الغزاة البرابرة الذين يتبدون أحرارا من شائبة أية ثقافة دخيلة، في وسعهم كفالة مصائرهم. ويختلف الأمر بالنسبة لهؤلاء الذين اصطبغوا خلال مرحلة هجراتهم بصبغة أجنبية أو بنزعة ضالة، فهؤلاء يجب أن يحيدوا عن طريقهم ليطهروا أنفسهم من هذه الصبغة أو تلك النزعة، حتى يقيض لهم اجتناب المصير الآخر: أي الطرد والإبادة"[2].

إلا أنه بعدما ضرب الأمثلة على صدق نظريته، سارع ليرصد هذا الاستثناء، فقال: "وثمة استثناء من قاعدتنا يمثله العرب المسلمون الأوائل. إذ كان العرب جماعة من العشائر من خارج المجتمع الهليني، أنجزوا مرتبة سامية من النجاح إبان مرحلة هجراتهم التي صاحبت تحلل ذلك المجتمع. وتمَّ هذا النجاح رغما عن حقيقة قوامها أن العرب قد تشبثوا بمنحاهم الديني الأصيل عِوَضًا عن اعتناقهم المذهب المسيحي المينوفيستي الذي كان يعتنقه رعاياهم في الأقاليم التي انتزعوها من الإمبراطورية الرومانية. بيد أن الدور التاريخي للعرب المسلمين الأوائل، يعتبر دورا استثنائيا تماما... وبالأحرى؛ يعتبر تاريخ الإسلام حالة خاصة، لن تنسخ نتائج بحثنا العامة"[3].

يفسر جاك ريسلر[4] هذا بأن الإسلام لم يكن "الغالب" وإنما كان "الفاتح"، فيقول: "يُظهر التاريخ أن الشعوب المغزوَّة تتبنى نظاما سياسيا جديدا بسهولة أكثر مما تبدل لغتها ولسانها. ولقد برهن على ذلك مرة أخرى فشل اليونان والرومان في المشرق. فماذا يمكن أن تكون، بعد الآن، لغة الشعوب الخاضعة للإسلام؟ لا يمكنها إلا أن تكون اللغة العربية، المميزة بكونها لغة الفاتح لا الغالب"[5].

أصل الظاهرة

لهذا ينبغي أن ننظر في مسألة الفتوحات باعتبارها فرع من أصل، فالأصل هو الإسلام نفسه، فظاهرة الفتوحات المدهشة هي فرع عن الإنجاز الإسلامي المدهش، وعلى حد ما نعلم فإنه لم يتعرض أحد قط بالبحث في تاريخ الإسلام إلا وأقر بأن ما فعله محمد صلى الله عليه وسلم كان أمرا مدهشا في مسار التاريخ.

كتب مايكل هارت[6] كتابًا حول أعظم مائة شخصية في التاريخ الإنساني، وعلى الرغم من أنه مسيحي لا يؤمن بالإسلام ولا بمحمد [صلى الله عليه وسلم] إلا أنه جعل النبي [صلى الله عليه وسلم] على رأس هذه المائة، وقال: "لقد اخترت محمدًا [صلى الله عليه وسلم] ليكون الأول في قائمة أهم رجال التاريخ، ولا بد أن يندهش كثيرون لهذا الاختيار، ومعهم حق في ذلك، ولكن محمدًا [صلى الله عليه وسلم] هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحًا مطلقًا على المستوى الديني والدنيوي. وهو قد دعا إلى الإسلام، ونشره كواحد من أعظم الديانات، وأصبح قائدًا سياسيًّا وعسكريًّا ودينيًّا، وبعد ثلاثة عشر قرنًا من وفاته فإن أثر محمد [صلى الله عليه وسلم] ما يزال قويًّا متجددًا"[7].

نفس هذا القول يردده البريطاني رونالد فيكتور بودلي[8]، في كتابه "الرسول" فيقول: "قد أنجز كل هذا رجل واحد في الإسلام، وتم كل هذا التبدل في جيل واحد... إن عمل محمد [صلى الله عليه وسلم]  كان جبارا، حتى إن عيسى [عليه السلام] لا يمكن أن يسجل له شيء يقارب ما أتاه محمد [صلى الله عليه وسلم]، ولا حتى بولس"[9]

ويردده كذلك المستشرق الأمريكي –اللبناني الأصل- فيليب حتي[10]، إذ يقول: "لقد تسنى لمحمد [صلى الله عليه وسلم] -في سحابة عمر غير طويل- أن يهيئ الوسائل الفعالة في تكوين أمة متراصة من قبائل مختلفة متناحرة في بلاد لم تكن لذلك العهد إلا تعبيرا جغرافيا، وأن يقيم دولة فاقت بانتشارها السريع إلى أبعد أقطار العالم كلتا الديانتين اليهودية والنصرانية، وفضلا عن ذلك فقد وضع محمد [صلى الله عليه وسلم] حجر الأساس لإمبراطورية ضمت بين أطرافها فضلى مقاطعات العالم المتمدن يومئذ، واليوم يدين جزء كبير من العالم بالإسلام، وينادي بتعاليم هذا الرجل الأمي، الذي كان الواسطة في إخراج كتاب لا يزال سبع سكان المعمورة يعتبره القول الفصل في العلم والحكمة والدين"[11].

وهذا أمر يطول استقصاؤه وهو من حقائق التاريخ التي لا ينكرها أحد كواقع، ولا ينكر عظمتها من له الحد الأدنى من العقل والإنصاف.

فما آثار هذه المعجزة العامة في جانب الفتوحات الإسلامية؟.. ذلك ما نراه بإذن الله في المقال القادم.




[1] أرنولد توينبي (1889 – 1975م)، ولد في لندن، تقلد عدة مناصب منها: أستاذ الدراسات اليونانية والبيزنطية في جامعة لندن، ومدير دائرة الدراسات في وزارة الخارجية البريطانية، ويعد رائد مدرسة "التفسير الديني (أو الروحي) للتاريخ"، وصاحب نظرية "التحدي والاستجابة" في تفسير سقوط الأمم ونهوضها، وممن أدانوا فكرة تفوق العنصر الأبيض أو أن الغرب هو أصل الحضارة، وله مواقف مشهودة ضد الصهيونية ودعما للقضية الفلسطينية.
[2] أرنولد توينبي، مختصر دراسة التاريخ، ترجمة: فؤاد محمد شبل، (القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2011). 2/248.
[3] السابق 2/248، 249 بتصرف بسيط.
[4] جاك ريسلر: باحث فرنسي، عمل أستاذا بمعهد باريس للدراسات الإسلامية، حصل كتابه "الحضارة العربية" على جائزة الأكاديمية الفرنسية بوصفه دراسة أساسية لمعرفة الإسلام.
[5] جاك ريسلر، الحضارة العربية، ترجمة: خليل أحمد خليل، ط1 (بيروت: منشورات عويدات، 1993م). ص52.
[6] مايكل هارت (1932 - ... ) عالم في الفيزياء الفلكية والرياضيات ومؤرخ أمريكي، يعمل في هيئة الفضاء الأمريكية.
[7] مايكل هارت، الخالدون مائة أعظمهم محمد صلى الله عليه وسلم، ترجمة أنيس منصور، ط6 (القاهرة: المكتب المصري الحديث، 1985م)، ص13.
[8] ر. ف. بودلي (1890 – 1970م) عسكري بريطاني، وصل إلى رتبة كولونيل، عمل بالعراق والأردن، ثم مستشارا لسلطنة مسقط (1924م)، وكان أول من عبر الربع الخالي، وكشف عن أسراره بين عامي (1930 - 1931م)، ولما ترك الخدمة عاش في صحراء المغرب العربي بين البدو وتأثر بهم وكتب عنهم، ويعد كتابه "الرسول" واحدا من ثمار هذا التأثر.
[9] ر. ف. بودلي: الرسول حياة محمد، ترجمة محمد محمد فرج وعبد الحميد جودة السحار، (القاهرة: مكتبة مصر، بدون تاريخ)، ص89.
[10] فيليب حِتي (1886 – 1978م): مستشرق أمريكي من أصل لبناني، مؤسس قسم اللغة العربية بجامعة برنستون التي هي عُش الاستشراق وحاضنته الكبرى، وأنشأ مطبعة بالعربية لنشر التراث العربي، وظل رغم تقاعده أستاذا زائرا بهارفارد وبرنستون والأكاديمية الأمريكية للعصور الوسطى.
[11] فيليب حتي، العرب تاريخ موجز، (بيروت: دار العلم للملايين، 1991م)، ص46.

الأربعاء، مايو 17، 2017

التشويق إلى القرآن

تفصلنا ساعات عن بدء النفحات الطيبة المباركة، عن أيام رمضان، ذلك الشهر الذي جعله الله انقلابا في نظام المؤمن، فيه ينتبه المرء لحاجات روحه ويجاهد حاجات جسده، فيه يتغير طعم الأيام وتتغير أولويات الحياة، إليه يشتاق المؤمن، ومنه ينفر الذي أصاب قلبه المرض، وهو باب اختبار يرى فيه المرء كم بلغت الدنيا في نفسه، فكلما اشتد وثقل على النفس أمر الصيام والعبادة كلما دقَّ جرس الخطر يخبره أنه قد ابتعد وتاه في أودية الدنيا وأنها تسربت إلى قلبه وتشربتها روحه، وكلما رأى المرء في رمضان منقذا وضرورة واشتاق له وأقبل عليه كلما كان هذا إشارة إلى أن نفسه أقرب إلى الهدى، وأن حاجات الدنيا لم تزل غير مسيطرة على حسه وضميره.

وقد صار رمضان بهذه المكانة لسبب وحيد.. أنه الشهر الذي تشرف بنزول القرآن فيه، فالقرآن هو الذي شرَّف رمضان، فالشرف من القرآن لا من رمضان!

تفكرت في كتابة شيء يثير الأشواق إلى كتاب الله، فكانت هذه اللمحات..

(1) المشهد الحيّ

للقرآن طريقة بديعة في وصف المعاني، تعبيرات القرآن ترسم مشهدا حيا..

وصف الله حال المتجبرين يوم القيامة فقال (ثم لنَنْزِعَنَّ من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عِتِيًّا)، ففي ذلك اليوم سيبدأ العذاب بالأعتى فالأعتى، الأظلم فالأظلم، أكثر قومه فجورا وتجبرا.. يأخذه الله فيكون أول قومه عذابا.. لكن هذا الوصف بالنزع، يرسم مشهد المتجبر وقد صار ضعيفا متكوما متكورا ملتصقا بقومه يحاول أن يدفن نفسه فيهم ويتعلق بهم، يجتهد في الهروب من يد العذاب.. ثم تأتي يد العذاب فتصل إليه وهو على هذه الحال الذليلة فتنتزعه انتزاعا، ثم تلقيه في العذاب.

هكذا صار حال الجبار الفاجر المستهزئ، قطعة صغيرة تتخفى وتتدثر وتلتصق وتهرب، ذهب الفجور والتجبر وانقلبت الصورة!!.. أو قل: اعتدلت الصورة!


(2) القرآن كائن حي

كم من حيرة تشغل المرء ليلا أو نهارا حتى إذا فتح كتاب الله كأنما وجد إجابة حيرته في آية! كأنما الآية تكاد تكون تنطق وتتكلم!

قال تعالى (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كُتِب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية.
وقالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال؟ لولا أخَّرتنا إلى أجل قريب؟
قل: متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى، ولا تُظلمون فتيلا)

هل ترى كيف أن بعض الناس يرى أن قرار القتال حتى وإن كان قد نزل من الله فإنه سابق لأوانه، لم تأت اللحظة المناسبة بعد! وكانوا يتمنون لو أنه تأخر قليلا!!

هكذا تتمرد النفس على ما لا تحبه، تُسبغ عليه من المبررات العقلية ما يجعله حكمة العقل لا هروب النفس من التكاليف، حتى إن بعض المسلمين أحبَّ لو تأخر نزول الأمر بالجهاد قليلا! والواقع أن هذا لم يكن إلا تعلقا بالدنيا.. ولهذا قال الله: متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى، ولا تُظلمون فتيلا!

كم مرة في حياتنا تهربنا من الواجبات بدعوى الوقت الذي لم يحن بعد، والقرار السابق لأوانه؟!.. أكاد أرى من يُكثر من قول "سابق لأوانه، لم يحن وقته" لا يكون مقداما أبدا!

ومثل هذه الآية في ذات المعنى قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ..)، لقد أمر الله بأخذ الحذر في حال الجهاد لا بأخذ الحذر الذي يؤدي إلى القعود، على المسلم أن يجاهد وهو يحذر، لا أن يحذر فيقعده الحذر عن الجهاد!

اقرأ الآية كاملة: (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثُباتٍ أو انفروا جميعا. وإنَّ منكم لَمَن لَيُبَطِئَنَّ، فإن أصابتكم مصيبة قال: قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيدا. وإن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما. فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، ومن يُقاتل في سبيل الله فيُقْتَل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما).

أليست هذه الآية كائنا حيا يُخاطب كأنما يكاد يتكلم؟!

وهكذا، كلما ازداد المرء ارتباطا بكتاب الله كلما رأى في آياته نورا وهداية ودليلا.

(3) القرآن وأسرار النفس

أمر الله بالإنفاق في سبيله مرات عديدة.. لكن الأرباع الأخيرة في سورة البقرة مما كثر فيها الحديث عن الإنفاق والترغيب فيه.. لكن اللافت للنظر في هذه الآيات هي تلك الخواتيم:

(والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم)، (لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، (والله غني حليم)، (والله بما تعملون بصير)، (واعلموا أن الله غني حميد)، (والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم)، (وما يذكر إلا أولوا الألباب)، (فإن الله يعلمه)، (والله بما تعملون خبير)، (وما تنفقوا من خير يُوفَّ إليكم وأنتم لا تُظلمون)، (وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم)، (فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

خواتيم الآيات تؤكد تأكيدا متكررا، بطرق متنوعة، وألفاظ متعددة ومتقاربة أحيانا، على حقيقة واحدة: أن الله لن يفلت من علمه شيء مما تنفقون وأنه سيجزي عنه أضعاف مقداره، وأنه غني واسع حميد!

من هذه الخواتيم يعرف المرء قوة البخل في نفسه، بخلٌ تعالجه الآيات بشتى السبل لكي ترتاح النفس وتطيب حين تنفق من المال.. فلولا الأجر الكبير المضاعف من الغني الواسع العليم الخبير لكانت النفس تبخل فلا تنفق في سبيل الله..

حين يتدبر المرء هذه الآيات ويراجعها ويتأملها، يعرف أن في أغوار نفسه البعيدة بخلا عميقا.. بُخْلٌ لا وصف له أدق من وصف الله (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذًا لأمسكتم خشية الإنفاق)! ويا له من تصوير عنيف مزلزل.. به يعرف المرء طبيعة نفسه!

(4) القرآن والكافرون

يخجل المرء من نفسه إذا قرأ لبعض المستشرقين ومن لم يُسلموا شيئا في مدح القرآن والتأثر به، لقد سلكت معاني القرآن إلى نفوسهم رغم حاجز اللغة وشوائب الترجمة.

يتحدث الكولونيل البريطاني رونالد فيكتور بودلي عن سحر القرآن وأثره الهائل فيقول: "لهذا الكتاب سحر خفي، له تأثير عجيب في العرب؛ فقد حوَّل الرعاة والتجار والبدو والبسطاء إلى مقاتلين وبناة إمبراطورية، ومؤسسي مدن كبغداد وقرطبة ودلهي، وإلى علماء وحكماء ورياضيين، وإن هذا الكتاب -ولا شَكَّ- لهو الذي عاون هؤلاء الرجال على أن يغزوا عالمًا أوسع من العالم الذي سيطر عليه الفرس والروم، وقد فعلوا ذلك في عشرات السنين، واستغرق ذلك ممن سبقوهم قرونًا"[1].

ويراه هنري دي كاستري سرا مكنونا لا يفتح بابه إلا لمؤمن، يقول: "أتى محمد بالقرآن دليلاً على صدق رسالته، وهو لا يزال إلى يومنا هذا سرًّا من الأسرار التي تعذر فكّ طلاسمها، ولن يسبر غور هذا السرَّ المكنون إلا مَنْ يُصَدِّق بأنه مُنَزَّل من الله"... ويضيف: "لو لم يكن في القرآن غير بهاء معانيه وجمال مبانيه لكفى بذلك أن يستولي على الأفكار ويأخذ بمجامع القلوب"[2].

وفي كلمة بديعة يقول القانوني والمستشرق الفرنسي مارسيل دي بوازار: "إن القرآن لم يُقَدَّر قَطُّ لإصلاح أخلاق عرب الجاهلية، إنه على العكس يحمل الشريعة الخالدة والكاملة والمطابقة للحقائق البشرية، والحاجات الاجتماعية في كل الأزمنة"[3].

والسؤال المحرج هنا: كيف استطاع هؤلاء أن يفهموا من القرآن ما لا يفهمه كثيرون فينا؟!

أليس هذا مشوقا لأن نقرأ كتاب الله بعناية وتأمل؟!




[1] الرسول ص235.
[2] الإسلام خواطر وسوانح ص46.
[3] إنسانية الإسلام ص109.

السبت، مايو 13، 2017

يوسف زيدان وصلاح الدين.. وما تخفي صدورهم أكبر

طال هذا الرد مني رغم أني حاولت اختصاره، ورغم أن اختصاره بهذا الشكل قد لا يؤدي إلى غايته، ولكن عذري أن هذا هو المتاح في عالم القارئ فيه سريع الملل، والإعلام فيه متروك للكذابين.. والعادة أن الشبهة تكون قصيرة حادة سريعة الانتشار بينما يحتاج تفنيدها إلى توضيح وتفصيل.. ولا يصبر على هذا إلا قليل.. فأسأل الله أن يجبر التقصير!
لما جاء فيلهيلم الثاني ملك ألمانيا إلى المشرق حرص على زيارة قبر صلاح الدين مظهرا له الاحترام والتبجيل، وساعتها أنشد له شوقي يقول:

عظيم الناس من يبكي العظاما .. ويندبهم ولو كانوا عظاما

وحين جاءت قوات الاحتلال الفرنسي ودخلت دمشق، ذهب غورو إلى قبر صلاح الدين وركله وهو يقول: "ها قد عدنا يا صلاح الدين"!

ويكاد صلاح الدين أن يكون فارقا بين الأخلاق والوضاعة، فسائر من يقدر القيم والأخلاق ينظر لصلاح الدين نظرة إكبار ولو لم يكن مسلما، والعكس بالعكس.. ولا يُتوقع من كاتب روايات يشجنها بالجنس، أو كتب ينضدها لتذويب الفوارق بين الأديان ووصمها بالدم، وهو من قبل هذا ومن بعده يعمل في خدمة السلطة المستبدة المتعطشة للدم، لا يتوقع من مثل هذا أن يتخذ موقفا طيبا من صلاح الدين!

يحمل يوسف زيدان حقدا خاصا تجاه صلاح الدين الأيوبي، فهو لا يفتأ في كل فترة إلا ويخرج بما يطعن فيه مكررا كلامه، أحيانا بالمقالات وأحيانا في محاضرة وأحيانا في لقاء تلفازي، وتلك الآن ساحات خالية من الشرفاء والأحرار فلا عجب أن يرتع فيها عملاء العسكر ممن رضوا عنه ورضي بهم، والطيور على أشكالها تقع، وليس أقبح من العسكر إلا المثقف الذي بذل لهم عرضه راضيا مرضيا!

وقد خرج زيدان مع عمرو أديب، وهو من هو في الوقاحة والنفاق، فقال في صلاح الدين:

1.    صلاح الدين من أحقر الشخصيات في التاريخ الإنساني
2.    صلاح الدين لما انقلب على الفاطميين عزل الرجال عن النساء لينقطع نسلهم
3.    صلاح الدين أحرق المكتبة الفاطمية التي كانت المكتبة الثانية في العالم بعد بغداد
4.    صلاح الدين لم يعالج ريتشارد قلب الأسد، ولم يكن معالجا، بل كان طبيبه الخاص هو اليهودي موسى بن ميمون (وبغير مناسبة: مَدَح موسى بن ميمون اليهودي مدحا ممتازا).
5.    صلاح الدين اضطر للحرب في بيت المقدس حين أُسِرت أخته، وتعلمون طبعا ما كان يُفعل بالأسيرات!
6.    صلاح الدين لم يفتح القدس وإنما استلمها صُلحا لما هددوه بتخريب الكنائس!
7.    الكامل الأيوبي سنة 628 سلَّم القدس للصليبيين.

وقبل أن نبدأ في نقاش هذه النقاط ينبغي أن نشير إلى الأسلوب الملتوي الخبيث الذي ساق به كلامه.. ذلك أن ثلاثة من هذه السبعة ليست طعنا في صلاح الدين بل بعضها في حسناته ومناقبه!

فإن تسليم الكامل الأيوبي للقدس بعد أربع وأربعين سنة من تحريرها، وبعد نحو أربعين سنة من موت صلاح الدين أمر لا علاقة لصلاح الدين به بالمرة، والأمة التي عظَّمت صلاح الدين واحتفت به هي ذاتها التي جرَّمت فعل الكامل ابن أخيه، ولم تر أن ذنب هذا محسوب على هذا، إلا لو رأينا –مثلا- أن ذنب بيع تيران وصنافير في ميزان سعد الدين الشاذلي! لأن الشاذلي والسيسي عسكر واحد!!

ثم إن كون الطبيب الخاص لصلاح الدين يهودي، موسى بن ميمون، إنما هو أمر سجله المؤرخون باعتباره دليلا على التسامح الديني للسلطان الناصر، أن تشمل رعايته فيلسوفا متدينا يهوديا طبيبا، فلا هو يضطهده أو يجبره على الإسلام، هذا مع أن موسى بن ميمون كان شر صاحب وقرين، وأظهر حقدا يهوديا على السلطان الناصر لكن ليس هذا موضع تناوله.. فأين ما يطعن في صلاح الدين ويجعله من أحقر شخصيات التاريخ في هذا؟!!

كذلك فإن إبرامه معاهدة الصلح مع الصليبيين لتسليم بيت المقدس حفاظا على الكنائس التي هددوا بتخريبها.. في أي ميزان يكون هذا؟ في ميزان حسنات السلطان الناصر، أم في ميزان سيئاته؟! أين يستحق أن يوضع الرجل الذي فضَّل أن يحفظ آثار المدينة المقدسة، كنائسها ومساجدها، فضلا عن أرواح أهلها، وهو قادر بالميزان العسكري على أخذها حربا واستباحة أرواح المقاتلين؟!

وهكذا من بين سبعة أمور ساقها زيدان للتدليل على "حقارة" صلاح الدين، نجد اثنين من مناقبه وفضائله، وواحدة لا علاقة له بها ولا تُحسب عليه.

وصدق الشاعر لما قال:
إذا حسناتي اللاتي أدل بها .. كن ذنوبا، فقل لي كيف أعتذر؟

هذا أول التدليس.. وبقي أن نرى البقية..

(1) من أحقر الشخصيات في التاريخ!!

دعنا نفترض أن كل ما قاله يوسف زيدان عن صلاح الدين صحيح، وأن صلاح الدين قد اقترف هذه الخطايا.. هل يكون هذا مسوغا ليوصف بهذا الوصف البشع الشنيع: من أحقر الشخصيات في التاريخ الإنساني؟!

هذا السلطان الذي حافظ على مصر مرتين من احتلال صليبي، وأعاد وحدة مصر والشام، وأعاد اجتماع الأمة في مصر والشام فضلا عن أنحاء في ليبيا واليمن تحت راية خلافة واحدة، وحصَّن القاهرة وبنى قلعتها ليحفظها من الأطماع الصليبية، وحرر بيت المقدس بعد تسعين سنة، وأقام الدولة الأيوبية التي كانت واحدة من أعظم الفترات التي مرَّت على مصر في اتساع المساحة وقوة السلطان ونفوذ الكلمة بعد أن استلمها من العبيديين الفاطميين ضعيفة تغري باحتلالها وتضرب فيها الفوضى بالمعارك بين وزرائها مع ضعف خليفتهم العبيدي الفاطمي، ووقف بجيشه أمام جيوش أوروبا الرهيبة بقيادة ريتشارد قلب الأسد حتى عجزت أن تعيد احتلال بيت المقدس رغم الفارق الهائل في القوة.. إلى آخر ما نستطيع أن نسرده من إنجازات حفر بها الناصر اسمه في التاريخ!

هذا الرجل الذي فعل كل هذا يوصف بأنه من أحقر الشخصيات في التاريخ إذا أحرق مكتبة أو قسا في استئصال النظام القديم أو اضطر لفتح بيت المقدس سلما أو اتخذ طبيبا يهوديا؟!!

إذن كيف يحكم يوسف زيدان على شارلمان أو بسمارك أو نابليون أو الإسكندر إن كانت حساسيته المرفهة تجعل مثل أخطاء صلاح الدين كافية لإنزال صاحبها من مرتبة الأبطال إلى مرتبة "أحقر شخصيات التاريخ"؟!!

وبالمناسبة: أين يرى يوسف زيدان مكان السيسي بين شخصيات التاريخ؟!

(2) قصة عزل الفاطميين

ذكر يوسف زيدان أن صلاح الدين عزل رجال الفاطميين عن النساء لينقرض نسلهم.. وقد وردت هذه الرواية عند عامة المؤرخين، وفي الأمر تفصيل يجب التنبه إليه:

بداية فإن سيرة الثورات والانقلابات في أعدائهم من النظام القديم هي في العادة سيرة القتل، وذلك لضمان ألا تنقلب الفلول مرة أخرى على الوضع الجديد، إلا أن صلاح الدين لم يتتبعهم بالقتل، وإنما عزل أهل الخليفة العاضد في بيت خارج القصر مع ما يكفيهم من النفقة والطعام والكسوة، ثم عزل بقية الفاطميين في ناحية من القصر.. ثم إنه باع وأعتق العبيد والجواري (كما فعل في بقية كنوز القصر المتكدس بالأموال والكنوز)، ومن أولئك العبيد من كان حرًّا واستُعبِد ظلما.

هذا هو الإجراء الظاهر الواضح الذي تتفق عليه الروايات.. وهو إجراء يشبه السجن في أيامنا هذه، إلا أنه سجن في قصر!!

وأما القول بأن الغرض هو منع نسلهم فلا يمكن قبوله إلا أن يكون صلاح الدين أو أحدا من حاشيته قد صرَّح بهذا الغرض، وإلا فهو استنتاج من المؤرخ، واستنتاج المؤرخ هذا قابل للنقض أو الرفض، ونجد من المستبعد أن يكون هذا هدف صلاح الدين، إذ الأسهل عليه أن يقتلهم وقد كان هذا بإمكانه، وهو كما ذكرنا سيرة النظام الجديد مع أركان النظام القديم، لا سيما وأن غرض قطع النسل هذا يحتاج زمنا طويلا لضمان نجاحه، وهو أمر مرهق على السلطة أن تتحمل تكاليفه وتكاليف متابعته، خصوصا وأنه لا يُنقل في مراحل متعاقبة شيء عن متابعة هؤلاء أو مصيرهم رغم ما حصل من اضطرابات بالدولة الأيوبية. والفكرة نفسها لا تبدو طبيعية أن يُسجن جميع رجال الأسرة الحاكمة في ناحية من نواحي القصر لمدة طويلة!!

أما حيث لم يقتلهم وإنما سجنهم في ناحية من القصر، وأخرج أهل العاضد –الخليفة الأخير الراحل- إلى خارج القصر، فأقرب التفسيرات أن هذا إنما هو إجراء أمني، وقد بدأت بوادر هذه الإجراءات من قبل موت الخليفة العاضد بعدما اكتشف أن جوهر مؤتمن دار الخلافة (رئيس ديوان الرئاسة بمصطلح العصر) راسل الفرنجة لغزو مصر، فعندئذ بدأ صلاح الدين في فرض رقابة على ما يدخل وما يخرج من القصر. وتكررت محاولتان كبريان على الأقل للانقلاب على صلاح الدين من مراكز قوى في العسكر العبيدي، فكان طبيعيا في تلك الأحوال أن تتخذ مثل هذه الإجراءات.

لذلك فعامة المؤرخين المحدثين من المسلمين والغربيين لا ينقلون هذا الغرض "قطع النسل" وإنما ينحازون لكونه إجراءا أمنيا على عادة ما تجري به الثورات والانقلابات في أنظمة الحكم.

والغريب أن بعض المؤرخين يصرح بأن هذه الدولة كان أسهل الدول في الانقضاء والانتهاء بغير مذابح أو دماء كثيرة وبغير فوضى واضطراب واسع، يقول ابن مماتي: "لم تشهد التواريخ بانقضاء دولة كانقضاء دولتهم على حالة سكون وأحمد قضية تكون" (نقلا عن: مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري 24/105 ط العلمية)، ويقول ابن الأثير: "فلم يتنطح فيها عنزان" (الكامل 10/34 ط العلمية)، ويقول كارل بروكلمان "ومع أن صلاح الدين لم يصطنع القوة في كبت النفوذ الشيعي فقد خسر الشيعة سنادهم الطبيعي بسقوط الدولة الفاطمية" (تاريخ الشعوب الإسلامية ص352، 353 ط دار العلم للملايين).

ثم نعود فنقول: فلو صدقت هذه الرواية بكل تفاصيلها فإنما يكون صلاح الدين قد حكم على رجالهم بالسجن مدى الحياة (بلغتنا المعاصرة)، فلو كان هذا الحال هو ما دعى يوسف زيدان إلى وصفه بأنه من أحقر شخصيات التاريخ، فما يقول الأديب المرهف المثقف الحساس في رجل قتل الآلاف في الشوارع، وسجن الرجال والنساء في زنازين حقيرة تجذب الأمراض (لا في قصر الخلافة كما فعل صلاح الدين)، وأعطى الإعدامات بالمئات والمؤبدات بمئات السنين، مع حساب مفتوح من التعذيب الرهيب ومن التصفيات الجسدية المستمرة منذ أربع سنوات؟!

ثم هو بعد ذلك من أركان الحكم (الصليبي، الصهيوني) في مصر، لا يفكر في تحرير ولا بقطمير؟! أين نضع هذا في جملة الشخصيات الحقيرة في التاريخ؟

(3) حرق دار الحكمة

وأما قصة حرقه مكتبة دار الحكمة ففيها تفصيل ينبغي أن يُقال:

أولا: ثمة فارق مهم لا ينتبه له الأكثرون في أيامنا لأننا نعيش في ظلال الدولة العلمانية والأفكار العلمانية، الفارق بين الدولة الإسلامية والدولة العلمانية أن الأولى دولة تقوم وتستمد شرعيتها من الدين، ونظام حكمها يقيم الدين، وعلماؤها يعرفون مهمة الخليفة على أنها "حراسة الدين وسياسة الدنيا به"، ولذلك فالنظام الإسلامي حساس تجاه ما يخدش الدين أو يطعن فيه أو يسيئ إليه، ومسألة حرق الكتب التي فيها كفر أو فُحْش أو زندقة ليست مما يُستنكر في وجدان المسلمين عموما.

أما الدولة العلمانية فهي تقوم على أساس مادي، وتستمد شرعيتها من الإنجاز المادي كالرفاهية والأمن والرخاء والاقتصاد، ولذلك ليست لديها حساسية تجاه عبادات الناس أو أخلاقهم أو أديانهم، الحساسية كلها تخص ما يمس الدولة.. فلا بأس لديها بشرب الخمر طالما أنها تُشرب في غير أوقات العمل أو طالما لم تُشرب في لحظة قيادة السيارة (لا للحفاظ على صحة النفس بل خشية من الحوادث) ولا بأس بفتح دور ممارسة الزنا طالما ستلتزم بأداء الضرائب.. أما مسألة كحيازة السلاح أو تشكيل تنظيم أو تكوين جماعة أو الدعوة إلى ما يخالف نظامها (كالدعوة إلى الملكية في بلد نظامها جمهوري أو العكس) أو إهانة العلم أو الدستور، فهنا تعمل الحاسة الأمنية وتتحرك القوات لإجهاض هذا.

فبداية يجب أن نفهم أن كتابة ما فيه كفر وفحش وزندقة في النظام الإسلامي يُشبه تكوين ميليشيا مسلحة في النظام العلماني.. الأمور الجوهرية التي ينبني عليها نظام الدولة لا تسمح السلطة فيها بالحرية! هذا من حيث المبدأ، وأما من حيث التطبيق فتاريخ التسامح الإسلامي مع الأفكار المخالفة أوسع بكثير ولا يُقارن بتاريخ التسامح الأوروبي العلماني مع التنظيمات المخالفة!

وهكذا، فمن حيث المبدأ، لن تجد كثير اعتراض لدى المسلمين في مسألة حرق الكتب الفاسدة أو الفاحشة.

ثانيا: أما القصة نفسها فقد كذب يوسف زيدان في نقلها، أو لعله نقلها من مصدر شيعي فلم يراجع كذبته فاعتنقها كما هي.

تقول الرواية الزيدانية بأن صلاح الدين جاء إلى المكتبة التي تحوي نفائس المؤلفات فأحرقها وجعلها رمادا، خوفا مما فيها من أفكار الشيعة، وهكذا خسرت مصر علوما وتراثا هائلا.

بينما الرواية التي نقلتها كتب التاريخ على نحو آخر:

فالمكتبة كانت فعلا من عجائب الزمان، وتحتوي على مئات آلاف الكتب، لكن هذه الكتب لم تكن شيعية بل كانت تلك مكتبة جامعة، ولا يملأ التراث الشيعي لا سيما في هذا الوقت المبكر مئات الآلاف من المجلدات، بل تذكر الروايات أن فيها نسخا عديدة من تاريخ الطبري ومن غيره.

ثم إن صلاح الدين لم يحرقها، وإنما أنهى عمل المكتبة التي تمثل صرحا ثقافيا وروحيا من تراث النظام القديم، أما الكتب التي فيها، فقد وُزِّعت فحمل بعضها إلى الشام (وكانت مصر والشام وقتها دولة واحدة، يعني كأننا نقلنا محتويات من مكتبة الإسكندرية إلى أسوان.. لن يكون هذا إهدارا لثروة ولا تراث، بل إعادة توزيع) ووزع بعضها على العلماء والقضاة، فأخذ منها القاضي الفاضل كثيرا من الكتب فكانت نواة مكتبة المدرسة الفاضلية، واشترى منها الوزير أبو الفرج المغربي (خطط المقريزي 2/290 وما بعدها ط العلمية) والعماد الأصفهاني (الروضتين 2/212 ت: الزيبق ط الرسالة) وبيعت بقية الكتب.

فلم يكن الأمر إحراقا، ولو جرى حرق لكان أولى المؤرخين بذكره ابن أبي طيئ الشيعي أو حتى المقريزي، وهما ممن تؤخذ عنهم الروايات المناهضة لصلاح الدين.. إنما كان الأمر كما ذكرنا هدما لصرح روحي ثقافي فكري للنظام القديم.. تماما كما أزيل اسم سوزان مبارك وصورتها وكلامها عن إصدارات مكتبة الأسرة بعد ثورة يناير، أو أزيل اسم مبارك عن المكتبة المسماة باسمه.. لم يكن الأمر متعلقا بالكتب، وإنما بالنظام السياسي القائم ومحاربته لرموز وصروح النظام القديم.

وأما الذي ذُكِر من الحرق الذي ناله بعض الكتب فقد نقله المقريزي عن عبيد جهلة وصلت إليهم الكتب ولم يعرفوا إلا أنها خرجت من قصر السلطان، فما أتلفوه أو أحرقوه منها إنما كان ظنا منهم بأنها كتب زندقة وكفر.

والمثير أن كلام يوسف زيدان يوحي بأن المكتبة كانت مكتبة عامة مفتوحة للجميع، بينما الواقع أنها –كما في وصف المقريزي- كانت مكتبة خاصة في قصر الخلافة، أي لم يكن الذي فيها من الكتب إلا كمثل المتحف الذي يجمع النوادر من المقتنيات، بينما لم ينتفع بها الناس.. بل ما فعله صلاح الدين من بيعها وتوزيعها وتأسيس مكتبات بأجزاء منها إنما هو الذي خدم العلم ونشره.. وقد فعل ذلك في بقية كنوز قصر الخلافة التي جُمِعت بأموال الناس وكُدِّست وكُوِّمت، فلما استولى عليها صار يهدي منها ويبيع، كما كان سيفعل أي نظام حكم مخلص في تفريق أموال وكنوز النظام البائد على ما ينفع الناس ويخدم البلد.

على أن يوسف زيدان وغيره من المتعاطفين مع الدولة العبيدية (الفاطمية) لا يذكرون أبدا لا على سبيل الذكر ولا على سبيل الإنكار أن الفاطميين أتلفوا كتبا لأهل السنة، ومن ذلك سبعة قناطير كتب ألفها أبي محمد بن أبي هاشم التجيبي، وتشير عبارة الرواية على أنها كانت عادة لسلاطينهم (انظر: رياض النفوس 2/423، ت: البكوش والعروسي ط دار الغرب)، وحرموا الإفتاء على مذهب مالك وعاقبوا من يفعل، هذا فضلا عن منعهم تدريس مذهب السنة في المساجد، حتى صارت كتبهم لا تُقرأ إلا في البيوت، وغير ذلك مما هو مشهور ولا يتسع له المقام.

فهل وصف زيدان أحدا من الفاطميين بأنه من أحقر شخصيات التاريخ؟!!

إلا أن حسرة زيدان، وأمثاله من العلمانيين على الكتب، تجعلنا نسأل في المقابل: لماذا لا نرى العلمانيين يعارضون منع الحكام الآن نشر أفكار وكتب المناهضين لحكوماتهم؟ هل تتسع الحرية الفكرية التي يبكي عليها يوسف زيدان لأن يُسمح في مصر بطباعة كتب داعش أو تنظيم القاعدة؟! هل ضُبِط يوسف زيدان أو أي علماني آخر بالدعوة لحرية نشر كتب الظواهري أو أبي مصعب السوري أو سيد إمام أو غيرهم؟!!

الواقع أن السلطات المصرية أحرقت بالفعل، وأمام الشاشات، وفي ساحات المدارس، كتب المنتسبين إلى الاعتدال كالغزالي والقرضاوي فضلا عن سيد قطب وبقية مشايخ الإخوان، بل إن الحملة العلمانية الآن تطالب بحرق كتب التراث الفقهية التي تمثل مصدرا معرفيا تاريخيا وقانونيا فضلا عن قيمتها الدينية.. ومع هذا فالعلمانيون يعتبرون هذا من إجراءات مكافحة الإرهاب والتطرف!

(4) اضطراره لتحرير بيت المقدس لأن أخته أُسِرت

يحاول زيدان أن يطعن في صلاح الدين بأن يجعل تحريره لبيت المقدس إنما كان لغضب شخصي لا لأنها مهمة دينية مقدسة، فجاء بما يضحك، وكم في مصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكا.

فلو أن صلاح الدين حرر القدس إنقاذا لأخته فلنعم الأخت هي على الأمة وعلى المسلمين، قد كانت طريقا لتحرير المدينة المقدسة، ولا يُلام الرجل إن غضب لعرضه فشنَّ حربا، فكذلك يفعل الأحرار ذووا المروءة والنجدة لا المخانيث الذين يحكموننا الآن فيهتكون أعراض نساء البلاد بأنفسهم، ولا تهز فيهم انتهاكات أعراض المسلمات شعرة!

لكن الواقع أن المسألة لو كانت مسألة أخته، فما أسهل أن يهدد صلاح الدين بحرب فيطلقونها له تجنبا لحرب لا يطيقونها، لا سيما والوقت كان حينئذ وقت هدنة قبل أن يخرقها إرناط، وأغلب الظن أن يوسف زيدان أخذ هذه القصة من فيلم "مملكة الجنة"، حيث ورد فيه هذه القصة.

والحقيقة أن ست الشام (أخت صلاح الدين) لم تؤسر، ولو أُسِرت لكان الخبر مشهورا ذائعا في كتب التاريخ، إلا أن ذلك لم يكن، وإنما الذي ورد أن قافلة كانت فيها ست الشام خرج لها جيش لحمايتها من غارة متوقعة لإرناط، وقد تم الأمر ومضت القافلة بسلام!

إن مجرد سوق هذا السبب في تفسير تحرير صلاح الدين لبيت المقدس إنما يدل على حقد عميق في نفس صاحبه، إذ إن سيرة صلاح الدين منذ أولها إلى آخرها هي سيرة مجاهد يضع القدس صوب عينيه، عاش لهذا المشروع أبوه من قبله حين كان قائدا لعماد الدين زنكي ثم لنور الدين، وفي الجهاد ضد الصليبيين مات أخوه، وكانت أسرته عماد الدولة الزنكية وعصبتها العسكرية، ولهذا جاءوا إلى مصر، ولهذا انطلقوا إلى بيت المقدس، ولهذا واجهوا الحملة الثالثة وأعجزوها عن إعادة احتلال القدس!

ألا صدق المتنبي:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص .. فهي الشهادة لي بأني كامل

(5) تفسير ما يناقض ذلك

لو أن الأمر مجرد بحث علمي نزيه لوجد يوسف زيدان نفسه مضطرا قبل أن يُصدر هذا الوصف القبيح أن يُفَسِّر ما يناقض هذا الوصف مما اشتهر به صلاح الدين.

لقد اشتهر صلاح الدين شهرة واسعة بالأخلاق والنبل والفروسية، وقبل أشهر كنت أقدم ورقة علمية عن "مدح المستشرقين والمؤرخين الغربيين للسلطان الناصر صلاح الدين" في مؤتمر علمي عن صلاح الدين عقدته جامعة سييرت التركية، فاستطعت أن أجمع من أقوالهم بغير مجهود كبير ما لو قيل بعض بعضه من قِبَل مسلمين لاتُّهم بالتعصب والتطرف!

(راجع هذه المقالات الأربعة ففيها خلاصة الورقة: الأول، الثاني، الثالث، الرابع)

لقد بلغت شهرة صلاح الدين في التاريخ مبلغا عظيما لأن الآراء قد أجمعت على أنه أنبل من اشترك في الحروب الصليبية كما قال ول ديورانت، وهو الذي كانت أخلاقه قد سحرت الكثير من الفرسان الصليبيين فأسلموا وتركوا دينهم كما قال توماس أرنولد، إلا أنه عند مثقفي نكبتنا وخيبتنا "من أحقر شخصيات التاريخ"!!

لو كان الأمر علما حقا لاجتهد أن يفسر يوسف زيدان كيف ظهرت من كل صلاح الدين هذه الأخلاق، وهو الحقير الموغل في الحقارة، وكيف شملت أخلاقه الأقليات غير المسلمة تحت حكمه بل وشملت أعداءه الصليبيين، وكيف شملت رعايته –إن كان يكره العلم ويحرق الكتب- العلماء ورفعه لمقامهم واستعانته بهم والجلوس إليهم.

ثم لا بد أن يخرج بتفسير يمكنه الصمود أمام الرسوخ التاريخي لحقيقة ومكانة صلاح الدين والتي هي موضع اتفاق بين المؤرخين، حتى إن بعض الغربيين اصطنع له نسبا في المسيحية، فادعى أن أمه مسيحية أو أنه اعتنق المسيحية عند موته، ووضعه دانتي مع فضلا الكفار في جحيم الكوميديا الإلهية.. فهل يستطيع زيدان أن يفعل؟!

لو استطاع المهرج أن يلمس الشمس لاستطاع مثل زيدان الخروج بتفسير يدعم حكمه الساقط هذا!

ولا أجد ختاما خيرا من وصف القاضي ابن شداد وهو يتحدث عن يوم وفاة صلاح الدين، فيقول: "كان يوماً لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله منذ فقدوا الخلفاء الراشدين وغشي القلعة والبلد والدنيا من الوحشة ما لا يعلمه إلا الله تعالى. وتالله لقد كنت أسمع من بعض الناس أنهم يتمنون فِدَاء من يعزُّ عليهم بنفوسهم، فكنت أحمل ذلك على ضرب من التجوز والترخص إلى ذلك اليوم، فإني علمت من نفسى ومن غيري أنّه لو قُبِلَ الفداء لفُدِىَ بالنفس" (النوادر ص364 ت: الشيال ط الخانجي).

ترى هل يرضى يوسف زيدان أن يفدي السيسي بنفسه؟!!


اقرأ: معركة قديمة مع يوسف زيدان (هنا ثم هنا)